الصورة في زمن الحرب…

02:18 مساءً الإثنين 23 أكتوبر 2023
جلال نصار

جلال نصار

رئيس تحرير جريدة الأهرام ويكلي (سابقا)، مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

بداية وكالعادة خلينى أصدمك بعدد من الحقائق على الأرض؛ أولا: يجب التأكيد والإشارة إلى أن عدد وحجم المظاهرات التى خرجت فى العواصم الغربية والعالمية والداعمة للحق الفلسطينى وللتضامن مع المأساة الإنسانية التى يعيشها قطاع غزة المحتل أكبر من تلك التى خرجت فى الدول والعواصم العربية وأكبر ولا تقارن بتلك التى خرجت لدعم إسرائيل فى ما تدعيه “بالدفاع عن النفس”؛ وان القضية الفلسطينية مازالت تشغل حيزا كبيرا فى ضمير الرأى العام الدولى على مستوى الشعوب بغض النظر عن مواقف الحكومات والأنظمة التى تتضامن مع إسرائيل وأفعالها وتتستر وتصمت عن جرائمها بفضل السيطرة على الإقتصاد والسياسة وتشابك المصالح وإحترافية ممارسة الضغوط التى تضرب العصب الرئيسى من قبل دولة الإحتلال الإسرائيلى… و هو ما يضع أيدينا على بعض من أوجه القصور فى الحفاظ على هذا الرصيد و التراكم و التضامن و إستخدامه للضغط من خلال القدرة على تجسيد المأساة وإستخدام كل أدوات التأثير من صورة وفيديو و كلمة على كافة وسائل التواصل البشرى التقليدية و الإلكترونية و الإجتماعية…

ثانيا: لا جديد فى مواقف الدول الأوروبية والولايات المتحدة من الجرائم ضد الإنسانية وإستهداف المدنيين و الحصار و التجويع و إنتهاك السيادة و التغاضى عن نصوص القانون الدولى و القانون الدولى الإنسانى و أتفاقيات جنيف الأربع فضلا عن التدخل فى شئون الدول العربية بشكل سافر أشبه بالوصاية… و الدهشة هى من الذهنية العربية التى كانت تتوقع غير ذلك مع إندلاع الحرب على غزة… ولعل قصة قصف ملجأ العامرية فى بغداد؛ العراق أثناء حرب الخليج الثانية أكبر دليل على تلك المواقف…

ففى 13 فبراير سنة 1991 قامت الطائرات الأمريكية بقصف الملجأ الذى يقع بحى العامرية غرب العاصمة بغداد بقنابل توصف بأنها “ذكية” مما أدى إلى تدمير الملجأ وأدى القصف إلى إستشهاد 400 مدنى عراقى معظمهم من النساء والأطفال. وقد بررت قوات التحالف المهاجمة هذا القصف بانه كان يستهدف مراكز قيادية عراقية لكن أثبتت الأحداث أن تدمير الملجأ كان متعمدًا خاصة وأن الطائرات الأمريكية ظلت تحوم فوقه لمدة يومين؛ هذا الملجأ أخذ اسمه من الحي الذي يقع فيه بين البيوت السكنية، بجوار مسجد ومدرسة ابتدائية، إنه ملجأ مجهز للتحصن ضد الضربات الكتلوية أي الضربات بالأسلحة غير التقليدية الكيماوية أو الجرثومية، وكان محكم ضد الإشعاع الذرى والنووى والتلوث الجوى بهذه الإشعاعات. وكان توقيت القصف فى الرابعة والنصف فجرا حين أستطاعت القنابل “الذكية” النفاذ إلى الطابق الأرضى حيث ينام الملتجئون فى أمان نسبى وتسبب القصف “الذكى” فى إنفجار وحريق كبير أدى إلى غلق الأبواب فلا يدخل منجد ولا يخرج طالب نجاة؛ ولقد صممت جدران الملجأ لتعزل من هم بالداخل من أى انفجار، ولكنها حبستهم في داخل الملجأ ليلقوا حتفهم بالموت حرقا.

لقى أربعمائة وثمانية أشخاص حتفهم في حادثة التفجير، ومن بينهم مائتان وإحدى وستون امرأة، واثنان وخمسون طفلا رضيعا، وكان أصغرهم طفل عمره سبعة أيام، لم يتم ايجاد أي أثر له ولا صورة، إضافة إلى 26 مواطناً عربياً… ورغم بشاعة المأساة إلا أن أحد لم يعاقب أو يقدم للمحاكمة وظل الصمت الرسمى الدول من بعض الأصوات التى طالبت بالتحقيق فى الحدث بينما خرجت المظاهرات الشعبية حول العالم تندد بالمذبحة…

ما أشبه مواقف اليوم بالبارحة والتى تخبرنا وتؤكد لنا مع كل حدث أن القواعد الأخلاقية والقيم الإنسانية وإحترام القانون والمواثيق والعهود أمور لا تنطبق إلا على المواطن الغربى والإسرائيلى – من وجهة نظرهم – أما بقية الجنسيات والشعوب فهى مسألة وجهة نظر يحكمها المصالح People vs Unpeople؛ و هو ما يقودنا إلى التعمد فى عدم تجسيد المأساة بالصورة التى تجعل منها مؤثرة و ضاغطة على القرار و الموقف الغربى و ذلك من خلال التحكم فى التغطية الإعلامية و تدفق المعلومات و الصورة و الفيديوهات و مؤخرا تقييد إنتشار و تأثير السوشيال ميديا و وسائل التواصل الإجتماعى إلى أن يتحقق الهدف غير المعلن من العمليات العسكرية على الأرض…

و الحقيقة أن الجدل حول نشر الصور و الفيديوهات التى تجسد حجم المأساة الإنسانية هو جدل مستمر بين المهنيين و الأكاديميين؛ فقد تعلمت و تعلم غير من الصحفيين والإعلاميين على أيدى أساتذة يفضلون عدم نشر صور العنف و الدم والجثث و الأشلاء البشرية حفاظا على حرمة الميت وعلى مشاعر القارىء والمشاهد وكان هذا هو التقليد ومازال فى كل مؤسساتنا العربية إلتزاما بتلك التقاليد التى وضعها بالأساس الغرب؛ وأتذكر الذى كان يدور بينى وبين أساتذتى فى جامعة ليدز البريطانية حول هذه القضية التى أراها جدلية وغير محسومة وشاركنى فى الرأى عدد من الطلاب الزملاء من دول خارج ما يعرف بــ “الحضارة الأوربية”… وهنا يجب التوقف لبعض سطور عن طبيعة دراستى ورسالتى للماجيستير فى معهد الإعلام الدولى بجامعة ليدز وكان تحت عنوان: “إدارة الأزمات والصراعات الدولية إعلاميا بالتطبيق على حرب الخليج الثانية والبوسنة والهرسك والصومال وكوسوفو”… وحظيت حرب الخليج الثانية بالنصيب الأكبر لان المعهد بفضل أستاذى والمشرف البروفيسور فيليب تايلور كانت تمتلك أكبر أرشيف صحفى وتليفزيونى عن الحرب (يشمل المعارك والمؤتمرات الصحفية وجلسات وإجتماعات الهيئات والمنظمات الأممية والدعاية والحرب النفسية… إلخ) حيث وجدت فى هذا الأرشيف ما كان قادرا على كشف زيف المعركة ومزاعم شن الحملة العسكرية التى طالت المدنيين ويجسد حجم الماساة الإنسانية والجرائم التى أرتكبت؛ ولكن تقاليد وأعراف نشر الصورة والفيديو التى أستخدمت وتم توظيفها لحماية الممارسات الأمريكية… هذا فضلا عن أساليب المناورة والخاداع التى كانت تمارس على الصحفيين فى المؤتمرات الصحفية اليومية التى كان يعقد قائد القوات الأمريكية فى الحرب الجنرال  هيربرت نورمان شوارزكوف ويعرض تلك الفيديوهات والخرائط للعمليات الحربية دون دم وكأنها لعبة… إضافة لإنتقاء المراسلون الذين يصاحبون القوات المهاجمة بحجة عدم القدرة على إصطحاب أعداد كبيرة وعندما يعود العدد القليل يطلع بقية أقرانه من الصحفيين على ما دونه وسجلته كاميراتهم المراقبة إستخباراتيا…

وكان الجدل والمناكفة مع الأساتذة ينصب على ضرورة نشر الحقيقة كما هى لان عدم نشرها وفقا للتقاليد الراسخة يحمى مرتكب الجريمة والمذبحة ولا يقيم عليه الحجة القانونية بالشكل الكافى؛ وقدمت نماذج لبداية إخراج الحروب على الطريقة الأمريكية بداية من توظيف شبكة CNN الأمريكية حينذاك فى ترتيب أجندة الإهتمامات والأولويات اليومية للشعوب والدول حول العالم بحيث تتطابق مع ترتيب إهتمام المحطة بالقضايا الدولية والأزمات والصراعات والحروب وحتى الكوارث الطبيعية وهى بالمناسبة لا تختلف كثيرا عن أجندة التعليق على الأخبار اليومية فى البيت الأبيض وفى الخارجية الأمريكية والبنتاجون إذا لزم الأمر… تعرف متى وكيف تكون الحرب الأهلية فى الصومال على رأس الأولويات تبريرا لتدخل عسكرى أمريكى؛ ومتى يتم تسخين الأجواء و وضع قضية البوسنة والهرسك فى الصدارة بالتوازى مع الإنسحاب الأمريكى والفشل فى الصومال وفى كل أزمة وصراع تقوم بما يعرف بالتمهيد النيرانى الإعلامى قبل أن تتقدم القوات أو تنسحب… وبعدها بسنوات أعلنت سقوط بغدادا عام 2003 قبل ان تسقط فعليا و تسيطر القوات الأمريكية وحلفاءها من الداخل على العاصمة العراقية…

أخرجت واشنطن وأجهزتها الأمنية تلك النزاعات والحروب فى العقد الأخير من القرن العشرين وبداية القرن الحادى والعشرين فى ما يشبه الحروب التليفزيونية الخالية من مشاهد الدم Bloodless Wars؛ فكانت تصور لك الصاروخ يستهدف بناية أو شرفة فى بناية يستهدفها صاروخ أطلق من طائرة أو مدمرة و يصيب هدفه بنجاح دون أن يذهب بك خيالك بعيدا لترى صور الدماء و الدمار و الأشلاء خلف زجاج الشرفة و تحت أنقاض البناية؛ و كانت قمة تلك الإستراتيجية “الناجحة حينذاك” ما تم تطبيقه فى حرب كوسوفو التى شهدت أقل مشاهد العنف والدماء رغم وجودها كما سجلت أقل خسائر فى صفوف القوات الأمريكية و تم إخراجها اشبه بالالعاب الإلكترونية التى يلعبها اطفالنا War Games و هو ما يخفف ضغوط الرأى العام الأمريكى و الغربى المناهض و المعارض للحرب…

و قد حاولت إسرائيل فى كل جرائمها أن تقتفى أثر تلك الإستراتيجية الأمريكية ولكن أفعالها الفاضحة كاشفة لتلك الجرائم والتى ستتنتشر فى المنطقة فى قادم السنوات والعقود فى ظل دعم وحماية امريكية غربية؛ وهنا أعيد ذكر محاولات أستاذى البروفيسور فيليب تايلور بالبقاء فى ليدز وتحضير رسالة الدكتوراة فى معهد الإعلام الدولى وأن اكمل مسيرته فى التدريس – يا ليتنى فعلت –  حين قال: “إن كل ما درسته من فنون إدارة الأزمات والصراعات والحروب إعلاميا وأساليب الدعاية والحرب النفسية سيتم تطبيقها وبصور متطورة فى منطقتكم بالشرق الأوسط مع إستمرار سخونة الأحداث و تضارب و تقاطع المصالح الدولية و الإقليمية و بفعل المكون الدينى الذى يؤجج الصراع ويزيد من حالة الإستقطاب؛ و وجودك فى ليدز وإستكمالك للدراسة مهم لخصوصية هذا الإقليم  نظرا للتشابك ما بين السياسى و الإقتصادى و الدينى و الإجتماعى فى هم أبعاد القضايا و تصميم الإدارة الإعلامية لصراعاتها”…

وهنا أفتح المجال للأصدقاء على الصفحة و أوجه السؤال إلى كل واحد فيهم: هل أنت مع أم ضد نشر الصور والفيديوهات الصادمة التى تجسد المأساة الإنسانية والإبادة الجماعية والتهجير لسكان قطاع غزة؟ و من المستفيد من ممارسة الرقابة على نشر تلك الصور والفيديوهات؟ و كيف يمكننا إستخدام تلك المشاهد الصادمة فى حشد الرأى العام الدولى ومخاطبة الضمير الشعبى حول العالم خاصة مع تطور أساليب وفكر الحشد الإلكترونى وتستفيد منها الجماعات التى كانت تقود مظاهرات البيئة واجتماعات منظمة التجارة العالمية وقمة ال G7 والحرب على العراق وغيرها من المشاهد العالمية التى تمثل ضغط حقيقى على القرار حين يكون فاعلا وكبيرا؟

(غدا نبدأ سلسلة لمناقشة الأوضاع العسكرية على الأرض وسيناريوهات الإقتحام البرى لقطاع غزة – إذا تم – وإحتمالات توسع رقعة الحرب إقليميا ودوليا وإشتداد عواصف الإقليم وفى بؤرة الأحداث والعاصفة مصر)…

جــلال نصـار…

كاتب فيسبوكى

القاهرة: 23  أكتوبر 2023م

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات