كيف أعادت (زهرة) شريان الحياة للمسرح العماني؟

08:17 صباحًا الخميس 31 يناير 2013
محمد سيف الرحبي

محمد سيف الرحبي

كاتب وصحفي من سلطنة عُمان، يكتب القصة والرواية، له مقال يومي في جريدة الشبيبة العمانية بعنوان (تشاؤل*، مسئول شئون دول مجلس التعاون في (آسيا إن) العربية

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

فضاء المكان الطبيعي صنع أبعادا جمالية للعرض

لا يبدو المخرج والفنان عبدالغفور بن أحمد البلوشي يرغب أكثر من التذكير بوجود مسرح في عمان عندما قدم ثلاثة عروض لمسرحية زهرة متخذا من حديقة القرم الطبيعية ملاذا لتقديمها بعد أن عزّ عليه إيجاد قاعة مسرح في العاصمة مسقط، وجعل من ديكور بيت قديم خشبة عرض بعد أن كان المكان حاضنة سنوية لفعاليات القرية التراثية ضمن مهرجان مسقط الذي بدأ (أمس الأربعاء) مغيرا خارطة أمكنته في دورته الجديدة لأول مرة خارج إطار حديقة القرم بعد أن ازداد سخط الساكنين الذين ينغص عليهم المهرجان معيشتهم شهرا بأكمله.

أعاد عرض زهرة بعض الحياة إلى القرية التراثية التي بدت كحارة مهجورة وغاب عنها ساكنوها، وبعض الحياة للمسرح العماني الذي يغيب كثيرا عن الحضور عدا مهرجان محلي يقام كل عامين مخصص للفرق الأهلية، والتي تبقى وحدها تحاول تأثيث المسرح المشهد المسرحي العماني قدر إمكانها وإمكانياتها.

وزهرة صنف على أنه ضمن سياق العروض الممولة من الدولة (وزارة التراث والثقافة) وجاء بسيطا في كل شيء، الفكرة والديكور وزمن العرض الذي لم يزد يصل ثلاثة أرباع الساعة، وفيما كانت الحكاية تنهض في تداعياتها النفسية فإذا بالمخرج يكتب مشهد النهاية، بيع البيت وانتهت القصة!

اختار عبدالغفور البلوشي نصا للإماراتي سالم الحتاوي لقرب أجوائها من العادات العمانية محافظا على تقليدية الفكرة لتقديمها مسرحيا بأقل الممكن من روح التجريب والتحديث على الخشبة، والتي لم تكن خشبة بالمعنى المتعارف عليه فنيا، بل فناء بيت تقليدي قديم في القرية التراثية ووراء البيت بطابقين متخذا من الغرف أشبه بكواليس جاهزة والسلم الجانبي كأنه ديكور معد خصيصا للعرض، معتمدا على الإضاءة في إحداث تغييرات على المشهد الذي جاء على إيقاع واحد حيث الديكور (واجهة البيت) ثابتة، وبقيت حرية الحركة معتمدة على ألوان الإضاءة وتقلباتها بين ليل ونهار، مع مؤثرات صوتية سعت للخروج من تقليدية النص والمشاهد المسرحية إلى لغة عالمية عبر الموسيقى الكلاسيكية العالمية.

استفاد المخرج من فضاء المكان الطبيعي ليصنع أبعادا جمالية للعرض، الشجرة التي تتحدث عنها زهرة هي شجرة حقيقية كبيرة وكذلك النخلة على الطرف الآخر من مساحة العرض، مع فضاء مفتوح جلس فيه الجمهور ضمن نسيج حارة شيدت لتكون نموذجا للحارات العمانية التقليدية، وقدم المخرج تلوينات جمالية، من بينها ساعة على واجهة البيت تبدأ الإضاءة منها في بدء المشهد، ثم تكون النهاية من ذات الساعة (رمز الزمن وتساقط الإنسان) لتهبط الإضاءة على وجه زهرة الواقفة تحتها ليتتابع سقوط بقعة الضوء مع انهيار المرأة العجوز، كأنما الزمن انتهى مع سقوط آخر أعمدة البيت الذين رحلوا جميعا على يد الموت، ورحل فارس دون وجهة واضحة.

أدت الفنانة وفاء البلوشي دور زهرة مجتهدة للقفز بعمرها عقودا من السنوات لتؤدي، وهي الشابة الصغيرة، دور المرأة العجوز التي تنتظر عودة ابنها فارس بعد طول غياب، وتتزين له بما يبعدها عن كونها الخادمة التي رعته منذ طفولته في بيت الرجل الثري الذي كان زوجها سائقا عنده قبل وفاته.

لكن المفاجأة أن فارس يعود متنكرا للمرأة التي انتظرته، هي ليست إلا خادمة حرقت قلب أمه من خلال قصة الحب بينها ووالده الراحل، ماتت الأمه مقهورة بما رأته من انجراف زوجها وراء خادمة سعت لتحويل حب الابن إلينا كما هو الحال مع أبيه، يطرد فارس الخادمة من البيت ويتهمها بالسرقة وتكون نقطة التحول في فتح خزانة الأب.. ومعها خزانة الذكريات، وكما هي مشاهد الأفلام التقليدية (عربية أو هندية) يتضح أن الابن ليس إلا الطفل الذي جاءت به زهرة بعد وفاة زوجها ليشتريه الرجل الثري (شبير العجمي) المحروم من النسل، وأن فارس (وأدى الدور باقتدار عابدين البلوشي) هو ابن الخادمة.

مشهد مفصلي في الحكاية جاء باردا، وسريعا، يخرج ضابط الشرطة (سعيد شنون) الملفات من الخزانة فينظر إليها لحظات، وبها مذكرات الثري الراحل، حتى يعرف سريعا أشياء كثيرة، فيتناولها الولد لتصيبه الدهشة فورا لمجرد أن نظر قليلا لدفتر يوميات والده، الخادمة لم تبق خادمة، والأم الراحلة ليست هي الأم، ولا يجد إلا فكرة بيعه للثري ليلوم أمه عليها والتي تلقي بعبء كل ذلك على القهر، من خلال لغة جميلة وشاعرية أحدثت تأثيرا نفسيا، وقبل أن تعرف أن البيت لها حسب الوصية فإنها تقول للإبن بأن لها من البيت أكثر من أي أحد آخر، كل شبر فيه أحنت ظهرها من أجله ليبقى نظيفا، انتظارا لعودة فارسها، ابنها المسافر، دون أن يعرف أحد أين ولماذا ارتحل كل تلك السنوات الطوال.

تلح كلمة (الشراء) كثيمة تضع تحتها التساؤلات وتلقي بالأجوبة بعيدا عن متناول الشخوص، فالثري يشتري الطفل من أمه، والتي لم تشترط مالا، طلبت فقط أن تبقى خادمة في البيت قريبة من أمها (فكرة تتقاطع مع قصة النبي موسى مع أمه ومع فرعون) ثم مجيء ثري آخر، وفي اجتزاء للأحداث، ليدخل البيت سائلا زهرة عن عدد غرف البيت، وقد اشتراه أيضا، هكذا، لتكتب النهاية قاصمة من خلال نظرات زهرة التي باعت (مرغمة بسبب الفقر وخوفها على ابنها منه) وبيعت (من ابنها حين باع البيت) مع أن أوراق الخزانة تقول غير ذلك.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات