تاريخ حياة طاغية: سارتر يكتب عن ثورة مصر 2013

10:41 صباحًا الثلاثاء 29 يناير 2013
محمود قاسم

محمود قاسم

ناقد وروائي من مصر، رائد في أدب الأطفال، تولى مسئوليات صحفية عديدة في مؤسسة دار الهلال، كتب عشرات الموسوعات السينمائية والأدبية، فضلا عن ترجمته لعدد من روائع الأدب الفرنسي.

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

اعتبرتها هدية آخر العمر..

اتصلت بى الدكتورة عبلة إبراهيم، المسئول السابق لإدارة الطفولة بجامعة الدول العربية، وأبلغتنى أن لديها مجموعة الكتب تريد اهدائها إلى أشخاص أو جهات تستفيد منها، وللأسف فإن هذا هو حالنا جميعا، تتكدس الكتب فى أروقة منازلنا، ونريد التصرف فيها قبل الرحيل، فلا نجد من يأخذها، ولو بالاهداء.

ووصلنى صندوق متوسط الحجم، بداخله كنز على بابا العظيم، الكنز هو العظيم، واكتشفت أن هذه المجموعة من الكتب، وهى بحالة جيدة كأنها لم تقرأ، هى نفسها التى تركتها فى شقة أختى بالاسكندرية وتبددت مع مرور الزمن، انها الكتب التى قرأتها فى سن الصبا والشباب الأول، وتكونت منها ثقافتى وأفكارى.. حدث ذلك فى النصف الثانى من الستينيات الماضية، حيث كنا منبهرين بكل مؤلفات هؤلاء الكتاب، ووكان المترجمون فى حالة سباق مع الزمن، خاصة الدكتور عبدالمنعم حفني، لترجمة هؤلاء الكتاب تباعا لجان بول سارتر، والبير كامى، وارنست هيمنجواى، ودوستويفسكى، وروائع المسرح العالمى، وبؤساء هيجو وعناوين من الصعب حصرها.

انتابنى الاحساس أن هذه الكتب هى هدية آخر العمر، انها بضاعتى التى شكلتنى ولازلت منبهراً بما جاء فيها، خاصة مجموعة الأعمال الكاملة لسارتر، بعضها ترجم فى مصر، والبعض الآخر ترجمه سهيل ادريس فى لبنان.. وكان من بين هذه الكتب كتاب خيل لى من كثرة اعجابى به، اننى قرأته فى التخيل، وانه ليس كتابا حقيقيا، الا اننى عثرت على نسختين منه فى الصندوق، هو واحد من السيناريوهات السينمائية القليلة التى كتبها سارتر، يحمل عنوان “تاريخ حياة طاغية” ترجمة الدكتور حفنى، الذى اتجه فى السنوات لعمل موسوعات اسلامية، وأخرى عن اليهود، بعد أن تاب عن سارتر ومؤلفاته.. لكن نحن لم تأتنا هذه التوبة بعد.. هذا السيناريو يحمل عنوان l’engrenage، وهو مكتوب بحرف a فى النص العربى، وقد اختار المترجم أن يعطيه عنوانا تجاريا يعكس موضوع النص.

الغريب أنه بالبحث عن هذا النص فى الويكبيديا الفرنسية، تجد عنه أقل قدر من الكلام، ومن الصعب التعرف عليه،أو وصول معلومات عنه، وهو أمر غريب قياسا إلى أهمية النص، وجاذبيته، خصوصا بالنسبة لنا، ونحن فى بداية العام الثالث من الـ “لا” ثورة، التى لم نعرف كيف نحتفل بها.. فهذا السيناريو لم ينتبه إليه أحد لتمثيله، ليس فقط فى بلاده، بل أيضاً فى مصر، رغم أن الناشر كتب فى الطبعة الاولى والوحيدة عام 1964، أن “جميع حقوق الطبع والنشر والتوزيع والاقتباس والتمثيل محفوظة للمترجم، وان كانت بعض الاذاعات قد حولته إلى سهرة اذاعية فى ألمانيا مثلا، فلم أكن أتصور قط أن هذا النص كان يمكن تقديمه فى فيلم سينمائى فى عهد عبدالناصر، ثم السادات، وان كانت السينما المصرية قدمت أفكارا قريبة فى السنوات الأخيرة من حكم مبارك، مثل “الديكتاتور” و”ظاظا”.

محمد حسنين هيكل يستقبل بمكتبه في الأهرام جان بول سارتر ورفيقته الكاتبة سيمون دي بوفوار، وتوفيق الحكيم

قال المترجم يصف هذا السيناريو انه “يعد بيانا عالميا لفلسفته فى الطغيان والسياسة والحكم ووضعية الانسان”.

والغريب فى الأمر أنه لا السينما الفرنسية، ولا غيرها قد لفت أنظارها هذا السيناريو، لكن لا شك أن السيناريو الذى كتبه جون شتاينبك عام 1953 تحت عنوان “عاش زاباتا” كان أكثر شهرة، إن لم يكن أكثر أهمية، ولا أستطيع أن أتهم المؤلف، انه اقتبس النص الخاص بسارتر أو ان كان قد قرأه، لكن لا شك أن الفيلم الذى أخرجه ايليا كازان فى العام نفسه كان يناقش نفس الفكرة، وبامكانات أكبر، من خلال انتقاله إلى المكسيك، بينما سيناريو يدور فى دولة بترولية غربية، أقرب إلى دول امريكا اللاتينية.

بالطبع كان فيلم كازان هو الأكثر شهرة، وذلك من خلال شهرة وتميز صانعيه، المؤلف، والمخرج، وايضا مارلون براندو “زاباتا” وانتونى كوين، الذى طالب أخيه الثائر أن يحصن ثمار الثورة التى ذاق الأمير لتحقيقها..

هذه الفكرة أثارت شهية الكثير من الكتاب فيما بعد، فكرة أن الثائر يتحول إلى ديكتاتور، تدفعه الظروف أن يفعل نفس الأشياء “الأخطاء” التى مارسها الديكتاتور السابق، الذى كان فى بدايته ايضا ثائر.. وهكذا تتعدد حلقات سلسلة من الديكتاتوريين، يأتون وراء بعضهم، سرعان ما يغيرهم المقعد، وكأنما سارتر قد كتب عما يحدث فى مصر عام 2013.

ترى، لماذا هذا الظلام الشديد الذى دخل فيه السيناريو الذى كتبه سارتر، بينما تألق فيلم “عاش زاباتا” وحصل على المزيد من الجوائز، والشهرة، والمكانة، ولماذا لم ينتبه أحد من المنتجين أو المخرجين لعمله ربما لأن النص تدور أحداثه خارج القارة الأوروبية، وأن فكرة الديكتاتور لم تظهر فى أوروبا بالشكل نفسه، حيث أن هتلر كان ديكتاتورا منذ البداية، ولعل هذا ليس سبباً بالمرة..

من المهم أن نقرأ هذا النص من جديد، ولاشك أن هناك نقاط تشابه بين حصاد الثورة المصرية، وبين ما حدث لـ “جان اجيرا” فى السيناريو.. الذى يبدأ بالثورة فى المدينة، عندما علق العمال فى مؤسسة البترول تمثالا كمشنوق للطاغية، كنوع من التمنى أن يقوم ثوار المدينة بتعليق الطاغية فى حبل المشنقة.

السيناريو يبدأ من أسفل تارة، ومن أعلى تارة أخرى، ففى المشاهد الأولى منه تبدأ أحداث الثورة فى قلب المدينة، حيث حى العمال، ثم ينتقل الحدث بعد ذلك إلى شوارع المدينة الأخرى حيث يحتشد الثوار الذين يحتلون البنايات الحيوية فى الدولة، مبنى التليفونات، ثم تصعد المشاهد لنرى القصر الحكومى، بكل ما به من فخامة وبداخله الديكتاتور وأعوانه، ينتظر وصول الثوار إلى البناية، ويتم ذلك بتفصيلات واضحة حتى يتم القبض على الطاغية، فإذا حليف الأمس هو عدو اليوم الذى يساعد فى القبض على الطاغية.

كاريكاتير كارلوس لاتوف: مبارك في يد خالد سعيد، الذي فجر موته بقسم الشرطة ثورة 25 يناير

الأحداث الرئيسية فى السيناريو تدور فى المحكمة، حيث تتم محاكمة الطاغية، الذى بدأ حياته من الثوار، الفقراء، الرومانسيين، الحالمين، وبنات المكان فإن كاتب السيناريو سارتر، يتعمد أن تدور الأحداث فى الماضى، بدرجات مختلفة، وذلك بشكل مبالغ فيه، من حيث العودة إلى الوراء “الفلاشباك”، فهكذا اختار سارتر أن يحكى قصة صعود الثائر إلى أن أصبح طاغية ثم هذه هى المحاكمة، وذلك عكس السيناريو الذى كتبه شتاينبك، حيث ان الأحداث فى حالة حركة نحو الأمام، منذ بداية الثورة، ثم الجلوس على مقاعد الحكم، والتحول إلى كرسى الطاغية.

الا ان المشاهد الاولى من السيناريو، تتحرك مع الثورة، ولا يبدأ فى العودة إلى الماضى، سوى مع بدء مشاهد المحاكمة، باعتبار أن المحاكمة هنا تتم ضد طاغية استخدم سلطاته فى القتل، حيث يتعمد المحامى الابتعاد قدر الامكان عن الحياة الخاصة وكان اجيرا.. الذى تغير كثيرا طوال الخمسة عشر عاما التى تحول فيها من ثائر إلى طاغية.

فى هذه الثورة، تلعب العواطف، والصداقات، دوراً فى الخصومة، هناك الحاكم، ومعارضوه الذين سيدخلون عليه القصر، يردد فرانسوا، الذى صار معارضا: سنحاكمك.. ويتساءل الطاغية: بأى قانون؟ فيأتى الرد: بقانوننا، وهنا يقرر الطاغية: لن أدافع عن نفسى، حتى تغتالونى اغتيالاً..

المحاكمة التى سيمتثل أمامها الطاغية أشبه بمحاكمة الرئيس السابق حسنى مبارك.. هو صامت لا يتكلم، ولا يعلق، ولا يدافع عن نفسه كل ما فى الأمر انه يتذكر، وتعود الاحداث الى الوراء، من خلال أطراف عديدة تشهد جلسة المحاكمة، التى انعقدت سريعاً، فى غرفة أقيمت ارتجالاً فى صالات الاحتفالات بالنصر، هناك محلفون، وشهود، وحاضرون من مهن وطبقات مختلفة، فالثورة لا تكتمل إلا لو تم الحكم على الطاغية، كى يأتى طاغية جديداً، حيث يردد فرانسوا قائد الثوار، الذى يقول فى حماس: “علينا ألا نعرف الرحمة.. انكم تعرفون هذا الرجل منذ خمسة عشر عاما، وانتم انفسكم اشتركتم فى الثورة الاولى، وحاربتم”.

وحملتموه إلى السلطة منذ سبع سنوات، كنتم ايامها ترون فيه انسب الناس لحكمكم، ولتحقيق الديمقراطية الاشتراكية التى كنا نريدها.. لكنه خان ثقتكم فيه، خان ثقتنا فيه، لذلك سنحاكمه اليوم، وسنطلب اليه ان يسدد الدين ويوفى الحساب..

فى منظور سارتر فان البقاء فى سدة الحكم سبع سنوات كفيلة ان تحول الثائر إلى طاغية فهو سريعا ما يتغير، عندما يجد نفسه فى قصر، او فى شبع بعد جوع.. فتدور دماغه، كما أن سارتر يصف كيف يتم تشكيل لجنة المحلفين بما يقرب التلفيق، فالمحامى الذى توكل اليه المهمة للدفاع عن الطاغية، كان مقربا منه حتى تم القبض عليه، فان “جان” يردد بعد ان صار محاميا للدفاع هذا اقذركم جميعا.

كشف سيناريو سارتر بمهارة ملحوظة التحولات الحادة المنتفعين بالحكم فى كل الأنظمة، مثل ماتير المحامى، الذى سيظل فى مكانه بالقصر، مع “جان” ثم ضده، كما أن الكثيرين يتعاملون مع الطاغية على طريقة “سكاكين البقرة”، حيث سيحملونه وحده كل أخطاء الماضى، لتكون هناك تبريرات للمحاكمة: وجه الثورة لمصلحته واستبدل زعماء الحزب برجال من أعوانه، لقد قضى على حرية الصحافة، وحرق القرى، ونفى الزوجات وباع حقول البترول للاجانب وهذه أكبر جرائمه.. ونحن بالطبع لن نقف ونذكر بما كيل اتهام لحسنى مبارك مماثلة، لكن مسألة بيع حقول البترول “الغاز” بمثابة مصادفة، او قراءة عجيبة.

ويتوقف السيناريو طويلا عند مسألة البترول، باعتباره مصدر قوت الشعب، وايضا للثروة، فهناك اتهام للطاغية ان الطاغية اعطى امتياز استغلال جميع ينابيع البترول لشركة أجنبية لمدة مائة وعشرين عاما، فامتلك الاجانب حقول البترول، اما الاتهام الموجه للديكتاتور فهو لعدم قيامه بتأميم صناعة البترول، ولماذا ساعدت اسيادك الاجانب على ابطال الاضرابات وتفريق المضربين؟

وحسب ما يقوله فرانسوا، فإن هناك ثلاث تهم رئيسية ضد الطاغية: الأولى: الاعتداء على الحريات الاساسية وخنقها واغتيال رئيس تحرير جريدة “الظباء” والثانية: اتباع سياسة تصنيع الزراعة وهو ما يتهم به عصر حسنى مبارك بالفعل، وهى سياسة لم نكن مستعدين لها وسابقة على أوانها، مما استتبع ثورة الفلاحين عليه، لكنه نفى الثائرين، وكان نفيه لهم بالجملة، والثالثة انه تآمر مع الاجنبى على سرقة بترولنا وابقاء العمال اصحابه فى حالة مزريه لا تطاق.

عندما وصل حسنى مبارك الى الحكم، علقت اذاعة مونت كارلو، انه رجل عرف التاريخ وجاء ليكتب سطورا فى التاريخ، وذلك باعتبار ان مبارك كان رئيسا للجنة كتابة التاريخ المصرى فى عهد انور السادات.

وكأنما التاريخ يكرر نفسه، فأمام المحكمة، يردد فرانسوا موجها كلامه الى الجماهير: ان اسباب المجاعة التى نعانيها منذ ثلاث سنوات سببها نقص الانتاج الزراعى وعدم كفايته، وعدم وجود ما يكفينا من عملات صعبة.

والسيناريو يرى أن العيب ليس فقط فى الطاغية، فالشاهد داريو، يرى ان جان سعى الى تحديث وطنه، وتعميم الاستثمار التعاونى، واستخدام الكيماويات فى التسمية، الا ان الفلاحين لم يستوعبوا هذه الاصلاحات، فهم يمثلون شعبا رجعيا متأخراً.. سيتعاملون بالعنف لما بهم من جهل لذا، فان الحاكم الطاغية سيحتاج الى عشرين عاما حتى يتعلم فيها الناس اولا.. وكأنما سارتر يقرأ ما يحدث فى بلادنا منذ اكثر من ستين عاما، حيث ان السيناريو مكتوبا عام 1946.

من خلال ما يردده داريو فى المحكمة، يصف السيناريو كيف يتحول الحاكم الى طاغية: “لم يعد يستمع الى أحد، نفذ مشروعه، ووقع ما تنبأناه، وثار الفلاحون فى كل مكان.. محطمين الدفعات الاولى من الجرارات، وتدخلت الشرطة ثم الجيش.. ولم يتراجع اجيرا، وهكذا صارت اجراءات القمع سمات رهيبة، كانت نتائجها ان تدمرت خمس عشرة قرية تماماً.. وقبض على سبعة عشر ألفا من الاهالى، وقتل مائة وسبعة وعشرون.

فى أثناء المحاكمة، تتجلى مقولة “سكاكين البقرة”، حيث يتكالب الفلاحون لوصف الطاغية بأسوأ الصفات.. كان صبيا شريرا كان دائما متآمرا، وكان يحب الزعامة.. بسط نفوذه على الجميع حتى لقبوه بالمسعور، وهم الذين كانوا يمتدحونه حين كان فى الحكم يزحفون أمامه.

وعند كل شهادة تقريبا يعود بنا السيناريو الى الماضى، الذى يتباين من حقبة لأخرى، مثل المشهد الذى يبين بدايات جان قبل الثورة، من خلال شهادة عشيقته سوزان، يعيشان فى حجرة فقيرة هى تحبه بشد’، وهو بذراع واحدة، يجرى كى يلحق بالترام، هذه المرأة العاشقة تقول فى شهادتها ضده: كان يكره كل رجل بذراعين.. لقد أراد أن يحكم ويسود ويسيطر لأنه عاجز. ولأنه كان عاجزا كره الرجال وسفك دمهم”.

وفى بداية المحاكمة، يقول رجل آخر “الذى تحاكمونه رجل أحببناه ورفعناه الى الحكم، لكنه كذب علينا وخاننا”.

وتبدو شهادة الوصيف الذى عاش خادما فى قصر الحاكم خير دليل على مسيرة حياة الطاغية والتحولات التى حدثت له، كان يرانى قطعة من الاثاث، وظللت سبع سنوات الازمة كظله وكنت ألبسه ثيابه، وفى مشاهد متلاحقة نرى التطور الاجتماعى، والشخص الذى حدث للطاغية، لم يعد يطلب القهوة.. بدأ يطلب.. ويسكى.. والحقيقة أن المشهد الذى يتحول فيه الطاغية من شارب للقهوة إلى مدمن ويسكى لو تم تنفيذه سينمائياً لكان واحداً من المشاهد الخالدة فى تاريخ الصورة السينمائية.

هذا الوصيف سبق له أن قام بأعمال الخدمة للحاكم السابق “ولى العهد” الذى ثار جان وزملاؤه ضده ثم صار خادما لجات عندما وصل إلى القصر، وسوف يصير وصيفا للطاغية الجديد فرانسوا، الذى سوف يمتثل فى المشهد الاخير من الفيلم الى سفير الدولة الاجنبية كى لا يتم المساس بالبترول، وان عليه ان يفعل الاشياء نفسها التى كانت سببا فى ثورة الشعب على جان.

روعة السينما تأتى من خلال الحركة المرنة عبر الأزمنة والاماكن، والاشخاص، فمن خلال محاكمة الطاغية جان، الديكتاتور الذى كان ثائراً، وفى قاعة محكمة، اكتظت بها الجماهير، وأشخاص كثيرون كانوا على مقربة من الاحداث، تنتقل الاحداث عبر السنوات التى حكم فيها جان، وتحول من ثائر إلى طاغية، وتتكشف العلاقات، وما يهمنا هنا ان الفيلم يتحدث عن مفردات الثائر الذى سيصبح حاكما، والثورة التى ستتحول إلى طغيانا، وهى المفردات التى يمكن أن يراها الناس يوم فى الساحة، وان كان سارتر قد أدخل الكثير من القصص العاطفية التى يحبها الناس، مثل الحب المتجاذب المتنافر بين الطاغية، وحبيبته التى يدفعها للزواج بواحد من رجاله، حتى يتفرغ هو للاحداث.

سارتر يحاكم الطاغية

يرى سارتر من خلال أبطال السيناريو أن محاكمة الطاغية ستتحول إلى مناقشة السياسة التى طبقها، وهى السياسة التى كانت سببا فى انفجار الثورة، فالجماهير التى تحضر المحاكمة كثيرا ما تنقسم على نفسها والمحلفون فى المحكمة، يدير بعضهم الأمور بما يتفق مع مصالحهم، فهذه سوزان التى كانت مغرمة بالحاكم قد وضعت المحلفين فى جيبها وطوتهم حتى صدقوا كل ما تقول، انها تحاول الانتقام لانوثتها التى أهملها جان.. عشت معه سنوات وعرفت ما لم تعرفونه، عرفت انه ارتكب جريمة، ويجب ان تضمونها قائمة الاتهام.. وشهادة هذه المرأة كاذبة، كما أنها تشعر بالغيرة من ايلين.

لقد تعارف الشخصيات الأربعة الأساسية منذ فترة طويلة قبل عشر سنوات، جمعهم التمرد، والفقر، والعوز، ولا شك أن هذه الحالة سوف تتغير، بعد أن يصل جان إلى القصر، ويصير حاكما، وتروى سوزان فى شهادتها أن جان كون منظمة ثورية، أشرك فيها رفاقه، وكان يريد الاستئثار بسلطة ادارتها وحده.. وهو يقتل بنجا، الذى ينافسه على مكانته فى المنظة السرية لأنه كان ينافسه، ثم قتل لوسيان بعد سنوات، لأنها كان يحسده على شعبيه.. ثم نكتشف أن جان لم يقتل بنجا من تلقاء نفسه، وانما حدث ذلك بناء على قرار من المنظمة الثورية.

ويشير السيناريو إلى أن الثورة الأولى التى قادها جان ورفاقه، كانت بسبب الرغبة فى تأميم البترول، وقد تجمع العمال فى شكل جماعات صغيرة فى شوارع المدينة العمالية فيستفز جان عمال البترول، لعمل اضراب احتجاجا على الاستعانة بعمال أجانب لادارة البترول بدلا من العمال الوطنيين، فتأتى فكرة احتلال المعامل، وسط مخاوف من اللجوء إلى الجيش، ويردد فرانسوا انه “ما من نصر يساوى خسارة روح بشرية واحدة”.. فرانسوا هذا مات فى سبيل رأيه، لأنه أراد أن يبقى نظيف اليدين حتى النهاية، لكنه مع ذلك شارك فى احتلال المعامل.

والسيناريو يصف كيف قامت الثورة، بواسطة العمال، وكان جان هو المحرك للأحداث وهو يختلف فى رؤيته للوصول إلى الحكم عن لوسيان، وفرانسوا، حيث يعلن جان أنه لا يحب العنف، لكنه مضطر أن يستخدمه، حيث أن جان تعرض يوما للاعتقال من قوات الجيش، وتتم تصفيات داخل التنظيم السرى حين يتم اكتشاف خيانات، ومن هنا تأتى شرعية القتل فى الثورة.

وكما أشرنا، فإن السيناريو ينتقل من قاعة المحكمة ليعود إليها مرة أخرى، بعد أن يذهب بنا إلى الماضى، ففى قاعة المحكمة، تعلو أصوات الثائرين على جان، الذى بدأ حياته ثائراً، ثم تحول إلى طاغية دون أن يريد، ويهتف البعض مناديا بوجوب شنق جان، مثلما حدث فى محاكمات مبارك “اننا لا نتلقى أوامرنا منك، هيا سلمنا الطاغية”. فيسألهم جان: هل تريدون أن تجعلوا منى شهيدا؟

وفى هذا المشهد من المحاكمة يردد فرانسوا، بما يقصد الطاغية: لا نريد انقاذه بل نريد ان نحاكمه معا محاكمة عادلة لا ظلامة فيها.

ثم يعود السيناريو الى الزمن الذى تولى فيه جان السلطة، لقد عين زملاؤه فى الثورة فى مناصب عديدة، ليكونوا على مقربة منه، وفى بداية حكمه، فان جان يقرر تأميم صناعة البترو لصالحه وطنه، لكنه لن يلبث أن يردد: التأميم سابق للأوان، أى أنه يتراجع عن أول قرار ثورى كان عليه أن يتخذه: اجراء الانتخابات سابق لاوانه، والتأميم سابق لاوانه، وحرية الصحافة سابقة لاوانها، وسرعان ما يختلف أصدقاء الامس، أمام التقاعس، لتنفيذ افكار الثورة، ويشعر جان بالغصة لأن صديقه لوسيان بدأ يكتب مقالات ضد سياسته: “تعلم أن صحيفتك هى الوحيدة التى لا تمر على الرقابة لأننى أثق فيك، ولو نشرت هذا المقال فسوف أخسر المعركة وأنا دخلتها لا أعلم نتيجتها.

ويلجأ لوسيان إلى العمل السرى فيطبع صحيفته فى أحد الكهوف، ويلجأ الطاغية الجديد إلى حرق بعض القرى، لاسكات معارضيه، ويتم توزيع الصحيفة بشكل سرى على الناس، إلى أن يتم قتل لوسيان الذى صار معارض.

وفى المحاكمة، يتم اختيار فرانسوا، كى يكون رئيساً للحكومة الجديدة، “سأواصل هذه المحاكمة حتى النهاية، وسأمل الاتهام بوصفى رئيس المحكمة “المنتخب”، لكنى مضطر الآن إلى تأجيل الجلسة، انها نفس المصطلحات التى تستخدم فى الثورات وما بعدها حتى الآن. ففى أول لقاء للطاغية الجديد فرانسوا مع ممثلى الشعب، فانه يقول نفس العبارات الرنانة: أكرر عليكم ان سياستنا ستكون السياسة التى تطالبون بها.. اعنى السياسة الواجبة والتى تنص على وقف كل اعمال الارهاب، واطلاق سراح المسجونين السياسيين، والغاء الاحكام العرفية فى الريف، واطلاق حرية الصحافة، ودعوة البلاد الى الاقتراع لانتخاب الجمعية التأسيسية. وأعرف أنكم تطالبونى باصدار بيان عن سياستنا بشأن البترول والصناعات الأخرى غير المؤممة وسوف اذيع خطابا بالراديو فى منتصف الليل اضمنه كل ذلك، واؤكد لكم ان دم الثوار لن يهدر عبثا فى اى من هذه المطالب.

وبعد هذا المشهد وعندما يتم استكمال اجراءات المحاكمة، يقول جان الى المحلفين: هاهم اولاد قد قاموا بثورتهم ويريدون قتلى، ولكن يسعدنى ان يقتلونى، فقد ثقل على حمل حياتى، وعلى ذلك فلست نادما على شىء.. لا عقلى مقتل بنجا ولا على موت لوسيان، ولا على القرى التى أحرقت، ولو عدت وكانت لى نفس الظروف لفعلت نفس الشىء مرة أخرى، انه القول الذى يردده الطاغية بلا ندم.. لو عادت الايام لفعل الامر نفسه.

وفى خطاب طويل لجان يقول للجمهور الذى يحضر المحاكمة ما يمكن ان نسميه دستور الحكم، او الطغيان: ايها المغفلون الغلابى.. تظنون انكم ستغيرون السياسة لكن كل ما ستحصلون عليه هو استبدال اشخاص بأشخاص “يشير الى فرانسوا الذ1ى عاد الى مقعده” وانت، انت ستسير على نفس سياستى لانه لا سياسة اخرى هناك لتسير عليها.. وستجد الاعذار لسياستك خلال ثلاثة أو ستة أشهر من حكمك.. “الى ايلين وقد ساد الصمت القاعة صمتا مطبقا”. انها قضية العنف، قضية الطغيان، كانت أعمال العنف منتشرة فى كل مكان فى البداية وكنت انا خارج ذاتى متأثرا بما يجرى فلم انس ان جدى كان قرصانا عنيفا”.

أليس ما جاء فى كلمات جان طاغية سارتر، يتكرر الآن فى مصر.. فجان يعترف انه ابن فلاح، عندما هاجر من القرية الى المدينة لم يجد سوى العنف.

جان الذى التزم الصمت فى بداية المحاكمة وترك الآخرين يتكلمون خاصة اعوانه الذين انقلبوا عليه صار فى نهاية الاحداث، هو المتحدث عن نفسه، لبقا، يبرر كيف جعلته وظيفة الحاكم طاغية، وكيف حنث بوعوده: كان مستغلو البترول اقويا.. وكانت وراءهم دولة كبرى تقف فى مواجهة دولتنا الصغيرة، وايامها ادركت ان الذى يهاجم لا يجب ان يهاجم مباشرة، بل عليه ان ينتظر فحالة البلاد تهيىء للثورة، وعليه أن يبقيها كذلك الى ان تتهيأ الفرصة لاشعالها، ويحين يوم تصفية الحساب، وكانت يداى طاهرتين فى الاول، طاهرتين مثلما كانت يدا لوسيان طاهرتين، ولم اكن سعيدا، انما كنت أحس بنفسى قويا ونظيفا.

وفيما بعد يبرر جان ما حدث من قتل لشريكيه، وهو يرى ان القتل فى مثل هذه الامور يجب أن تحدث “لا اريد ان اقتل، اكره العنف” ومع هذا يفعل.. ثم يقول فيما بعد ذلك ومن يومها لم أعد نفسى تغيرت، وقررت فى الاول ان اناضل بسلاح العنف، ونت آمل أن لا استخدمه الا ضد اعدائنا، وادركت انى منسحق وان اسنان القدر تطبق على. وانى لانقذ القضية يجب ان اضحى حتى بالابرياء احيانا.

ويبرر جان كل ما فعله كان يخشى تدخل القوى الاجنبية لسحق ثورته، وسنوات حكمه، لم يشأن أن يدخل بلده فى حرب ويقول ان الناس لم تفهم دوافعه، ولم يكن عليه ان يشرح لهم الاسباب.

المشهد الاخير فى السيناريو، بعد ان يتم اصدار الحكم باعدام جان هذا هو سفير الدولة الاجنبية يأتى الى الحاكم الجديد فرانسوا، ويبلغه بعدم المساس بامتيازات البترول وكان أول ما طلبه فرانسوا هو الكأس، من الخادم نفسه، ويقبل شروط السفير.

“من الافضل كى تستوعب المقال اكثر ان تقرأه من جديد، اذا كنت قد قرأته، وحاول ان تطبق ما كتبه سارتر منذ اكثر من ستين عاما.. على ما يدور فى مصر منذ عامين، وحتى الغد”.

 

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات