المرأةُ العربيَّةُ : سفر النخيل الممهورة بعروبة الأصالة (المرأة الفلسطينيَّة رمزية الحُبِّ العظيم – أنموذجاً)

04:56 مساءً الجمعة 29 مارس 2024
د. منى رسلان

د. منى رسلان

أُسْتَاذةُ النَّقْد الأَدَبِيّ المعاصر والمنهجيَّة فِي كليَّة الآدابِ والعُلومِ الإنسانيَّة في الجامعة اللبنانيَّة

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

المرأةُ العربيَّةُ : سفر النخيل الممهورة بعروبة الأصالة

(المرأة الفلسطينيَّة رمزية الحُبِّ العظيم_ أنموذجاً)

دراسة الدكتورة منى رسلان،

أستاذة النقد الأدبي والمنهجية ، كليَّة الآداب والعلوم الإنسانيَّةِ _ الفرع الأوَّل _ الجامعة اللبنانيَّة | بيروت – الخميس 7 آذار / مارس 2024

قيل: ـ “إنّ النّفس البشرية تحترق لكي تنير باحتراقها سبيل التّطور الصّاخِب” [1].

وينطلق “أوغست كانت” من مفهوميَّة أساس، تتجلَّى في فهمنا للوجود. فلا بُدَّ للمرء لكي يفهم الوجود، من أن يفهم تاريخ الوجود. وهذا التاريخ هو هذه الروح الإنسانيَّةِ نفسها.

ههنا، فإنَّ المُتمعِّن في درس التَّاريخ الحضاري العالميِّ والحضارتين العربيَّة والغربيَّة، وتطوُّر المُجتمعات خلال القرن الواحد والعشرين، يجدها تتردَّى في أزمة وجوديَّة خطيرة، تتمثَّل بصراع الرأسماليين على الثروات في الدول والقارات، ونموِّ التجارة العالميَّة والاقتصادات الكُبرى التي تُهيمن بشكلٍ مُتسارعٍ على مُقدَّراتِ الأُممِ، ونشوءِ الرأسماليَّة المُستحدثة، التي تقُضُّ مضاجِع تلك الدول ذات الاقتصادات الصغيرة أو الضعيفة، الأمر الَّذي يدفَعُ بالآلاف من النَّاسِ إلى دَّرك سحيق من الخوفِ والجوعِ والبؤسِ والتشرُّد.

غير أنَّ هذه الفئات من النَّاس_ أي اليوتوبيا، المُتسلِّحة بأفكارها وأوضاعها وقهرها الاجتماعيِّ وأحلامها، قد أسَّست وجودها بفاعليَّة العناصر السلبيَّة المُحيطة بها، فتراها غير معنيَّة بالواقع المعيوش، إذ تسعى بالفِعل في تفكيرها إلى تغيير وضعها الحالي في المُجتمع[2]. ويحتمل أن تُحوِّل اليوتوبيا _ إن كانت قويَّة وجذَّابة _ الرغبة والأمل إلى فِعل حقيقي وإلى معتقد بتجسيدهما على أرض الواقع من خلال حركات ناشطة، أكانت اجتماعيَّة تنهضُ بالمُجتمع وبأفراده، أم سياسيَّة.

بهذا المفهوم ستكون مُهمَّة اليوتوبيا هي الهدم الاجتماعي، وقد تكون إحدى وظائفها تقويض الايديولوجيَّة_ وفاقاً لرأي بول ريكو؛ كما قد تكون مُصححة للايديولوجيَّة_ وفاقاً لرأي كارل مانهايم؛ في حين يتمثَّل مفهوم الايديولوجيَّة في الاندماج الاجتماعي. 

تُعتبر التغييراتُ العالميَّة المُتسارعة، والمفتوحة على الفضاءات التكنولوجيَّة والمعرفيَّة والثقافيَّة والانسانيَّة والسياسيَّة والايديولوجيَّة والمنطلقات التحفيزيَّة الواسعة، التَّي تطالُ القِوى المدنيَّة في المُجتمعات والقِوى الثقافيَّة والحضاريَّة تلك الَّتي يشهدها المُجتمع المُعولم الحديث، والقِوى النسائيَّة الفاعلة على وجه الخصوص، إذ خلقت مناخاً تحفيزيَّاً وتأثيرياً واسع الانتشار، ناهيك عن خلقها لمناخ روحي شديد التفاؤل بالمُستقبل المُجتمعي والمُجتمع الإفتراضي والرقمي العالمي، فتفتُّقت البيئة المعرفيَّة عن أحلامها وتطلُّعاتها وآمالها وخيالاتها، غير المحدودة وغير المؤطرة على أكثر من صعيد. كما أنَّ السيرورة العمليَّة للنساء العربيَّات، أنتجت مُجتمعاً مُقبلاً على العِلم والعمل والانخراط في مسيرة نضاليَّة طويلة ضدَّ التقوقع المُجتمعيِّ والمؤدلج في مرحلة مُعيَّنة، وقابلت هذه التحدِّيات، على الرُغم من الخوف الذي يُسوِّر فئات مُحدَّدة من المُجتمع العربي، والغيارى على المسار التَّاريخي لسيرورة بعض المُجتمعات والدول، المُسوَّرة أو المحكومة بنظرتها لتاريخها أو لفاعليَّة وجودها، أو لنمط تفكيرها الاجتماعيَّ وعاداتها وتقاليدها، وديانتها، ولربَّما فلسفتها.

فاعليَّة المرأة العربيَّة: حضورٌ مُبدع  واندماج اجتماعيٌّ

ينمازُ المُجتمع العربي، أحد أبرز الكيانات المُجتمعيَّة كبيرة الحجم، بأصالة لغته العربيَّة، ووحدته الاجتماعيَّة والسياسيَّة، وتنوُّعِه الدينيّ، وارتباطه بالحضارات الأخرى المحيطة به، وتلك الَّتي اندمج فيها أو التناسل، أو تعايش معها أو تثاقف من خلالها، عبر فاعليَّة التأثُّر والتأثير في حركة جماعيَّة أُمميَة مُعولمة منذ فجر التاريخ، من ما قبل الاسلام وصولاً إلى العصر الحديث، كوَّنت منه مُجتمعاً ناضجاً ينمو ويتطوَّر بحركة اجتماعيَّة ثقافيَّة مُتعاقبة، تحمل ريادتها الأجيال المستقبليَّة بروح تفاؤليَّة.

وعلى الرُّغم من الحروب في بعض الأماكن، والأزمات الاقتصاديَّة والماليَّة العاصفة، ومفاعيل تأثير جانحة كورونا التَّي ولَّدت عزلاً اجتماعياً، فبقيَت المُجتمعات العربيَّة على اختلاف توجُهاتها وانتماءاتها وعاداتها وتقاليدها، على تماس مع الحضارة المُعولمة والتطوُّر التكنولوجي والرقمي؛ وكان للعنصر النسائي العربي المساحة الواسعة والفاعلة في هذا المجال.

وعلى اعتبار أنَّ الهدف الأساسي للانسان هو تحسين الحياة الانسانيَّةِ برُّمتها، انطلقت المرأة العربيَّة بالعمل على “ذاتها” بادئ ذي بدء، مُدركةً للقوانين الطبيعيَّة وخصوصيَّتها، ومُتفهِّمة لقوانين المُجتمع العربيِّ الأصيل وخصوصيَّتِهِ وفرادتِه وانفعالاته الآنيَّة – اللحظيَّةِ والموضوعيَّة الحق؛ فتمسَّكت المرأةُ بوجودِها الذَّاتي والموضوعي، وبذاتِها المُستقلَّة والفاعلةِ في آنِ، رافضةً المَسَّ برُوحِها النِّضاليَّةِ، وتمايُزها في جوهرِها وحضورِها وملكتها النقديَّة البنَّاءةِ لأفكارها ولمُجتمعها _غير غافلة عن واقعيَّة المجتمع الذي تعيش فيه_ وطموحها الذي يُعتبرُ أحد أهمِّ دعائم وجودِها الانسانيّ وبأُسس عقلانيَّةٍ.

لقد كوَّنت المرأةُ العربيَّةُ مشروعاً انسانيَّاً حداثوياً لبناء مُجتمعٍ بعيدٍ عن الغائيَّة والغيب والتقليد والقوقعة المُحصَّنة، ويتمثَّلُ بالمُبادرة والاستجابة والتحدِّي والتطوُّر والحركة بانفتاح وعقلنة الرؤى، دون المساس بخصوصيَّة كُلِّ مجتمع عربيِّ على حِده.

بناءً عليه فـ “إنَّ مراقبة النفس الانسانيَّة، من خلال العيش الآني لأحداثها، والمُتمثِّل في حياة كلِ إنسان، أو من خلال قراءة تاريخ الانسانيَّة، يؤكِّد أنَّ هذه النفس تمرُّ بتحوُّلاتٍ كثيرة. وهذه التحوُلات تُشكِّلُ تاريخ النفس وحكاية ما يُمكن اعتبارهُ الرُّوح الانسانيَّة باتِّجاه البحث عن إشباعٍ لحاجاته”[3]

وممَّا لا شكَّ فيه، يورد الدكتور وجيه فانوس، حول القيم الجماليَّة لفاعليَّة الروح الانسانيَّة: “وإذا كانت الروح الانسانيَّة هي مُنطلق وجود الجمال، فلا بُدَّ للباحث من أن يأخُذ بعين الاعتبار أنَّ هذه الرُّوح الانسانيَّة حيَّة”[4].  وأنَّ القيم الجماليَّة، هي الأساس الجوهري لمُنطلقاتها الانسانيَّة.

غير أنَّ تساؤلات الاشكاليَّةَ تتكوَّن بطرح أسئلة جوهريَّة، على المستوى العام لحضور فاعل للمرأة العربيَّةِ. هل إجتازت المرأةُ العربيَّة المراحل المُجتمعيَّة والثقافيَّة والإنسانيَّة كافة، بتطوُّرِ دورها، على صعيد مُجتمعها والعالم؛ وها إنَّها اليوم تفرِضُ استحقاقها في أن تكون لها صورة أو صيغة تنماز بها في معظم مضامين الفرح والحُزن، التفرُّد والتطوُّر، الألم والمقاومة، والاندفاع الرافض لتغييبها؛ بعد أن غرفت من أرغفة القهر والظُلم رسالتها الأُممية. فهل شاركت المرأةُ في توسَّع دائرة عيشها، وفرضت كينونتها الوجوديَّة؟!

إنَّ المرأة اليوم التي تُطالب بالتحرُر من ربقة السلطة الذكوريَّة المتحكِّمة بالقرار في المجتمع _ خصوصاً وأنَّ المرء يكون مطمئناً متمسِّكاً بالتقاليد القديمة_ فكيف هي الحال بإمرأة تُطالب بمفاهيم مُستحدثة على بعض المُجتمعات المُسوَّرة بتقاليدها وعاداتها ومفاهيمها المُجتمعيَّة والثقافيَّة، والمكان- زمانيَّة، والمحكومة بالعشائريَّة والفكر القبلي أحياناً، أو الفكر السياسي أو السوسيولوجي، أو الايديولوجي، أو حتَّى الديني، وبعض الثقافات المحليَّة، يكون لزاماً عليها أن تفهم هذه المفاهيم المُقبلة عليها بفعل تطوُّر المعرفة والتثقُّف والاختصاصات الجديدة وسوق العمل، والتكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي ومفاعيل المنصَّات الالكترونيَّة، كي تتيقَّن معنى حريَّة المرأة بتدرُّج وذلك من خلال انخراطها في المجتمع والعمل السياسي أو البلدي أو الانمائي أو الثقافي أو الفني أو التطوُّعي، من خلال المُمارسة الفاعلة والدؤوبة.

ويغدو على هيئات التشريع في الدول العربية أن تضع القوانين التي تحمي المرأة من العنف الأسري، وضمان حمايتها وحماية أطفالها، وحقِّها في التعلُّم والعمل، والتربية، والمسائل المالية وتحسين جودة حياتها اقتصادياً وتقديم كل الدعم النفسي واللوجيستي لها ولأسرتها لتفعيل كفاءتها وحضورها في المجتمع والوطن؛ وتقع مسؤولية كبرى على المُجتمع ومؤسساته المدنية (مدارس ومهنيات وجامعات؛ بلديات؛ مخاتير؛ نوادٍ ثقافية أو محليَّة أو صحيَّة… ) للاشتغال على استحداث وعصرنة بعض المفاهيم في التربية؛ خصوصاً وأنَّ عمليَّة الانتقال إلى الحريَّة بشكل مُفاجئ، والهروب من السلطة الذكوريَّة، سيولِّدون انفجاراً مُجتمعياً، وستعمُّ الفوضى؛ وبذا فإنَّ المرأة ستسعى للانتقام من السيطرة الذكورية بردَّة فعل، وقد تصل إلى مرحلة تغييب الرجل، والوقوف ضد السلطة الذكوريَّة، واستحضار المواجهة مع “الذكر” انطلاقاً من مبدأ الانتقام والقهر، وليس انطلاقاً من مبدأ المساواة والتكامل وتكافؤ الفرص؛ فيكون التعاون بدلاً من التّنازع السلبي. وهذا مُنطلق تدميري لعلاقة الانسان بالانسان.

فكما يقول ابن خلدون: إنّ التّنازع عنصر أساسي مِن عناصر الطبيعة البشرية. فكُل انسان يُحِبّ الرئاسة، وهو لا يتردَّدُ عن التّنازع والتّنافس في سبيلها إذا وجد في نفسه القدرة على ذلك[5].

بناءً لذلك فإنَّ ثورات جمَّة قد هزّت التاريخ في العصور الغابرة حتَّى يومنا هذا؛ علماً أنَّ الناس لا يثورون جرّاء ظلم واقع عليهم، إنّما يثورون جرّاء شعورهم بالظلم. فالشعور بالظلم هو أعظم أثراً في الناس من الظلم ذاته. وهم يثورون ثورة عارمة عندما تنتشر بينهم مبادئ اجتماعية جديدة، فتبعث فيهم الحماس وتمنحهم الاندفاع وقوّة النقد[6].

لا ريب أنَّنا كعرب نقف على اعتاب تاريخنا العربي وتجاربنا بحلوها ومُرِّها، وتجارب المرأة العربيَّة التي وقفت على ضفاف الثورة والتغيير، كما ربتت على يمنى السرير، كما حملت السلاح من الحصاة إلى المدفع، كما ارتقت لتكون السيدة الأولى في وكالة ناسا.

في حين تشي التجارب المختلفة، أنَّ العالم بأسره أمام تجارب لنسوة رائدات في ميادين شتَّى، خرجن من مستنقع الذل والاستسلام. نحن إذاً بصدد إمرأة عربيَّة ذات دور نخبوي مرموق ورسالة تشاركيَّة، وليست أحاديَّة التوجُّه والتوقع؛ وهي مَن أضافت إلى الواقع الحياتي المعيوش والمشهد الثقافي والتفاعلي والتكنولوجي والسياسي وسواه الكثير الكثير، حقيقة مثبتة: أنَّها شريكة أساس في حل القضايا وتغيير المصير، وصُنع القرار.  

من هنا، يُسطِّر تمكين المرأة وحركتها وتطوُّرها، وتسطع ثورتها من خلال حضورها ومُشاركتها بفعاليَّة في المشهد الاجتماعيّ، الثقافيِّ، والأكاديمي، السياسيِّ، الانمائي – الاقتصاديِّ – التكنولوجي، الفنِّي والموسيقي. فعلى الرُّغم من انخراط المرأة مُجتمعيَّاً وتمايزها بطاقات وقدرات ومواهب، وهي قادرةٌ على رفد الفكر المعرفي بأنموذج ثقافي جديد، عصري ومتميِّز يشي بفاعليَّتها ثقافيَّاً، غير أنَّ معوِّقات كثيرة تعترضُها، منها الوضع الاجتماعي المُسوَّر بقوانين وأنظمة أُسريَّة أو قبليَّة، أو ايديولوجيَّة بذاتها، أو حتى الدينية منها، أو العادات والتقاليد وبعض المفاهيم الموروثة اجتماعياً، تمنعها من الانخراط او الاختلاط في عالم الرجل؛ أو لعدم إيمان المرأة بالمرأة نفسها؛ ولرُّبما كانت قلَّة ثقة المرأة بمؤهلاتها وقدراتها الذَّاتيَّة، سبباً وجيهاً في صدِّ أو تغييب انتاجها الفكريّ والمعرفيّ ومقدرتها التعبيرية المميزة عن دُنيا اللغة والأدب والنقد… .

اليوم، تسطع الفاعليَّة النسويَّة في المشهد الثقافيّ العربيّ، مدعومة من البرامج الثقافيَّة على صعيد الدولة ومؤسَّساتها (وزارة التنمية، وزارة الثقافة، وزارة التربية وسواها). وهي المؤهَّلة لخوض غمار ميادين التربية والعِلم تماماً مثلها مثل الرجال، تفوَّقت عليهم بقدراتها الطبيعيَّة والذهنيَّة في عالم المال والأعمال والاقتصاد، والطب والهندسة، العلوم الانسانيَّة والاجتماعيَّة، والصحافة، والقطاع الأمني والعسكري،  والتكنولوجيا، والعلوم الفلكيَّة، والآداب والحقوق، والفنون (مسرح، موسيقى، أزياء، رسم تشكيلي…) وغيرها من الأعمال الانسانيِّة.

المرأةُ العربيَّةُ : سفرُ النخيل الممهورة بعروبة الأصالة

 (المرأة الفلسطينيَّة رمزية الحُبِّ العظيم_ أنموذجاً)

تُشكِّل المرأة العربيَّةُ ذاكرة جماعية، متسلسلة وشاملة؛ وهي الحبيبة والمحبوبة والرفيقة المؤنسة لأبنائها بلون العينين يشعُّ بارقة معنى متمايز تخضَّل به عيون الأُمهات:

لونُ عينيك حصادٌ   لون عينيكِ بيادرْ

لون عينيكِ كِفاحُ    وطني فيه مُسافرْ

وصبورٌ لون عينيكِ كأم[7].

وتتوالى على المرأة الفلسطينية الأحزان، فتراها مصلوبة على حائط الانتظار، تفتِّش في عيونِ المارة عن وليدها. ويّذكِّرنا هذا المُعطى بأُمِّ الشاعرِ العربي أبي فراس الحمداني، واصفاً حال أُمِّه يوم كان في السجن:

عليلةٌ بالشَّآمِ مُفرَدَةٌ         باتَ، بأيْدي العِدَى، مُعَلَّلُهَا

تسألُ عَنَّا الرُكْبَانَ جَاهِدَةً     بِأَدْمُعٍ مكا تَكَادُ تُهْمِلُهَا[8]

كما تتمظهرُ بقوَّة حضورها في المناسبات المصيريَّة لأبنائها، على الرُّغم من غيابها الجسديِّ –الماديَّ؛ يقول الشاعر:

ودَّعتُ سجَّاني. سعيداً كان بالحربِ الرخيصهْ

آهٍ يا وَطَنَ القُرُنفلِ والمُسدَّس، لم تكن أُمِّي معي[9].

أضف إلى أنَّ تجاربها تشي بتحوُّلات جمَّة في ملامح واقعها المُتجسِّد بالخيبة المؤدِّية إلى القهر لفقدانها وليدها:

ولا تطرُقي.. !

فوجهُكِ هذا الحزين

سأنساهُ في فرحة المعركة..

ولا تشفقي.. !

فلي مأرب في المنون

أضُمُّ عليهِ العيون

فأمشي إلى مطلبي

بصبرِ نبيٍّ، وعين نبيٍّ

لعلِّي أن أدركهْ

لدى فرحَةِ المعركهْ..

مصيري … مصيركِ بين الحِرابْ

وهذا الذهاب[10].

وها إنها تعيش النكبة ما بين مخيماتها والسبي بمدلولها “الغربة”. وإنَّما لفظة “السبي” ههنا، قد طرأ عليها تطوُّر بانتقال مدلولها من المعنى الحقيقي إلى معنى المرأة المطرودة المُبعدة عنوةً عن وطنها، في تصوير مشهديَّة الغُربة والقهر وانعدام المساواة والتشرُّد:

تنقَّلتُ عَبْرَ المُخيَّم فاستقبلتني عصافيرٌ مذبوجةٌ

تُلْقِمُ الجمرَ أبناءها وتطيرُ إليَّ

انتفضت، فكان السبايا على رمية من ندائي

واشتعلنا[11].

وفي مشهدِّية إنسانيَّة مُرعبة، تتفجَّع مكنونات أُم، قهراً وتضرُّجاً بتشرذم أوصال وحيدها:

من وحيدٍ لأُمِّهِ وأبيه

جمعوهُ مًفرَّق الأوصالِ [12].

والخسارة بعدما فرضت عليها تلقي الهمجيَّة والتعذيب تتوالى النوائب عليها، بسلب أجزائها، كما سُلِخت عن فلسطين مُدنها وناسها:

يا أُم.. وقُبيل خطوته الأخيرهْ

في هذه الأرض الضريرهْ[13].

 فيُصيبها ضباب الفجيعة المؤلمة، في مشهديَّة توصيفيَّة هذه الأرض هي أُمي:

ردِّي على ابنك…

إبنًكِ المفجوعِ .. يا أرضي[14].

يمكن الحديث ههنا، عن ارتباط الوليد بأمِّه، سواء كان في مرحلة الطفولة أو رجلاً أو أديباً …، ارتباطاً معنوياً، مشدوداً بوثيق العُرى نفسيَّاً واجتماعياً، بكينونة الأمومة، مصدراً للطمأنينة، ومسرحاً للشعور، وملقى للحظات الهموم، وملجأ لدفين الشعور، ومطوى للأسرار؛ فيحوم وجهها مطوافاً بين الحنين ومهد الذاكرة والحضور.

 وتنماز الأُم برمزيتها العطف وموطن السُكنى، ورمزية الحب والحُزن، وذاكرة عيش الوطن بالحضور والغربة. إلى جانب انخراطها بفاعليَّة بالعمل والنضالات المستمرة في مختلف الظروف، من دون ملل[15] أو كلٍّ[16]، تختبر المغالبة والصبر والأناة. فترى الشاعر يُناجي أمَّه:

يا أُمُّ ، يا سفرَ النخيل، العمرُ، يا ثوب الحِداد !

أأعودُ ؟ كيف أعودُ ؟ [17].

***

يشع وهجُ ودور المرأة في عمليَّةِ التطوُّر الذَّاتيّ والمُجتمعيّ والإنسانيّ عبر التغيير الايجابي؛ انطلاقاً مِن المفاهيم الجديدة المعصرنة، الذي يتمثَّل بمفهوم تسارع حركيَّة التّطور والتحديث.

أضف إلى كل ذا، أنَّ دور المرأة العربيَّة الّذي يسطعُ من خلال العمليَّة التطويرية لحضورها، وفي سياق ممارساتها الحيَّة والفاعلة في المُجتمع، عبر تقديمها أنموذجاً مُختلفاً للهُويَّة الفرديَّة والمُجتمعيَّة، ولممارسة السلطة واكتشاف الامكانيَّات الذّاتيَّة _ الفرديَّة وتحفيزها وتنشيطها، في مختلف فروع المعرفة الانسانيَّة، لتُفعِّل انتماءً عروبيَّاً أصيلاً يشدُّ أزرها إلى معنى الوجود والعودة، بمكانتها السامية تقديراً، وعميق المغزى.

****

الدكتورة منى رسلان

أستاذة النقد الأدبي والمنهجية

كليَّة الآداب والعلوم الإنسانيَّةِ _ الفرع الأوَّل _ الجامعة اللبنانيَّة

بيروت – الخميس 7 آذار / مارس 2024


[1] _ الوردي، د. علي. مهزلة العقل البشري، عن كتاب العاقل. http://www.adultpdf.com    ص 21.

كان أول إصدار لكتاب «مهزلة العقل البشري» في طبعته الأولى عام 1959، وفي طبعته الثانية عام 1994. صدر عن دار كوفان لندن، توزيع دار الكنوز الأدبية بيروت لبنان.

[2] _ مانهايم، كارل. كتابه الأيديولوجية واليوتوبيا”.

[3] – فانوس، الدكتور وجيه. محاولات في الشعري والجمالي. (دراسات في قضايا النقد الأدبي). إتِّحاد الكُتَّاب اللبنانيين؛ بيروت، 1995. ص 39.

[4] _ فانوس، الدكتور وجيه. محاولات. ص 38.

[5] _ الوردي، الدكتور علي. مهزلة العقل البشري، عن كتاب العاقل. http://www.adultpdf.com      ص 115.

[6]. الوردي، الدكتور علي. مهزلة العقل البشري، عن كتاب العاقل. http://www.adultpdf.com      ص 115.

كان أول إصدار لكتاب «مهزلة العقل البشري» في طبعته الأولى عام 1959، وفي طبعته الثانية عام 1994. صدر عن دار كوفان لندن، توزيع دار الكنوز الأدبية بيروت لبنان.

[7] _ حسين، راشد. الديوان. دار العودة، بيروت. 1970. ص 22.

[8] _ الجمداني، أبو فراس. الديوان. شرح: الدكتور يوسف فرحات. دار الجيل، بيروت. الطبعة الأولى، 1413 هـ / 1993 م. ص 271.

[9] _ درويش، محمود. الديوان, دار العودة، بيروت. الطبعة 14، المجلَّد الأوَّل. 1994م. ص 287.

[10] _ سليمان، سهيل: “كمال ناصر: الشاعر والأديب والسياسي”. دار الأصالة، بيروت- لبنان. الطبعة الأولى، 1406 هـ ، 1986 م. ص 286-288.

[11] _ دحبور، أحمد. الديوان. دار العودة، بيروت. 1983م. ص 210.

[12] _ طوقان، إبراهيم. الديوان. دار العودة، بيروت. 1988 م. ص 454.

[13] _ القاسم، سميح. الديوان. دار العودة، بيروت. 1973م. ص 454.

[14] _ القاسم، سميح. الديوان. ص 486.

[15]_ عطوات، محمَّد عبد عبدالله. الإتجاهات الوطنية في الشعر الفلسطيني المعاصر. دار الآفاق الجد\يدة، بيروت. الطبعة الأولى، 1419 هـ، 1998 م. ص 591. 

[16] – ابن منظور. لسان العرب. مادة: كلل.

[17] _ دحبور أحمد. الديوان. ص 71.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات