في انتظارِ مناقيشِ زَعْتَرِ المَوْقوفين | القصة الرابعة

08:28 مساءً السبت 28 أكتوبر 2023
د. إيمان بقاعي

د. إيمان بقاعي

روائية لبنانية، أستاذة جامعية متخصصة في الأدب العربي وأدب الأطفال والناشئة، وعضو اتحاد الكتاب اللبنانيين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

لحمة بعجين، لا مناقيش زعتر!

قصة بقلم د. إيمان بقاعي

بين ليلةٍ وضُحاها، لبسَ حَمو السِّجينِ- بتهمةِ قَتْلِ رئيس البلديَّةِ الذي تربطُه به علاقةُ مودَّةٍ وصداقةٍ تقاسما فيها لسنواتٍ “الخبزَ والورودَ والنَّبيذَ” كما يقولُ (رسول حمزاتوف)- قميصَ (la coste) زهريةَ اللَّونِ، فزرقاءَ، فبيضاءَ، وغيَّرَت ابنتُه حذاءَها الخَلَقَ وقميصَها وبنطالها الذي ما رآها أهلُ الموقوفينَ الذين جمعَتْهُم محنةُ توقيفِ أبنائِهِم المتنوعةُ تلبسُ بدلًا عنهما، فظهرَت من تحتِ كُمَّيْها الطويلينِ الجديدينِ أَساوِرُ ذهبيةٌ متراكمةٌ تخشخِشُ، وأونصةٌ تزينُ صدرَها، وحلَقٌ طويلٌ يظهَر من تحتِ شَعرِها الذي تحوَّل من أسودَ باهتٍ طويل متقصِّفٍ إلى ذهبيٍّ قصيرٍ لمّاعٍ، ووصلَ الأَمر بها وبأبيها أن احتلَّا منذ حوالي ثلاثةِ أسابيعَ- في كل زيارةِ “مواجهة”- أكثرَ من ربعِ ساعَة اشتريا فيها لموقوفِهِما مناقيش الجبنِ التي نادرًا ما يشتريها الأهلُ لغلاء ثمنِها، والعصيرَ، و”الكرواسون” بأنواعِهِ، والبريوش الطَّازج، حتى ظنَّ العَسْكَرُ الواقفون بالدَّور للحصول على منقوشةِ زعترٍ أن لدى المرأةِ وأبيها أكثر من خمسةِ موقوفينَ.

ولم يقتصرِ الأمْرُ على ذلك، بل تبرَّع الأبُ بالدَّفع لمرتين متتاليتينِ ثمنَ مُشترياتِ سيدةٍ خمسينيَّةٍ حمراء الشّعرِ، أنيقةَ المظهرِ، عُرفَتْ مذ تعرّفَ وابنتَه إليها بأنها تشتري لابنِها، في كلِّ مرةٍ، نصفَ محتوياتِ الدُّكانِ، فامتعَضَتْ، وأصرَّتْ أن تسبقهما في المرةِ الرابعةِ وتنقد البائعَ خمسة ملايينَ ثمنَ ما سيشتريهِ الرجلُ لصهره بدَلَ ما دفعَهُ، محاوِلةً إزالةَ العارِ الذي لحقَ بها، والذي أقلقَها ليلَ نهارَ وهي تحاولُ تفسيرَهُ تفسيراتٍ أثارَتْ قرفَها؛ منها أنَّه مهتمٌّ بها مذ عرفَ صدفةً بأنها أرملةٌ، فصارَ يتركُ الأهالي ويتواجدُ حيثُ تتواجدُ، بل ولا يأبَهُ إن حَشَرَ جسدَهُ بين سيدتين جالستينِ بانتظارِ موعدِ “المواجهةِ”، إن كانت هي إحدى السَّيدتينِ، وخاصة أنَّه في آخر جلسةٍ أعلنَ وهو ينظرُ في عينيْها أنَّه فقدَ زوجتَهُ منذ ستِّ سنواتٍ، مِن دون أن يُردِفَ الحديثَ عنها كعادته بـ “رحمَهَا الله”، ومن دونِ أن تتوقفَ السيدةُ عند الخبرِ، بل تابعَتْ مزاحَهَا مع سيدةٍ تقفُ بجانبِها، وكأنها لا سمِعَتْ ولا رأَتْ.

 ومن التَّفسيراتِ التي راودَتْها، أنها كانَتْ مرحةً، تحاولُ بثَّ الرُّوحِ الإيجابيَّةِ في قلوبِ المنتظراتِ غالبًا وبعضِ المنتظرينِ، لعلَّها تساهمُ في مسحِ نظراتِ بؤْسِ معظمِهِم، فظنَّ – لغبائِهِ- أنها معجبةٌ بِهِ، وأن إعجابَها سيزدادُ وقْتَ ترى “لوغو” الـ (la coste)، ومنها ربما إغراءً لها بأن لديه من النُّقودِ ما يشجعُ أيةَ امرأةٍ على الإعجابِ بهِ إضافةً إلى استعراضِهِ ثقافته بثقةٍ لا متناهية، وخاصةً أنه أصرَّ على صفِّ سيارِتِه المارسيدس البيضاء الجديدة ملاصقةً للرَّصيفِ قبالةَ وقوفِ الأهالي الأهالي، وكان قبل ذلك يصفُّ سيارتَهَ التي لا يتجاوزُ ثمنُها ألفَ دولار في الأزقةِ البعيدةِ المتواريةِ.

فجأةً، سألتْهُ ابنته بعد أسبوعينِ من ظهورِ مظاهرِ ثرائِهما:

papi-، أوَ تعتقدُ أنَّ محامينا سينتصرُ على محامي مَنِ اتَّهمَ زوجي بأنَّه قاتلٌ وسارقٌ؟

فالتفتَتِ المرأةُ ذاتُ الشَّعرِ الأَحمر إلى وجه الرَّجلِ الغبيِّ، وانتظرَتْ جوابَهُ من دون أن تُبدي اهتمامًا، وإن كانَ اهتمامُها في أَوْجِهِ، فأجابَ بثقةٍ دلَّ عليها ارتفاعُ رأسِهِ حتى كاد ينخلعُ من بين كتفيه:

– سنصلُ، يا papi إلى أكبرِ الرؤوسِ بالسّهولةِ التي سنصلُ فيها إلى إرسال دزينةِ “لحمة بعجين” ساخنةٍ لزوجِكِ البريءِ القابعِ في السِّجنِ ظُلمًا، ليأكلَ ويطعمَ زملاءَه المقرّبينَ في السّجنِ الذين نشفَتْ عروقُهُم من أَكل مناقيشِ الزَّعترِ الباردةِ اليابسةِ “ترويقة” وغداء وعشاء.

وهرَّبَ نظرةً سريعةً إلى وجهِ السَّيدةِ ذاتِ الشَّعرِ الأَحمرِ، فنظرَتْ إليه نظرةً هي مزيجٌ من احتقارٍ واشمئزازٍ واستصغارٍ لم يفهمْها،  وقالَ لابنتِهِ “مُتَهَاضِمًا”:

-و”فِهْمِكْ يا papi كْفَايِةْ”!

انتهت!

28\10\2024

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات