بقلم طارق العمراوي، تونس *
لكن، رغم قدم بيتها المتواضع وتآكله، إلا أنه يمثل جزءًا مهمًّا من ذاكرتها وذكرياتها الحلوة والمرة مع مكتبة نهلت منها الكثير، وقد تنوعت مضامينها من: “قصص النَّاسِ النَّاجحين، حكايات الجنِّ والعفاريتِ والأقزامِ والسَّحَرةِ، كتب رحلاتٍ، كتب حكمةٍ، كتب شِعرٍ، وكتب تتحدثُ عن اللهِ والأرضِ والإنسانِ والحيوانِ، وكتابان لا يغادرانِ وسادتها: كتابُ مزرعةِ الحيوانِ، وكتابُ ألفِ ليلةٍ وليلةٍ”، لنجد في المقابل مكتبةَ القصر عامرةً، حتى إنها ودَّتْ لو تعملُ أمينتَها “لو لم تكنِ الوظيفةُ مشغولةً منذُ ثلاثينَ سنةً مِن قِبَلِ أمينِ المكتبةِ العجوزِ المثقّفِ ثقافةً رفيعةً؛ فهي تجيدُ القراءةَ أكثرَ من أيِّ عملٍ في العالمِ”، ولكنها اكتفَتْ بأن راحَتْ تصنِّفُها حسبَ موضوعاتِها، مُساعِدَةً أمينَ المكتبةِ الّذي طالما نصحَها بقراءةِ كتبٍ رائعةٍ، وطالما قرأتْ له بصوتٍ عالٍ كتبًا أُخرى اكتشفَ معَها أنَّ “الفتاةَ ذوّاقةٌ، وتحملُ بين كتفيها رأسًا أكبرَ بكثيرٍ مِن رؤوسِ أندادِها”.
أما شخصيات القصة، فلكل منها دور يخدم القصة في مسارها، وأهمها: شخصية البطلة الفتاة (خشبونا) التي جمعت ما لا يُجْمَع؛ فقد كانت مثققة، محبة للكتاب، قارئة له، مفعمة بالحيوية والنَّشاط، مقبولة ومحبوبة عند الجميع من رجال قريتها ونسائها إلى جمهور العَاملين في القصر، حتى أجمع الجميعُ أنها عاقلة، وذكية، واختصر صفاتِها الفكريةَ الأميرُ وقتَ قال: “لا أعرف أنَّ في شعبي فتاةً تملكُ هذا العقلَ الرَّاجحَ”.
إضافة إلى ذلك، كانت (خشبونا) حكيمة، أبهرت الأمير في أكثر من موضع بطريقة حديثها وفهمها للحياة والمجتمع، بحيث يتوقع القارئُ صراعًا بين شخصيةٍ حصيفةٍ تقابلُ شخصيةَ الأمير “الطائش، المُغامِر، الضاحِك، الذي يحبُّ اللَّعبَ والتَّسليةَ وكأنَّه ابنُ خمسِ سنواتٍ لا ابنَ عشرين سنة؛ لكنَّ هذا لا يمنعُ كونَهُ طيبَ القلبِ، خجولاً، وذكيًّا، وهي صفاتٌ إيجابيّةٌ تغفرُ صفاتِهِ السّلبيةَ” وأسوأها “التّنمر”.
ولكن الصّراعَ لم يقع، بل ظلَّ أقرب إلى التّحدي الذي كبرَ، فكان له تأثير إيجابيٌّ حوّلَ الأميرَإلى شخص آخر راشد، مهتم بشؤون مملكته ورعيته، باحث لهم عن حلولجدّيّةٍ لمشاكلَ لم يكن يعرفُ عنها شيئًا، وذلك بعد أن قدمت له (خشبونا) نماذجَ “مبدِعين مُهْمَلين” من “رسامينَ ومُغَنّين وعازفينَ وشعراء وكتّاب ومفكرين يحتاجون إلى القليلِ مِن الرِّعايةِ والاهتمامِ ليُبدعوا”، وتقصدُ بالرّعاية، رعاية الحاكم الذي بيدِهِ رفعهم أو كسرهم.
ولم تنسَ أن تلفتَ الأميرَ إلى شعبِهِ الذي “فيه مَنْ يعيشُ في الأكواخِ الموبوءةِ، متسربلًا بأسمالٍ باليةٍ، جائعًا، محتاجًا، فقيرًا إلى الخبزِ أو المأوى أو الحنانِ أو الكرامةِ، أو إليها كلِّها مجتمعةً”، وذلك بعد أن قارنَتْ حياتها، قبل القصر وبعده، بحياة الشعب مبدِعًا ومهمَلًا، أو بسيطًا فقيرًا لا يجد لقمةً يأكلها، محذِّرةً المتنمّرَ العابثَ أن (مملكة السَّلام) يمكن أن تتحول- كما كل الممالكِ في التّاريخ القديم والحديث- إلى نقيضِها، إذ ليسَتْ سوى مملكة “تقبعُ على فوهةِ بركانِ ظلمٍ سينفجرُ يومًا ويحرقُ الأخضرَ واليابسَ، فتصبحَ (مملكةَ الحربِ)” بسبب إهمالهِ الذي لا يقل ظلمُهُ عن الظلم المُتَعارَف عليه.
وحمَّلت الكاتبة (إيمان بقاعي) نصَّها السَّردي الكثيرَ من الرسائل المهمة التي تشكل شخصية الطِّفل القارئ، أو الناشئ، فاتحة أمامه حقولًا مجتمعيَّةً ونفسية وبيئية وجدلية من خلال الأقوال والأفعال، مثل “الجاذبية” التي هي “أهمُّ من الجمالِ”، رادَّةً على تنمّرِهِ بعد تأمُّل وجهها الذي يكادُ يخلو من الجمال، بينما ينبض بـ“الجاذبية”.
كما أن الكاتبة أشارت إلى أن الصَّدَقة لا تصبح قانونًا، والتَّفاعل الإيجابي بين الناس لما فيه خيرهم. فلقد استطاعت البطلة تحويل الأمير من طائش غير مهتم إلى حكيم يدير شؤون مملكته إذ في النهاية، استمع إلى نبضِ رعيته، وأمر ببناء المدارس والمعامل والمشافي وتقديم جوائز للمبدعين، وشهد أنه مع الوعي جدد نفسه وتجدد معه وكأنه يولد من جديد كما ولدت هي الأخرى من جديد بعد أن اختارت أن ترحل إلى مستقبلٍ أفضل، فحصل ما أرادته وبلغت وشعبَها مناها.
……………………………………….
مؤسس جمعية الصحفيين الآسيويين، ناشر (آسيا إن)، كوريا الجنوبية
الرئيس الشرفي لجمعية الصحفيين الآسيويين، صحفي مخضرم من سنغافورة
روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.
آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov
كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.