رمضان في شعر العصر المملوكي

09:04 مساءً الجمعة 15 مارس 2024
مدونات

مدونات

مساهمات وكتابات المدونين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print
د. وليد أحمد سمير

دراسة للدكتور وليد أحمد سمير

تعد الأعياد والاحتفالات من المظاهر الحضارية التى تشهد بتقدّم المجتمع المملوكى، وتعكس ما كان يتمتع به من رفاهية واستقرار، لاسيما أن مصر قد عرفت عدداً كبيراً من الأعياد والمواسم التى اهتم المصريون بإحيائها وتفاعلوا معها نظراً لأهميتها المعنوية والترفيهية فى حياتهم، فضلاً عن أهميتها المادية حيث كانت توزع فيها العطايا السلطانية من أموال وكسوات وأطعمة.


وكان من أبرز أعياد المسلمين ومواسمهم: رأس السّنة الهجرية، ويوم عاشوراء، وأول رجب، وليلة الإسراء والمعراج، وليلة النصف من شعبان، والمولد النبوىّ، وموكب المحمل، وشهر رمضان، وعيد الفطر، وعيد الأضحى..، وأغلب هذه الأعياد الدينية كان قد استحدثها الفاطميون وظلّ الاحتفال بها متوارثاً بعد زوال دولتهم(1)، باستثناء موكب المحمل الذى لم يُحتفل بدورانه سوى فى عهد السلطان المملوكى الظّاهر بيبرس سنة 670هـ/ 1271م (2)، أما عن عيدى الفطر والأضحى فقد شرعهما الرسول  للمسلمين منذ السنة الثانية للهجرة، إلا أن الاحتفالات بعيد الفطر كانت تتمّ فى نطاق محدود فى البلاد الإسلامية، إلى أن حكم الفاطميون مصر فصبغوه بعاداتهم وطقوسهم الخاصة التى لا تزال باقية الأثر إلى الآن ليس فى مصر وحدها ولكن فى أغلب البلاد الإسلامية.
وكذلك كان لأهل الذّمة من اليهود والنّصارى أعيادهم الخاصة(3)، ومن اللافت أن المصريين من المسلمين والنّصارى لم يشاركوا اليهود فى الاحتفال بأعيادهم نظراً لما اشتهر به اليهود من الحرص على العزلة، ولذلك لم تنل أعياد اليهود اهتمام شعراء العصر، أما عن أعياد النّصارى فقد كان لها أثر كبير فى شعر العصر، لاسيما الأعياد التى شاركهم المسلمون فى الاحتفال بها مثل عيد النَّيْروز(4).
وتكشف أعياد المصريين وما كان يصحبها من طقوس احتفالية عن صورة تفيض بالبهجة والإشراق ومظاهر البذخ لمجتمع ينعم بالرّخاء والازدهار والأمن، كما أنها تصور عادات المصريين وتقاليدهم الاجتماعية فى الخروج إلى أماكن التّرفيه من حدائق ومتنزهات، والتردد على مجالس الطرب والغناء، ومشاهدة الألعاب البهلوانية وخيال الظّل، والاستماع إلى النّوادر والسير الشعبية.
وسواء أكانت تلك الأعياد دينية أم عامة، فقد كان لكل منها مذاقه الخاص، وصوره الاحتفالية التى تميزه عن غيره من الأعياد، وقد انعكس ذلك بطبيعة الحال على الأدب بصفة عامة، والشعر بصفة خاصة.
ومن الاحتفالات الإسلامية التى تردد صداها فى شعر العصر المملوكي، الاحتفال بشهر رمضان، وكان يبدأ بموكب رؤية الهلال، حيث يخرج الفقهاء إلى المُرْتَقَب –المَرْصَد- للتأكد من ثبوت الرؤية، ويتبعهم جميع مَنْ بالمدينة من رجال ونساء وصبية، ولا يعودون إلا بعد صلاة المغرب، وكانت تزيّن الشوارع احتفالاً بهذه المناسبة، وتوقد القناديل والمشاعل والفوانيس فى كل مكان، وتضاء الحوانيت بالشموع(5)، فيتحول بذلك ليل القاهرة إلى نهار من كثرة الأضواء.

وكانت أسواق القاهرة تتجهز لاستقبال هذا الموسم، وخاصة الأسواق المرتبطة بالأكلات الرمضانية، مثل سوق الحلاويين(6)، وقد حظيت الكُنافة والقطائف بمكانة مهمة فى التراث المصرى الشعبى، وكانتا –ولا تزالا- من عناصر فولكلور الطعام فى مائدة شهر رمضان، وقد أشار الشعراء إلى هذه المأكولات الرمضانية، فقال الجزّار يذكر الحلوى -وكان لها وصّافاً- التى حُرم منها فى ليالى رمضان، ويستهدى أحد أمراء عصره بعضها:
أيُّهذا الأميرُ قد أشْكَلَ المَعْـ // ـنى وما زِلْتَ عَارِفاً بالمَعَانِى
ظَاهِر البَسْنَدُود لم أدْرِ ماذا // فيه حَمْلاً وباطنَ الخُشْكِنَانِ
أَتُرَانِى فى العيدِ أجهَلُ ذا المَعْـ // ـنى كَجَهْلِ الحَلْوَاءِ فى رَمَضَانِ
ما رأتْ عينى الكنافةَ إلا // عند بَيَّاعِها على الدُّكَانِ
ولَعَمْرِى مَا عَايَنَتْ مُقْلَتِى قَطْـ // ـراً سوى دمعِها من الحِرْمَانِ
ولكم ليلةٍ شَبِعْتُ من الجُوْ // عِ عَيَاناً إذ جُزْتُ بالحَلْوَانِى
حَسَرَاتٌ يَسُوقُها القلبُ للطَر // فِ فويلٌ للطَرْفِ عِنْدَ العِيانِ(7)
ولا يشغلنا فى هذه الأبيات حرمان الشاعر ودموعه، ولا نظراته المتلهّفة التى يملؤها الاشتياق والتحسّر، بل يلفتنا تلك الأصناف من الحلوى التى أغرم النّاس بصناعتها احتفالاً بشهر رمضان، مثل البَسْنَدُود والخُشْكِنَان والكُنافَة.
وانتعشت تجارة أسواق أخرى فى هذا الشهر مثل سوق الشماعين لكثرة ما يشترى ويستأجر من أنواع الشموع الموكبية والفانوسية والطوّافات(8).
ومن الطّقوس الرمضانيّة التى لا تزال تحيا بيننا إلى الآن ولا أحسبها تنقضى وخاصة فى القرى، شخصية المسحّراتى الذى يطوف قبيل السحور بطبلته مردّداً أغانيه الشعبية وأناشيده بصوته الجَهير، ومن حوله الصبية يهلِّلون ويغنّون(9)، وقد أشار الشعراء إلى هذه الشخصية فقال الجزّار فى سياق شكواه من فقره:
وإذا سَحَّرَ المسحِّرُ ليلاً // الْتَقَى الأمرُ منه بالعِصيانِ
كُلَّما بَاتَ وهو يَأمُرُ بالأَكْـ // ـلِ أتَى الفقرُ مُقبلاً يَنْهانِى(10)
وكثرت أشعار التّهانى فى مثل هذه المناسبات الدينية، حتى كادت أن تمثل غرضاً قائماً بذاته عند بعض الشعراء(12)، إذ كان بعضهم ينتهز فرصة هذه المناسبات ليهنئ كبار رجال الدولة ويمدحهم، ومن ذلك قول ابن نباتة فى تهنئة أحدهم بقدوم رمضان، وتذكيره بالعطاء عن طريق مديحه:
هُنِّئتَ يا ملكَ السّماحةِ والنّدى // شهراً يزورُكَ بالهَنا مُعتادَا
تُسْدِى به مِنَناً وتكْبِتَ حُسَّداً // فتفَطِّرُ الأَفواهَ والأَكْبَادَا(13)
فهو يهنّئ ويمدح مشيراً إلى إحسان ممدوحه وإنعامه الذى غاظ أعداءه وأحزنهم، فهو يطعم الصّائمين الجائعين، ويمزّق أكباد الحاسدين بأعماله الخيّرة.
وانتشرت عادة الإهداء بين الشعراء، فكانوا يتهادون المآكل الرمضانية، وكان الشاعر المُهدَى إليه يتقبل هذه الهدايا بالشكر والعرفان، كقول ابن نباتة لمن أهدى إليه كُنافة وقطائف:
شكراً لها كُنافَةً من بعدها // قطائفٌ جاء بقطرٍ مُغدقْ
يا جود مهديها إذا قلنا انتهى // رَكّبْتَ فيها طبقاً عن طَبَقْ(14)
ودأَبَ السلاطين فى هذا الشهر على إغداق الصدقات والعطايا على الفقراء والمحتاجين، وفتح مطابخ القاهرة أمامهم طوال ليالى رمضان(15)، وشاركهم فى هذا الأمراء والأثرياء، وقد سجّل الشعر هذه العادة، ومن ذلك قول ابن نباتة لممدوحه الذى أدخل بعطاياه البهجة والسرور على الصائمين فأفطرهم:
أمولاىَ عزّ الدين جُوزيتَ صالحاً // عن القومِ نالوا من حباك حُبُورا(16)
فلولاكَ فى شهر الصّيام لما رأوا // سوى فى سماءِ الاصطبارِ فُطُورا (17)
وكان لشعراء العصر حكايات مع رمضان ومواقف منه تختلف من شاعر إلى آخر، وإذا كان أغلبهم قد استقبله بابتهاج وسرور، وتبادل مع أقرانه رسائل التّهانى والهدايا، فهناك من الشعراء مَنْ غمزه بشعره الماجن، وتجاهر بضيقه وتبرمه من حدوده الدينية المفروضة، فهو شهر عبادة وتضرع لا يجد فيه الشعراء الماجنون سبيلاً إلى تحقيق رغباتهم وشهواتهم، وهذا كفيل بأن يجعلهم يصوّرون فى شعرهم احتفالاتهم برحيل هذا الشهر، ونمثل لذلك بأبيات لابن دانيال الكحّال وكان من عُصْبَة الشعراء المُجَّان الذين انتهجوا نهج أبى نواس وأمثاله فى شعرهم:
-أَقْبَلَ العيدُ عائداً بالسُّعودِ // فَهناءٌ به بِرَغمِ الحسودِ
وَمضى الصَّومُ راشِداً فى جيُوشٍ // منْ رُكوعٍ مُبارَكٍ وَسُجودِ
وَرَأَيْنَا شوَّالَ قد فَصَمَ القيْـ // ـدَ هِلالاً وَقالَ فُكّتْ قُيودى
فَتَلقُّوهُ يا أُولى القَصْفِ بالدُّفِّ // دَدَفْ دُفْ، وَتَنْ تَتَنْ بالعُودِ
وَتَلَلَّلْ لَلَلَّ بالنّاى إِمَّا // ببسيطٍ مُرَجَّعٍ أو نَشيدِ
وَقَقَهْ قَهْ قنانياً تَسْكُبُ الرَّا // حَ عَقيداً مُتَوَّجاً بالعُقودِ(18)
فالأبيات تصوّر دعوة الشاعر لقرنائه بالتماجن والعبث احتفالاً بالعيد، فقد حطّم هلالُ شوَّال قيود رمضان، وحلَّ لهم ما كان ممنوعاً من اللهو وشرب الخمر، ونستطيع أن نتمثّل براعة الشاعر فى نقل أجواء تلك الليلة الماجنة فى ألفاظه التى تحاكى أصوات الدّف، والعود، والنّاى، وتدفّق الخمر من القِنِّينَة، فقد قامت ألفاظه -غير المألوفة- مقام تلك النغمات والألحان، وشاكلت أصوات تلك الآلات الموسيقية، فأطربت أذن القارئ وأحالته إلى أجواء تلك الاحتفالية وإن لم تضف معنى دلالياً جديداً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) ينظر الحديث عن أعياد الفاطميين ومواسمهم. محمود مصطفى: الأدب العربى فى مصر من الفتح الإسلامى إلى نهاية العصر الأيوبى، مكتبة الآداب، القاهرة، سنة 1424هـ/ 2003م، ص234، 235، وصالح الوَردانى: الشيعة فى مصر من الإمام على حتى الإمام الخمينى، مكتبة مدبولى الصغير، القاهرة، طـ1، سنة 1414هـ/ 1993م، ص32.
(2) ينظر معجم المصطلحات والألقاب التاريخية، ص390.
(3) من أعياد اليهود: عيد رأس السّنة وهو عيد البِشارة، وعيد الكبور وهو يوم الغفران، وعيد المظلّة أو الظلل، وعيد الفطير أو الفِصْح، وعيد الأسابيع أو العُنْصُرة أو الخطاب. ينظر الخطط المقريزية، جـ3/ ص719، ودراسات فى تاريخ مصر الاجتماعى، ص102. ومن أشهر أعياد النّصارى فى مصر، أربعة عشر عيداً، منها سبعة أعياد كبار، وسبعة أعياد صغار، فالأعياد الكبار عندهم: عيد البِشارة، وعيد الزَّيْتونة أو الشَّعانين، وعيد الفِصْح، وعيد خميس الأربعين أو الصعود، وعيد الخميس أو العُنْصُرة، وعيد الميلاد، وعيد الغِطَاس. أما الأعياد الصّغار فهى: عيد الخِتَان، وعيد الأربعين، وخميس العهد أو خميس العدس، وسَبْت النُّور، وحدّ الحُدُود، والتجلِّى، وعيد الصَّليب، ومن أعيادهم التى اتخذت طابعاً عاماً عيد النَّيْروز. ينظر: الخطط المقريزية، جـ1/ ص733- 747، ودراسات فى تاريخ مصر الاجتماعى، ص104- 112. وقد أحصى القلقشندى من أعيادهم ومواسمهم مائة وثمانية وسبعين عيداً وموسماً. ينظر صبح الأعشى، جـ2، المطبعة الأميرية، القاهرة، 1331هـ/ 1913م، ص415- ص425.
(4) ينظر د/ قاسم عبد قاسم: دراسات فى تاريخ مصر الاجتماعى، ص104- 106.
(5) ينظر جاستون ڤييت: القاهرة مدينة الفن والتجارة، ترجمة د/ مصطفى العبَّادى، مكتبة لبنان، بيروت، سنة 1968م، ص178، والفن المملوكى: عظمة وسحر السلاطين، ص124.
(6) ينظر الخطط المقريزية، جـ2/ ص592، 593.
(7) شعر أبى الحسين الجزَّار، ص132.
(8) ينظر الخطط المقريزية، جـ2/ ص584.
(9) ينظر ابن الحاج المالكى الفاسى: المَدْخَل، مكتبة دار التراث، القاهرة (4 أجزاء)، 1348هـ، جـ2/ ص255، وعصر سلاطين المماليك، ص97، والطبقات الشعبية فى القاهرة المملوكية، ص223.
(10) شعر أبى الحسين الجزَّار، ص132.
(11) ديوان ابن الوردى، ص126.
(12) ينظر –على سبيل المثال- مراسلات ابن الخيمى الشعرية بمناسبة عيد الفطر. ديوان ابن الخِيَمى، تحقيق أ/ هلال ناجى، ود/ زهير غازى زاهد، مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعرى، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، ط1، 2008م، ص98، 102.
(13) ديوان ابن نباتة المصرى، ص171.
(14) السابق نفسه، ص354.
(15) ينظر الطبقات الشعبية فى القاهرة المملوكية، ص223، 224. وينظر ما قاله المقريزى فى وصف سماط شهر رمضان. الخطط المقريزية، جـ2/ ص352.
(16) حُبُورٌ: جمع حَبر، وحَبَرهُ حُبُوراً: سرَّهُ ونَعَّمه، وفى التنزيل: ( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ). -الزخرف، الآية/70-. ينظر المعجم الوسيط، مادة (حبر)، ص151.
(17) ديوان ابن نباتة المصرى، ص254.
(18) المختار من شعر ابن دانيال، ص203، 204. والعقيدُ من السوائل: الغليظ. ينظر لسان العرب، مادة (عقد)، مج4/ ص3032. وله أبيات أخرى فى التشوق لرؤية هلال رمضان. ينظر المختار من شعر ابن دانيال، ص108.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات