وجوه الفيوم … غموض الموت بألوان الحياة

11:29 مساءً الأحد 6 يناير 2013
سماح أبو بكر عزت

سماح أبو بكر عزت

كاتبة بجريدة الوطن المصرية ومجلة العربى الصغير الكويتية

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

قطعت وجوه الفيوم رحلة طويلة لأكثر من ستة عشر قرنا

( لوحات لشخصيات ذات نظرات حادة و عميقة خرجت لتوها من سر توابيتها لتجعل من يقف أمامها و يتأمل نقوشها يشعر بالحياة و بالغموض فى آن واحد ، و برغم مرور عشرات القرون فماتزال شخصيات تلك الوجوه تفيض بالحياة و كأنها تعيش بيننا ، من ينظر إليها يشعر و كأنها تمتلكه وتحتويه و هى ترمقه بنظراتها الثاقبة و عبثأ يحاول الإقتراب منها فتزداد هى غموضاً بل و تنقل من يتأملها لعالم يسبح فى الروحانية )

تلك كانت الكاتب الفرنسى الشهير ( أندريه مالرو) عن وجوه الفيوم عندم وقف امامها متأملاً و متساءلاً و حائراً ..

فلم يحظ موضوع أثرى بهذا الزخم الهائل من الغموض و الأسرار و الحيرة والروعة مثلما كان إكتشاف وجوه الفيوم التى تعد واحدة من اهم المكتشفات الأثرية فى القرن العشرين ، تناغمت لوحات الفيوم و تقاطعت مع محاور عديدة منها العقائدى و الدينى و الأثرى و الفنى و عكست مناخاً فريداً لكيفية تبادل وتزاوج الثقافات بين الشعوب ..

وجوه الفيوم دراما مفعمة بكل أسئلة الدهشة لكن المؤكد ان هذه اللوحات تعد حلقة الوصل الوحيدة بين فن التصوير قديماً و فن العصور الوسطى مما جعل لها أهمية تاريخية فريدة بالإضافة لما يشع منها من سحر آخاذ من الناحية الفنية والجمالية ..

قطعت وجوه الفيوم رحلة طويلة لأكثر من ستة عشر قرنا من الزمان حيث يرجع تاريخها الى الفترة ما بين منتصف القرن الاول و حتى القرن الرابع الميلادى وعلى الرغم من إرتباط تلك اللوحات بمنطقة الفيوم وخاصة الجبانة الرومانية فى هوارة ، حيث عثر عليها عالم الآثار البريطانى ( بترى ) عام 1888م ، إلا ان اول مجموعة من وجوه الفيوم وصلت لأوروبا تم إكتشافها فى سقارة فى منتصف القرن السابع عشر بواسطة احد النبلاء الإيطاليين كانت معرفته بمصر تقتصر على بعض الإشارات العابرة فى العهد القديم و ما كتبه عنها ( هيرودت ) عندما قام اليها برحلته الشهيرة اليها فى القرن الخامس قبل الميلاد ولم يكن حجر رشيد قد باحت نقوشه بعد بسر اللغة الهيروغليفية .. و لم تكن طلائع بعثات التنقيب و البحث عن الآثار قد عرفت طريقها لمصر ، فكانت صورتها فى خيال الأوروبيين غامضة ، فكان لظهور وجوه الفيوم فى تلك الفترة المبكرة هو بمثابة بصيص من الضوء ينطلق من مصر يبشر بميلاد عهد جديد من المعرفة بمصر كأصل من أصول الحضارة الإنسانية و منارة للثقافة والفن ، وموردا لا ينضب للعلم والمعرفة ، فالروعة و الإبهار وقوة التأثير التى تتميز بها

تنبع من قدرة مبديعها و تمكنهم من فن تصوير البورتريه و مهاراتهم فى محاكاة الطبيعة مما جعل لوحاتهم تفيض بعمق المعنى و قوة التأثير و القدرة على إثارة الخيال ..

من خلال غلالة رقيقة من الالوان تنقلنا وجوه الفيوم للقرن الاول الميلادى عندما التقت ثلاثة من اعظم الحضارات التى شكلت نقوشها تاريخ الانسان ، وهى الحضارات المصرية القديمة و اليونانية و الرومانية ، التقت على ارض واحة الفيوم ليس فى حرب بينها بل فى حوار و تفاعل بين ثقافاتها ، فكانت وجوه الفيوم إختزال رائع لهذا الحوار جمعت بين فنون و اساليب التصوير القديمة فى اليونان و فن البورتريه الرومانى و فن التحنيط المصرى ، ووجوه الفيوم عاش اصحابها فى واحة الفيوم التى كانت محور اهتمام ورعاية فى العصر البطلمى حتى اصبحت اكبر منافس لمدينة الاسكندرية العاصمة وعندما زالت دولة البطالمة و انتقل الحكم للرومان ، ظلت للفيوم اهميتها و استمرت فى ازدهار من منتصف القرن الاول الميلادى الى منتصف القرن الرابع ، كان يحيا على ارضها مجتمع اشبه بلوحة من الفسيفساء ، مكون من جاليات وافدة اليه سعيا وراء حياة تتسم بالرخاء و الرفاهية التى كانت سائدة فى الواحة آنذاك ، فمنهم الرومان والأفارقة و المهاجرين اليونان ، جميعهم يعيشون معا فى حب و سلام .

كانت وجوه الفيوم ترسم اثناء حياة اصحابها خاصة خلال سنوات شبابهم ، لتخليد ملامحهم بما فيها من جمال فى اجمل سنوات عمرهم ثم يحتفظ الشخص بصورته معلقة على جدران مسكنه حتى الوفاة ، لترفع وتوضع داخل اللفائف امام وجه المومياء فيبدو كما لو كان بنظر من خلال نافذة من داخل المومياء ، انتشرت وجوه الفيوم فى متاحف العالم بشكل مدهش يعكس مدى تأثيرها ..ففى اوروبا يضم متحف اللوفر بباريس بعضاً منها ، ايضا بعضها يسكن المتحف البريطانى بلندن و متحف مانشستر و بالطبع متحف الاثرى بترى مكتشف وجوه الفيوم ، اما فى المانيا ، فقد وزعت وجوه الفيوم بين متحف برلين و شتوتجارت فيما ذهبت فى الولايات المتحدة الامريكية الى نيويورك بمتحف المترو بوليتان و بروكلين ، كما طارت الى متحف بوشكين فى موسكو يبنما فى مصر يحتضن المتحف المصرى وجوه الفيوم كما يسكن بعضها المتحف اليونانى والرومانى .

غموض الموت بألوان الحياة ، هذا ما عبرت عنه وجوه الفيوم التى تشع منها نظرة ساحرة غامضة ،تنقلنا لعالم الماضى بنقوشه العتيقة التى يفوح من ثناياها عبق الاصالة و الجمال

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات