عقيدة “الدم والنار”…المستوطنات الصهيونية كيانات عسكرية ليست لها حصانة

01:42 مساءً الأربعاء 15 نوفمبر 2023
جلال نصار

جلال نصار

رئيس تحرير جريدة الأهرام ويكلي (سابقا)، مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

تحدثنا فى التحليلات السابقة عن الفكر العسكرى الصهيونى من خلال الأرث والجهد العلمى والبحثى الذى تركه لنا أباء الفكر العسكرى العربى والذى أظهر إنحراف تام فى مساحات التعامل السياسى والإعلامى والصحفى فى كل الصراعات والأزمات مع دولة الإحتلال الإسرائيلى مع هذا الأرث وهو ما أدى إلى سيادة وقوة وربما طغيان السردية والرواية و المصطلحات والتفسيرات والمبررات الإٍسرائيلية… وفى هذا التحليل سأحاول التركيز على خدعة أن المستعمرات “المستوطنات” لها حصانة وأن المستوطنيين مدنيين لهم حصانة والتى تمنح دولة الإحتلال حق ليس من حقها بالدفاع عن النفس؛ وكيف أن المستعمرات “المستوطنات” كيانات أمنية وعسكرية تتسق مع الفكر الصهيونى؟ وكيف أن المقاومة المسلحة لتلك الكيانات تفرضها التحديات والضرورة والمصلحة رغم ما يدفعه الشعب المقاوم من تضحيات وما تتسبب فيه لدول الجوار من أزمات هى بالمعايير الإستراتيجية أقل ثمن يمكن دفعه من وجود تلك المستعمرات “المستوطنات” على حدوده المباشرة…

– قام الفكر العسكرى بالدور الأول والمهم فى رسم السياسة الصهيونية الهادفة إلى خلق وتطوير الوجود الصهيونى بفلسطين، فترك بصماته واضحة مذ البداية على كافة المخططات والمناهج التى وضعت لإنشاء “الدولة اليهودية”. واستتبع ذلك أن تبوأت القوة المسلحة مركز الصدارة فى تحقيق هذا المخطط، وصار للمنظمات العسكرية الكلمة المسموعة منذ بداية الأمر. ولعل فى ذلك ما يفسر إلى حد كبير، تلك الظاهرة التى صاحبت اقامة الدولة؛ وهو ما سبق انشاء وتنظيم المؤسسة العسكرية على اقامة الدولة ذاتها. فعندما أعلن عن قيام الدولة وأصبح لزاما تكوين الجيش النظامى لم يتطلب الأمر سوى تغيير أسم المنظمة العسكرية السرية “هاجاناه” من “منظمة الدفاع” إلى “جيش الدفاع”…

“تسهال” التى هى اختصار للكلمات العبرية “تسفا هاجانا ليسرائيل” اى: “جيش الدفاع الإسرائيلى”… وكانت عبارة “الدفاع والحراسة” التى استخدمت فى العام الذى قررت فيه المنظمة الصهيونية “1907م” البدء فى ممارسة الاستعمار الصهيونى لفلسطين على أوسع نطاق لم تكن تعنى فى حقيقتها سوى “العنف والاغتصاب”…

1948

– وقد كانت أفكار ديفيد بن جوريون المعروف لديهم بـ “النبى المسلح” كفيلة بشرح أسباب إنشاء القوة العسكرية المرتبطة ببناء وتوسيع المستوطنات بفلسطين فى الوقت المبكر للصراع الذى سبق عام 1948 وغلفها حينذاك بكلمات ومصطلحات خادعة مثل: “الدفاع” و “الأمن والحراسة” و “حماية الارواح” وصولا إلى عامنا الحالى 2023 بمصطلح “حق الدفاع عن النفس”… وكلها ألفظ ومصطلحات لا تمثل الحقيقة ولا تشكل سندا او حقا للوجود الصهيونى من أساسه؛ لانه وجود قائم على الإغتصاب والقهر؛ ويقول بن جوريون فى إنشاء منظمة هاشومير: ” كان من السخف أن يعتمد المستوطنون اليهود على الآخرين فى حراسة محاصيلهم وحماية أرواحهم، فاذا استمر الحال على هذا المنوال فلن يتمتعوا بحريتهم قط ولن يشعروا بانهم فى أمان على الاطلاق، وإذا كان عليهم ان يدافعوا عن أنفسهم، ولابد من استئجار الحراس لهذا الغرض، فينبغى أن يكون هؤلاء الحراس من اليهود، وعلى ذلك انشئت منظمة هاشومير من رجال الحراسة، كانت فى الواقع طليعة الهاجاناه قوة الدفاع اليهودية السرية التى شكلناها بعد الحرب العالمية الأولى، والتى لعبت دورا عنيفا فى الدفاع عن اليهود بصفة مستمرة حتى اعلان الاستقلال فى سنة 1948″Ben-Gurion Looks Back; In Talks with Moshe Pearlman; New York, Simon & Schuster, 1965, P.24.

– وقد كانت مستوطنة “الشجرة” اول مستعمرة صهيونية تكون قوة مسلحة كنواة لمنظمة “هاشومير”. واستمر بن جوريون وبن تزفى فى سعيهما نحو تحقيق “المجتمع الصهيونى المسلح”، وتعميم نظام القوة المسلحة بين المستوطنات. وبذلك تكونت منظمة هاشومير من أعضاء حزب “عمال صهيون وبعض الاعضاء القدامى من وحدات الحراسة بالخارج “دياسبورا” على نمط جماعات الدفاع الذاتى فى روسيا… ولم يكن شعارها “الحراسة والدفاع”.. بل كان شعارها الذى نادى به “النبى المسلح” بن جوريون هو: “بالدم والنار سقطت اليهودية، وبالدم والنار سوف تعود من جديد”…

– المشروع القومى اليهودى الذى واكب بداية التسلل إلى فلسطين ومن بعدها مرحلة إغتصاب الأرض وتقنين الوجود اليهودى وما تلاها من مراحل التوسع كان يواجه مقاومة من مشروع مقابل وتحدى من حركة التحرر العربى النامية التى تمثلت قمتها فى الثورة المصرية عام 1952 وهو ما تجسد فى الدخول فى صراع مسلح مع كل ما كانت تمثله تلك الفكرة القومية العربية وإمتدادها فى أفكار التحرر فى المنطقة والعالم النامى وبدأت الجولات مع عداون 1956 وما تلاه من تطوير لفكرة التوسع إستعدادا لاندفاع عدوانى جديد تحت ستار الحصول على “حدود آمنة”” وتمكينا للقوات الإٍسرائيلية المسلحة من تحقيق مهام طموحه فى اكثر من جبهة عربية وفوق انواع عديدة من مسارح العمليات.

وكانت الجولة العربية الإسرائيلية الثالثة فى صيف عام 1967 ختاما مثيرا لهذه الحقبة التى انتهت بإبتلاع أرض فلسطين كاملة؛ بل واحتلال مزيد من الأراضى العربية المجاورة… حتى واجهت عقبة كبيرة فى 6 أكتوبر 1973 التى أصابت مشروع التوسع والحدود الآمنة فى مقتل اجبرت تل أبيب على القبول ببعض أتفاقيات السلام مع الدولة الأكبر فى المنطقة وعدد من دول الجوار بهدف تحييدها وإخراجها من دائرة الصراع العسكرى المباشر وفقا للمفهوم والفكر الصهيونى القديم والحديث والمعاصر وأعتمدت فكر أن الحروب تخاض بعدة وسائل وأسلحة ليست كلها عسكرية وأن هناك أوجه عديدة للصراع والمواجهة والتسلل والتمكين والتوسع WAR BY OTHER MEANS وتعدد الاوجه والاسلحة يشمل: السياسى والإقتصادى والإعلامى والثقافى والامنى والمعلوماتى.. وذلك ارتباطا بالتحالف وتضافر الجهود مع القوى الإستعمارية الفاعلة وفق كل حقبة زمنية ومعطاياتها وموازين القوة التى تحكمها… وهو ما يعنى أن الصراع مع إسرائيل وجودى ويمثل تحدى حضارى وتفوق نوعى مصحوب بمصالح وخطط واستراتيجيات لتفتيت الجبهات المضادة على مستوى الدول والمؤسسات والجماعات البشرية…

– نأتى إذا إلى خدعة مستعمرات “مستوطنات” غلاف غزة؛ وخصوصية مستعمرات “مستوطنات” مثل زكيم وسديروت ونتيفوت وكيسوفيم واشكول؛… عندما نتحدث عن الغلاف فإننا نتحدث عن مساحة من الأراضى ممتدة لـ 700 كم متر مربع و 50 مستوطنة حيوية ومهمة فى الفكر الأمنى والعسكرى الصهيونى لدرجة اعتبرها بعض المحللين الإٍسرائيليين – وللاسف ليس العرب – ان سقوط الغلاف بتلك الطريقة يعنى سقوط إسرائيل ضمنيا بعيد عن السقوط الإستخباراتى والمعلوماتى والمعنوى وإنهيار نظرية الأمن والردع؛ لان الغلاف فكرته الأمنية والعسكرية هى إقامة حاجز بشرى ممتد بين الضفة الغربية وقطاع غزة بواسطة المهاجرين اليهود المقتنعين بالفكرة الصهيونية وتمنع التواصل جغرافيا بين أراضى الدولة الفلسطينية المنصوص عليها فى القرارات الأممية؛ ولكن الأهم انها تمنع التواصل والتنسيق والحشد الأمنى والعسكرى حال إشتعال الموقف من قبل المقاومة فى القطاع والضفة…

– فضلا عن أن فكرة “الغلاف” هى ضمان عدم قطع التواصل بين مناطق بئر سبع والنقب عن الساحل البحرى أو بالتعبير الصهيونى قطع المنطقة الصحراوية عن المنطقة الخضراء والمزروعة شمالا وتصل النقب وبئر سبع بتل أبيب؛ هذا إضافة إلى الإستفادة الإقتصادية من تلك المستعمرات رغم محدودية أعداد المستوطنين البالغة 40 الف لانها تمد الداخل والسوق الإٍسرائيلى بـ 70% من احتياجات دولة الإحتلال من الخضار والفاكهة وهو أمر بمفهوم الأمن الغذائى يضرب المحتل فى مقتل ويمنح تلك المستعمرات قيمة استراتيجية وتجعل منها هدفا استراتيجيا عنما يستهدف من عدو او مقاومة…

لذا يعد زوال مستعمرات “غلاف غزة” بفعل أعمال المقاومة والإستهداف أمر خطير بالنسبة لصانع القرار الإٍسرائيلى الذى يعانى حاليا من نزوح المستوطنين نتيجة لحالة الهلع والرعب بعد هجوم 7 أكتوبر وقراراهم بعدم العودة إلا بعد القضاء على مصدر الخطر الذى تمثله المقاومة المسلحة داخل القطاع التى تقدر المصادر الإٍسرائيلية أنها قادرة على تجهيز 150 الف مقاتل من كافة الفصائل داخل القطاع الذى يقدر عدد سكانه بـ 2.3 مليون غزاوى معظمهم فى سن الشباب والمراهقة وهو ما يعنى ديمومة واستمرارية التجنيد وتجهيز البديل لما يتم تصفيته او اعتقاله من المقاومة…

– لذا كان المخطط الصهيونى الأمنى والعسكرى هو السعى لإحداث توازن بين هذا التهديد القادم من القطاع وبين أعداد المهاجرين “المغتصبين” الذين يستوطنون تلك المستعمرات وتكثيف موجات الهجرة والمزايا التى تمنح لهم واستمرار تأهيل البنية العسكرية لتأمين المستوطنات والمستوطنين الذين يتم تدريبهم وتسليحهم، وإلى أن يتم ذلك وتكتمل البنية والتوازن والتدريب والتسليح المتقدم للمستوطنين فيجب وفقا للعقيدة الصهيوينة القضاء على أى مقاومة داخل القطاع لان الأمور لو تركت هكذا ستكون العملية القادمة تستهدف التواصل والتنسيق بين الضفة والقطاع جغرافيا وأمنيا…

– وتتركز حملات تشجيع اليهود فى الغرب وخاصة فى الولايات المتحدة الأمريكية إلى منطقة “الغلاف” وغيرها من المستوطنات على منح رخصة إقامة مستوطنات خاصة تصل إلى 50 منزل محاطة بالمساحات الخضراء المفتوحة وآبار المياه والبنية الالكترونية ونموذج قانونى خاص بين الحكومة فى تل أبيب وبين المستوطنين يمنحهم مساحات حركة كبيرة ومزايا فى ظل حماية “فرقة غزة” العسكرية البالغ عددها 12 الف جندى وضابط يطلقون عليها مسمى “ثعالب النار”؛ والتى يروج لها على أنها تضم نخبة من افضل الرياضيين الإسرائيليين فى العاب القتال وكمال الأجسام والرماية والأعلى تجهيزا وتدريبا بين وحداث جيش الاحتلال؛ وذلك خدمة للنموذج الدعائى الذى يشجع على الهجرة والإستيطان “الرفاه والرخاء والأمن”؛ ثم جاءت عملية 7 أكتوبر لتضرب هذا النموذج الدعائى فى مقتل وتهين الفرقة وجنودها وكل المنظومة الأمنية والمعلوماتية والإستخباراتية والإستعداد القتالى وردة الفعل والإذنار المبكر فى 6 ساعات؛ وذلك من خلال إسقاط 25 نقطة عسكرية وأمنية ومقر قيادة الفرقة وقاعدة ايريتز القوية مع حالة إرباك كاملة للقيادة والقرار من خلال إطلاق 5000 صاروخ تفوق قدرة القبة الصاروخية على المواجهة وقبل كل هذا عرت نتانياهو وحكومته اليمينية وقضت على اسطورته تماما؛ ومع نهاية المعارك ستضعه خلف الأسوار… وهو الأمر الذى حاولت وتحاول الدعاية الإسرائيلية أن تعمى الأبصار عنه وتصرف النظر عنه بالحديث عن استهداف المدنيين وقتل الأطفال واغتصاب النساء وخطف المدنيين وسارت من خلفها خطابات الإدانة الدولية والعربية…

– فكر أن المستوطنة والمستوطن والبنية الأساسية للمستوطنة هو عسكرى وأمنى ربما يفسر أن المعارك الدائرة حاليا بين قوات الاحتلال والمقاومة الفلسطينية تتركز فى غرب غزة وليس شرقها حيث الهجوم التقليدى بدفع المدرعات والمفارز فى شكل انساق هجومية من قواعد موجود فى شرق غزة وشمالها الشرقى ولكن تحليل العمليات على أرض الواقع يعكس ويقول أنها تنطلق حاليا انطلاقا من تمركزات فى الغرب كانت بالأساس مستعمرات “مستوطنات” لقوات الاحتلال قبل الانسحاب من القطاع فى 2005 وهى نتسريم Netzarim وايلى سيناى Elei Sinai ودوجيت Dugit حيث توجد اكبر نسبة من الدبابات وناقلات الجنود والآليات بالقرب من ساحل غزة لوجود بنية اساسية وطرق تعرفها جيدا تسمح لها بقليل من المناورة وذلك غير متاح من ناحية الشرق وهو ما ينطبق على مستوطنة نيسانيت Nissanit فى الشمال الشرقى؛ وهو ما يؤكد لنا أن تلك المستوطنات كانت قد شيدت من قبل قوة الاحتلال للقطاع كبنية عسكرية تتحول معها إلى نقاط إرتكاز فى خطط العمليات عند إعادة إقتحام واحتلال القطاع مجددا بدعم من المدفعية البحرية مما يسمح لقوات الاحتلال بالمناورة ودفع بعض القوات فى شوارع مثل صلاح الدين ثم العودة وهو ما يسفر عدم السيطرة الكاملة على القطاع رغم مرور كل هذا الوقت ويفسر ايضا استمرار الهجمات والضربات الجوية التى تعكس أنه لم يسيطر على الأرض …

فين بقى الاخوة بتوع سكان المستوطنات المدنيين العزل إلى أخره من الهراء والإنبطاح والتبعية والسطحية والجهل إلى أخره من كل المصطلحات التى مكنت جيش الاحتلال من شرعنة كل جرائمه بدعم من هؤلاء الذين يؤمنون ويرددون العبارات والمصطلحات والقناعات الصهيونية؟؟ّ!!! ولن أزيد…

– يا سادة؛ يبدأ السلام عندما تتخلى الدولية الصهيونية عن الأفكار الصهيونية التوسعية وعن الأفكار المؤسسة لعقيدة النار والدم… أنا شخصيا أعانى من غياب هؤلاء الذين عاشوا الصراع منذ بدايته والذين خاضوا حروبا حقيقية ضد هذا العدو واستطاعوا أن يهزموه فى أوج إنطلاقه وتوسعه، ومع قرب رحيل جيل اكتوبر بالكامل تاركا ومنذ زمن مساحات من الفراغ أحتلها الغير وواقع نرضى عنه أو نرفضه ولكنه أصبح واقعا نجد أن المقاومة على كل الأرضى العربية المحتلة هو السلاح الوحيد الذى نملكه لتحجيم تلك الأفكار الصهيونية الدموية بعد أن أصبحت الحلول التقليدية والحروب النظامية ضربا من الخيال وتتسم بعدم الواقعية التى لا تدرك حقيقة الواقع العربى…

ونكمل الدردشة بعدين… وتانى متسلموش دماغكم لحد لانها أغلى ما تملكون…

جـــلال نصــاركاتب فيسبوكي

القاهرة 15 نوفمبر 2023م

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات