“التوازن البيئى” في العلاقات الدولية والإقليمية وأيضا الإعلام…

02:19 مساءً الخميس 19 أكتوبر 2023
جلال نصار

جلال نصار

رئيس تحرير جريدة الأهرام ويكلي (سابقا)، مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

“التوازن البيئى فى السياسة والإعلام” من أكثر المصطلحات التى استخدمها فى الكتابة و منهج خاص بى فى التحليل بل أستطيع الإدعاء بأننى من صك المصطلح إيمانا بأن توازن المشهد و طبيعيته – بكل تناقضاته – هى التى تساهم فى ثبات إيقاع الحركة للامام مع الحفاظ على الأحجام و الأوزان النسبية لمكونات النظام البيئى؛ وأن التدخل غير المدروس فى العديد من الملفات والقضايا من خلال محاولة هندسة المشهد وترتيبه وإعادة هيكلته وفق رؤية تخالف الواقع والمعطيات و المفروض تفسده و تقودنا إلى المجهول و يتوالى الفشل وا لإحباط؛ وكل ما نعانى منه فى حياتنا داخليا و خارجيا هو نتيجة مباشرة لفشل فى هندسة المشهد… والأفضل دائما هو أن يكون لديك الإحترافية الكافية لإدارة المشهد و كل تطوراته بالطريقة التى تخدم مصالحك أولا و أن لا تطغى على مصالح الأخرين كى تحافظ على المرونة ومساحات الحركة المطلوبة…

… [… أكاديميا فى مجال البيئة يعرف التوازن البيئى أو توازن الطبيعة على أنه بقاء مكونات وعناصر البيئة الطبيعية على حالتها.

العلاقة متكاملة بين جميع عناصر البيئة فأشعة الشمس والنبات والحيوان والبلد والإنسان وبعض مكونات الغلاف الغازي في إتزان مستمر، ومن هنا لا بد من الحديث عن بعض الدورات لبعض المواد حيث تدخل وتسرى في المكونات الحياتية والطبيعية ثم ما تلبث أن تعود إلى شكلها الأصلى .

للمحافظه على تعريف التوازن البيئى يجب المحافظة على العلاقة بين مكونات البيئة حيث هناك علاقة وثيقة بين العناصر الطبيعية والحياتية الموجودة حول وداخل سطح الكرة الأرضية ومكوناتها المختلفة، تبرز من خلال علاقات وارتباطات وظيفية معقدة ترتبط جميعها بما يسمى بالنظام البيئى، فالنظام البيئى يعرف على أنه التفاعل المنظم والمستمر بين عناصر البيئة الحية وغير الحية، وما يولده هذا التفاعل من توازن بين عناصر البيئة، أما التوازن البيئي فمعناه قدرة البيئة الطبيعية على إعالة الحياة على سطح الأرض دون مشكلات أو مخاطر تمس الحياة البشرية .

ولعل التوازن البيئي على سطح الكرة الأرضية ما هو إلا جزء من التوازن الدقيق في نظام الكون، وهذا يعني أن عناصر البيئة تحافظ على وجودها ونسبها كما أوجدها الله، ولكن الإنسان بلغ في تأثيره على بيئته مراحل تنذر بالخطر، إذ تجاوز في بعض الأحوال قدرة النظام البيئي الطبيعي على احتمال هذه التغيرات، وإحداث اختلالات بيئية تكاد تهدد حياة الإنسان وبقائه على سطح الأرض…]…

فى السياسة كما فى الإعلام من المهم أن تدار الملفات والقضايا بإحترافية تحافظ على كل مكونات البيئة و المناخ الذى تعمل فيه المنظومة بكل إختلافاتها وتضادها وعدائياتها وأن تكون لديك القدرة على التعامل بحرفية مع كل التطورات مثلما تفعل فى أحيان عديدة الولايات المتحدة الأمريكية فى تحويل دفة كل الأمور لصالحها قدر الإمكان وتوظيف كل عناصر البيئة الدولية بما فيها إدارة دول صديقة و معادية و جماعات مسلحة عقائدية و إرهابية وعصابات و كوارث طبيعية وبشرية…

و فى أزمتنا الحالية و أمام ما يحدث من تطورات خطيرة و مصيرية من جراء الحرب الإسرائيلية البربرية على غزة لا يجب أن نقف عند الجدل بشأن ما فعلته حماس وبقية فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة “المشروعة دوليا” و هل كان يستحق ام لا وعلينا التعامل مع النتائج و توظيف ما حدث لصالحنا و خدمة لامننا القومى وإفساد و إسقاط مخططات كانت قائمة قبل عملية “طوفان الأقصى” و ستستمر من بعدها…

مصر كدولة كبيرة فى المنطقة وأكبر دولة عربية لديها مسئوليات وواجبات و دوريحتم عليها التعامل مع كل عناصر البيئة الإقليمية والدولية من دول وجماعات وهيئات ومنظمات… أعداء ومنافسين وأصدقاء وأشقاء خاصة فى دول الجوار الجغرافى المتاخمة للحدود المصرية شرقا وغربا وشمالا وجنوبا مع إعلان أن مصر الرسمية لا تتعامل مع مليشيات او ما يطلق عليه معارضة مسلحة و هو ما لايمنع من وجود قنوات تواصل خلفية لخدمة الدور والمصلحة وقت الأزمة مع موقف مبدئى حازم وصارم فى السر و فى العلن من الجماعات الإرهابية…

وفى ازمتنا الوجودية الحالية أرى – من وجهة نظر شخصية – أن دولة الإحتلال الإسرائيلى يجب أن تدفع ثمن إحتلالها للأراضى العربية والفلسطينية وأن لا يكون إحتلالها مريح لها و لشعبها و لجيشها خاصة مع غياب الحل السلمى وغياب المبادرات وفشل كل المسارات الموازية والاتفاقيات واللقاءات على مدار 50 عاما ولم نرى أى بارقة أمل فى أى لحظة لحل الدولتين أو حتى فى ما طرح من حل الدولة الواحدة أو أى حل أخر أو بدائل أخرى وما كان مطروح قبل 7 أكتوبر 2023 على مائدة الشعب الفلسطينى هو إستمرار الحصار والاحتلال والتوسع فى المستوطنات وتوحش المستوطنين… فهل كانت هناك بدائل مطروحة رفضها الشعب الفلسطينى قبل هذا الموعد؟ وما هى البدائل لنزع سلاح المقاومة والتوقف عن أى عمليات تستفز “الغول الإسرائيلى” كما وصفها إعلامى مشهور؟… وهل الصدمة والإحساس بعدم الأمان والإستقرار والخوف داخل المجتمع الإسرائيلى من مواجهة جيوش حقيقة بتسليح أعلى من الفصائل ليس ثمن باهظ ومهم يصب فى صالح معادلة التوازن ويعرى هشاشة الدولة ومنظوماتها الأمنية والمعلوماتية والجاهزية العسكرية؟…

ليس من مصلحة مصر كما ذكرنا – من وجهة نظرى الشخصية – أن تخبو المقاومة المسلحة و أن تسيطر إسرائيل على كل الحدود المباشرة مع مصر؛ و ما حدث فى غزة وما سيحدث فى الأيام و الأسابيع المقبلة جنبنا و إلى حين سيناريو يفرض علينا الحرب والغضب الشعبى حال وصول سيناريوهات اليمين المتطرف لافعال و إنتهاكات تهدد بتدمير المسجد الأقصى مع زيادة وتيرة الإستفزازات و كل ما كانت تبثه القناة الثانية عشر الإسرائيلية على مدار شهور سبقت “طوفان الأقصى” كانت تصب فى هذا الطريق و المواجهة كانت حتمية و لا يستطيع أى نظام وحاكم عربى أو إسلامى أن يمنعها… وليس من مصلحة مصر أن يصدر عنها أو عن إعلامها إدانة أو إسقاط لورقة المقاومة المسلحة للإحتلال والتى أقرها وشرعها القانون الدولى ولا ان يصف علمياتها بالإرهابية طالما وجه السلاح صوب المحتل خاصة أن البعض يتطوع بقول ذلك دون أن يطلب منه و إلا ما الذى يجبر المحتل على التفاوض إذا كان المعلن هو خيارنا السلمى الإستراتيجى وفقط…

ولكن دور مصر وأشقاءها الحقيقى والفاعل هو العمل على و ضمان أن لا تخرج وتنحرف المقاومة عن أطارها العربى، وأن لا تعمل لخدمة أجندة دول لها مصالح وصراعات تستخدم فيها المقاومة كورقة ضغط فى مفاوضتها أو مساوماتها مع القوى الدولية والإقليمية؛ وهذا يتطلب أن يتم دعم المقاومة على الأقل معنويا وأن يترك لها حرية ترتيب أولوياتها فى هذا الأطار العربى، وأن تحافظ مصر والأشقاء على وجود تلك المساحة من حرية الحركة كى لا تحسب عليها أو تحسب تبعات سياسات الدول العربية على المقاومة…

مصلحة مصر أن تحافظ على علاقات قوية ومتينة مع كل الأصدقاء والأشقاء فى المنطقة وأن تعمق تلك العلاقات وتتجنب أن تصل إلى مرحلة التنافس الذى لا يخدم مصلحة الطرفين؛ ومصلحة مصر أن يكون لها علاقات لن أقول تطبيعية متساهلة و لكن برجماتية تفرضها المصلحة مع أطراف إقليمية فاعلة و لها أذرع كى تتمكن مصر من لعب دور فى الأزمات الإقليمية و سيناريوهات التصعيد و المواجهة وأن يكون لمصر مقعد دائم على طاولة المفاوضات فى كل أزمات الإقليم لتجنب نفسها وتجنب الأشقاء والأصدقاء سيناريوهات تهدد أمنهم ومصالحهم فى المنطقة؛ وأن تبادر مصر بأن تقود حوار عربى جماعى مع أطراف تاريخية فاعلة فى الإقليم مثل إيران و تركيا…

وربما لاحقا يجب على مصر وأشقاءها التعاون مع تلك الأطراف الإقليمية والشروع فى بحث إمكانية قيام نظام إقليمى “منظمة تعاون إقليمى” على غرار منظمات التعاون الإقليمى فى عدد من المناطق فى العالم لتسد ثغرة تريدها الدول الفاعلة فى التعامل مع دول الإقليم كل على حدى مع إزكاء حالة الصراع والصدام والإستقطاب ولا ترغب فى التعامل مع رؤية إقليمية وأقطاب إقليميين تجمعهم رؤية أمنية وإقتصادية وسياسية واحدة…

هذا ينقلنا إلى زاوية أخرى فى التحليل وهى “التوازن البيئى فى الإعلام والصحافة المصرية” التى تحافظ على التنوع والإختلاف فى الرؤى وتحفظ الإستقرار و تحتوى الجميع و تعبر عن كل قطاعات المجتمع و همومه و قضاياه و تقوى الجبهة الداخلية و تزيد الإنتماء و الولاء و المشاركة و تجعل منها نواة صلبة أمام عواصف الإقليم؛ و الحرفية والقدرة هى على توظيف ذلك الإختلاف والتنوع فى إدارة ملفاتنا الخارجية كما فعلت وتفعل إسرائيل وأثيوبيا وربما تركيا التى تمنح نفسها مساحات مناورة بحجة إرضاء الرأى العام والمعارضة وتمرير السياسات والاتفاقيات، والتجربة أثبتت أن تنميط السياسات التحريرية فى الإعلام والصحافة و محاولات هندسة المشهد والسيطرة عليه وفرض وجوه ورؤى ونظرة أحادية وسياق محدد تفقد مصر أهم سلاح فى معركة الوعى ومعاركها وصراعاتها الخارجية والإقليمية إلى درجة تضر الأمن القومى المصرى بصورة مباشرة…

إذا و ختاما و الخلاصة؛ أ ب السياسة والإعلام أن نبنى على ما لدينا من معطيات حتى و لو كانت مفروضة علينا و إدارة الدفة بالطريقة التى تخدم مصالحنا و أن نكف عن توزيع الإتهامات و نغرق فى الأسباب و المسئوليات و نتوحد امام مشهد يبدو مرعب لو تحققت أى نسبة من أهداف العدو الدائم؛ و أن ندرك أن إدارة المعادلات فى السياسة والإعلام والصحافة على أساس صفرى يتبعها فشل و تخلى عن مساحات ما كان يجب التخلى عنها لصالح الغير؛ وأن كل مكونات النظام البيئى حتى التى قد تبدو ضارة فى السياسة و الإعلام مهمة فى إحداث التوازن المطلوب و ما على مصر إلا الحرفية والمهارة و اليقظة فى توظيف تلك التناقضات و التنوع لصالحها لا أن تنضم إلى معسكرات الولولة والإدانة… وأن نسقط من قاموسنا عقيدة وفكرة أن كل شىء قابل للهندسة على مقاسنا…

و النبى و النبى كفاية هندسة و مشوها طبيعية و خلوها حلوة يا جدعان…

جلال نصار…

القاهرة: 19 أكتوبر 2023م

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات