تجلّيات الثّقافة الهنديّة في رواية (حديقة خلفيّة)

11:16 صباحًا الأربعاء 13 فبراير 2013
عبد الجليل.م

عبد الجليل.م

الأستاذ المساعد في قسم العربية للماجستيروالبحوث في كلية الفاروق (كيرلا)، الهند. ينشر مقالاته النقدية في الأدب بمجلة (كاليكوت).

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

أشرف أبو اليزيد، أمام (تاج محل)، أجرا، الهند

تمهيد

التّفاعل الثّقافي واللغوي بين الهند ومصر لا يزال يعطي أكلها كلّ حين، وبصددها هذه المقالة تقصد سرد التّجلّيات الهندية لرواية الكاتب المصري أشرف أبو اليزيد  “حديقة خلفية”.

وقبل الولوج إلى الموضوع أريد أن ألقي بعض الأضواء على حياته وآثاره، هذا هو روائي وصحفي وشاعر وناقد تشكيلي ومترجم مصري الّذي نال شهرة واسعة بين الأوساط الأدبية والعلمية على الصّعيد الوطني والعالمي، ولد في 13 مارس 1963 بمدينة بنها الواقعة على دلتا النيل ودرس الأدب الإنجليزي، واشتغل بالتّرجمة والصّحافة، واشتغل مترجمًا وسكرتيرا للتحرير ومشرفا فنياً بين المجلّات المتخصّصة وشغل منصب المحرّر الثّقافي لوكالة أنباء رويترز (القاهرة)، ثم سكرتير تحرير والمشرف الفني لمجلة أدب ونقد الشهرية المصرية، وسكرتير تحرير والمشرف الفني لمجلة نزوى الفصلية (سلطنة عمان) حتى استقرّ بمجلّة العربي (الكويت).

انبثقت موهبته الشّعرية أولا فأصدر خمسة دواوين متتابعة‏,‏ ثم تحوّل إلي الرواية مثل الكثيرين بعد أن تجاوز الأربعين من عمره وأصدر ـ شاعرا ـ خمس مجموعات شعريّة : وشوشة البحر (القاهرة- 1989)، والأصداف (القاهرة 1996)، وذاكرة الصّمت (بيروت- 2000)، وفوق صراط الموت (القاهرة- 2001). وذاكرة الفرّاشات (القاهرة). وأصدر ـ ناقدا تشكيليّا ـ ’سيرة اللون: تجارب تشكيليّة معاصرة‘، الهيئة المصرية العامّة للكتاب، القاهرة (2003)، وله أكثر من 60 إستطلاع في أدب الرّحلة جمع بعضها في كتابه (سيرة مسافر).

صدرت روايته الأولى ’شماوس‘ عن دار عين في عام 2007 والتي تتناول الحياة المصريّة المعاصرة وتفحصها تحت عدسة تصويريّة بارعة في إطار أحداث سريعة متلاحقة حتى إنّه يمكن اعتبارها نموذجا على الرّواية المشوقة، وتأتي رواية (حديقة خلفيّة) متزامنة مع صدور رواية المؤلّف الثّالثة (31) عن مكتبة المشارق للنّشر والتّوزيع بالقاهرة[3] وله عدد من الكتب في الترجمة وأدب الأطفال.

خلاصة الرّواية

الرّواية تتضمن خمسة فصول، جعل الرّوائي الفصل الأوّل ’جنّة بلا ناس‘ مقدمة للرّواية حيث يلقي الفصل الأول الضّوء على السيّد كمال الشخصية المحورية للرّواية،  صاحب السّراي الوحيد في الكفر حيث تقع سراي السّيد كمال قرب فرع رشيد، أطلق الناس على بيت السيّد كمال إسم (السّراي التي تجري من تحتها الأنهار!) ويطول هذا الفصل حول وصف السّراي وتصوير الحياة الرّيفية المصريّة وصورة البؤساء من الرّيف، وخصائص حديقة خلفية للسّراي والأمور المتعلقة حول توظيف المهندس الزّراعي مجدي محمد الكيلاني في المشتل وبراعته في رعاية المشتل.

وبعد المقدّمة قسّم المؤلّف روايته إلى أربعة فصول : “خريف الغياب”، “شتاء العشق”، “ربيع السّفر”، و”صيف العودة”، ويستهلّ الفصل الأوّل ’خريف الغياب‘ بصباح يوم العيد، ذاك اليوم بدأت نظرات الخارجين من المسجد تتأرجح بين الفرحة والقلق، فرحة بقدوم العيد وقلق من غياب السيّد كمال، ولم يجد أحد ذبيحة واحدة عند باب المضيفة وحين صعدت النّظرات إلى شرفات السّراي ونوافذها المغلقة عادت آسفة، وحين وصل خبر غياب السيّد كمال إلى النساء في البيوت أطفأن النّار التي كادت أن تبخر مياهها تنتظر اللحم، وعدن يبحثن في أركان البيت عن جبن قديم وخبز ناشف وكفاف مقيم. وفي هذا الفصل محاولات الحاج السّمنودي وأبو الهاشم الحاج جمعة وظاظا لأن يجدوا أيّ خبر عن صاحب السّراي.

وأمّا الفصل الثّاني ’شتاء العشق‘ يتناول الخلفيّة الأسروية لمجدي محمّد الكيلاني، هو من قرية منشأة دملو بقلب دلتا نهر النّيل، والده بائع الصّحف من أسرة فقيرة بائسة، وأخذ مجدي الكيلاني بكالوريوس الزّراعة بجهد جهيد وعيّن أوّلا مشرفا زراعيّا بإحدى المدارس القريبة من القرية، وعندما انتقل للعمل في المشتل الخاص بالسّيد كمال شعر أنّه دخل الجنّة، هو يشعر أنّ الأرض ملكه الخاص ، يعطيه ذلك الإحساس صاحبها السيّد كمال وكان السيّد كمال يناجي زوجته الغائبة في حديقته ويتحدّث كأنها بجانبه. وكان لم يرزق بأولاد، ثمّ توفيت زوجه وهو على عتبة الخمسين من عمره، ولذلك اتّخذ من أختيه وأسرة ابن عمه عائلته الكبيرة، وكانت أخته علياء كثيرا ما تأتي لزيارة خالها في الإجازات، وتأتي بصحبة زوجها وابنتها الوحيدة كاميليا الّتي كبرت في كنف خال محبّ لها، وكانت كاميليا تتحدّث إلى مهندس المشتل مجدي الكيلاني، تستفسر منه عن أنواع الورد وكيفية زراعتها، وفي الزّيارات المتكرّرة علّمها مجدي العناية بالورد وألهمته كاميليا كتابة الشعر! ونمت شجرة الشغف بينها وبينه.

وفي الفصل الثّالث ’ربيع السفر‘ يجيء أبو خالد لشراء السّراي، وكان يملك سلسلة من الشركات، منها مجموعة مطاعم أمركية شهيرة، وشركة عقاريّة بدأت تشتري في مصر مجموعة من الأراضي في المدن الجديدة، وفي هذا الفصل نقاش حول المشاكل لأهالي الرّيف عندما يباع السّراي في المستقبل. والفصل الرّابع ’صيف العودة‘ يتناول عودة السّيد كمال إلى الكفر، حيث اتّصل السّيّد كمال بالهاتف وقال لمجدي: سنلتقي فورا، فقد سمعت أخبارا غير طيّبة عمّا يحدث في الكفر، وفرح المجدي بخبر قدومه، انّه لن يرى السّيد كمال وحسب، بل سيلتقي أيضا بزهرته الجميلة: كاميليا. وكانت كاميليا اعتادت أن تأخذ منه باقة الورود، واشتدّ العشق بينهما، وهناك محاولات لشراء السّراي من قبل الأشخاص والشركات مثل شركة ديمة للعقارات، وقد بيّن السيّد كمال لمجدي عن مقاصدهم وحزنه في بيع السّراي في صفحات طويلة، ويتضمن هذا الفصل كثيرا من أحورة العشق بين مجدي وكاميليا، وقد ناول السّيد كمال في أحورته كثيرا من الأحداث السّياسية والتّاريخية مثل ثورة 23  يوليو 1952 وأكاذيب ملوّنة لأمريكا وشؤون يوغاسلافيا وأمثالها، ويتضمن بعض الأحورة كثيرا من العناصر الفلسفية أيضا،  واختار السيّد كمال 23 يوليو عيد الثورة 1952 ليكون يوما إحتفاليّا حيث سيتم به زواج كاميليا مع مجدي الكيلاني في السّراي.

وقد حسد البعض في السّراي في هذا الزّواج وعبّروا عن حسرتهم في اختيار شخص “بلا أصل ولا فصل” والبعض أمثال سنجر وعاصم خطّطوا لبعض الإغتيالات في السّراي بهذا السبب.  وتختتم الرّواية تراجيدية، أي في الفجر بعد ليلة الزّفاف كانت سعدية وصباح قد جائتا في الصّباح الباكر لكي تبدآ في تنظيف السّراي ووجدتا جثّة السّيد كمال بجانب أحد أحواض الورد، وجسده ملطّخ بالدّماء، وعلا صوت البكاء، واستيقظ الّذين باتوا اللّيل في السّراي من مضاجعهم السيد سامي وابنتا عمه وزوجاهما ومجدي وكاميليا، وأخبر السّيد سامي الشّرطة بأن الشّاب المهندس مجدي الكيلاني قتل السيّد كمال ليملك السّراي، وأصبح مجدي الكيلاني مقيّدا وعلا صوت السّيد سامي يبرّر ما حدث “المرحوم  كتب السّراي باسم هذا الرجل، يرثها بعد وفاته، ولكن يبدو أنّ عديم الأصل وناكر الجميل طمع فيها وأراد الحصول عليها بأسرع ما يمكن” وانهارت العروس كاميليا وسقطت مغشيا عليها … وها يقول الدكتور صلاح فضل عن ختام الرواية “, لكن القدر الذي كان يدخّر لهم أفجع الكوارث لا يلبث أن يداهمهم بصبح دام, حيث تكتشف جثة السيد كمال مقتولا, ويصرّ أقرباؤه علي توجيه أصابع الاتهام للعريس بدعوي الطمع في امتلاك كل ثروته والبدء بتخزينها في حجرة البستنة, ويساعد موقف العروس السّلبي وعدم دفاعها عن زوجها في تعتيم القضية, ويؤثر المؤلف أن يختم روايته بهذا المناخ الضبابي المبهم الذي يبدد احتمال الطابع التوثيقي للرواية من ناحية, ويهتك غلالتها الرومانسية الغرامية من ناحية أخري, دون أن يشفي غليل القارئ في كشف الجريمة بوضوح أو يفرض علي نهايتها جلال المأساة ووقعها القدري المهيب, بل يتركها في منطقة الميلودراما (Melodrama) المفعمة بالعواطف الجارفة[4]“.

أصداء رواية (حديقة خلفية) في الإعلام الفارسي

“حديقة خلفية” في ميزان النّقاد

يلاحظ الدّكتور صلاح فضل في مقالته “أشرف ابو اليزيد ينسق حديقة خلفية” في جريدة ’الأهرام‘[5]: “ويبدو أنه في هذه الرواية الجديدة “حديقة خلفية” كان يزمع القيام بدور المؤرخ التوثيقي لأحد رجالات المنطقة التي ينتمي إليها, لكنه لم يلبث أن عدل عن ذلك وسمح لخياله أن يقوم بتخليق حيوات أخري ومصائر مغايرة, فاكتفي بجزء يسير من سيرة هذه الشخصية وقام بإدراجها في نسيج روائي متخيل, احتفظ فيه بالطابع شبه الأسطوري الذي تخلعه القرية علي كبار بنيها المسئولين عادة, لينطلق منه إلي تجسيد صراعات الشهوة والمال”.

وقال الناقد فتحي العشري “إن (حديقة خلفية) تمثل الأدب الجديد، والرواية الحديثة، وقد كتبت بأسلوب سلس، ولغة بسيطة، رغم ما في موضوعها من تشابكات، الذي يقترب من التحليل النفسي أكثر من سرد الوقائع، فضلا عن أن (حديقة خلفية) تكاد تكون لوحة تشكيلية، فكل سطر، وكل فقرة، وكل صفحة، وكل جزء بمثابة ريشة تكمل اللوحة الأكبر، حتى تكتمل في النهاية، رغم ما وصلت إليه من مأساة، تعبر عن دفائن الشخصية المصرية، وتكشف أبعاد تلك الشخصية في الأوقات العصيبة، رغم ما كانت عليه في اعتقادنا مثالا للطيبة والشهامة، وكل الصفات الجميلة، ولكن تظهر من حين لآخر وخاصة ما ظهر بعد ثور 25 يناير، رغم ما يجب أن يدفعنا للالتفاف حول هذه الثورة المجيدة وأن نتغير إيجابيا، لنجدد جلدنا وأفكارنا ومفاهيمنا، كي نصنع بلدًا جديدًا، ويولد شعب جديد، وهو ما لم يحدث بسبب أياد خفية، على حد قول الناقد الكبير، الذي أكد على أنه لم يفقد الأمل في التغيير نحو الأفضل في المستقبل القريب، وهو ما يجعل الرواية تتماس مع ثورة 25 يناير، رغم عدم تناولها لها، لأن المجتمع الذي يعيش طمأنينة وسلاما تظهر له بين حين وآخر أياد شيطانية، مثل اللّصّين اللذين حاولا سرقة السراي، فيقتلان صاحبها، فاعل الخير، الذي يكاد يكون شخصية خيالية رغم أنه من ضباط ثورة 1952، وتتجه أصابع الاتهام إلى شخص آخر”[6]. وأضاف أيضا أن الروائي جعل النهاية مفتوحة يكاد القارء يكمله. وأما الناقد محمود قاسم فقد رأى في روايتي (31) و(حديقة خلفية) للرّوائي اللتين قرأهما أكثر من مرة، نقاط تقارب أولها وجود أشخاص من دم ولحم في نسيج العملين، يقدمون أحيانا خلال السرد بأسمائهم الحقيقية، كما أن هناك تماسا بين المؤلف والروايتين، فضلا عن كونهما تستمدان منه كما معرفيا كبيرا يعود إلى خبرات الحياة وثقافة السفر ومخزون القراءة، ليقول ها أنذا، ورغم أن المعرفة عادة ما تجمد النص الأدبي، إلا أن أشرف أبو اليزيد يقدم هذه المعرفة بما يتناسب مع شخصياته، ليزيد من ثراء النص[7].

غلاف عدد الربيع الماضي من مجلة (كاليكوت) التي يصدرها قسم اللغة العربية بجامعة كاليكوت، ولاية كيرالا، الهند، تتصدره صورة أشرف أبو اليزيد، رفقة عنوان دراسة عن روايته الأحدث (حديقة خلفية). الدراسة التي تعيد (آسيا إن ) نشرها شغلت عشر صفحات من حيز المجلة (160صفحة) وكتبها الدكتور عبد الجليل م. وضمت المجلة، التي يرأس تحريرها الدكتور محمد عبد القادر، ويدير التحرير الدكتور أحمد إبراهيم رحمة الله، دراسات عن الأقصوصة في الشعر المهجري للدكتور محمد نجم الحق الندوي، وملامح الثورة والتجديد في شعر محمد مهدي الجواهري لعبد اللطيف ب.، والملليباريون في المهجر العربي لعلي نوفل، فضلا عن دراسات عن أعمال الشاعرة اليمنية نادية الكوكباني، والشاعر القروي، والروائيين المغربي محمد زفزاف والسعودية رجاء الصانع، بأقلام عبد المجيد إ. آي.، ومحمد عابد يويي، وعباس ك. ب، وسبينة. ك، وعدد من القراءات والدراسات الأخرى، فضلا عن ملف عن منجز الدكتور أحمد إبراهيم رحمة الله.

تجلّيات الثّقافة الهنديّة في رواية ’حديقة خلفية‘

اصطبغت الرواية بصبغة هندية، في بانوراماها الثقافي الهندي العريق والمتجذّر والحافل بالأسماء والرّموز الفكرية التي رفدت الثقافة الإنسانية بإبداع متميز كمّاً وكيفاً في كافّة مجالات الأدب والثقافة والفكر إلى أن أشارها الناقد الدكتور صلاح فضل بكلمتي “غواية الهند” و”هوس الثقافة الهندية” حيث يقول ” فإن رحلاته إلي القارة الأسيوية علي وجه التّحديد قد جعلته مفتونا بالثقافة الهندية التي تبرز في الرّواية, ابتداء من غلافها الذي يزهو بإحدي منمنمات كاما سوترا إلي صلب الأحداث[8]” ويحمل الكتاب غلافا بصورة من صور أوضاع منمنة هندية كاماسوترا (Kama Sutra)، أن الصّبغة الهندية لم تقف عند الغلاف فحسب، بل خاضت بانورامات هندية أغوار الثّقافة الهندية على دور بطلتها الرئيسية كاميليا، وأنّ لقاءات كاميليا مع أستاذتها الهندية لم تكن سببا وحيدا لهذه الخلفية، فزيارتها للهند وإقامتها فيها لأسابيع بين معابدها وبيئاتها تراقب ثقافتها وتراثها وتعلّمت مالم تدرسه بين جدران الجامعة المصرية وفوق مدرجاتها.

 وتظهر الهند حينما يشتدّ الغرام بين مجدي الكيلاني وكاميليا، وفي يوم من الأيام تأخّرت كاميليا عن المجيئ إلى مجدي الكيلاني فأخبره السّيد كمال بأنها تمارس اليوجا (Yoga) وبعد مجيئجها شرحت فوائد اليوجا لمجدي الكيلاني حيث قالت “أنا أمارس اليوجا وخاصة الآسنا (Asana) وهي أوضاع جسـدية  (Postures) مختلفة تمارس من أجل تنقية الجسد، وتقوية الأعصاب وأحاول أن أجعل من بيتنا هنا مثل المعتزل الروحي”[9] ولمّا شرحت بدت علامات التّسائل والدّهشة على وجه المهندس فأضافت كاميليا شارحة: “علينا أن نتسامى فوق الوعي الجسدي وألا نقيد سلوكه بالاعراف الاجتماعيّة. إن أسمى ما نمتلك هو الطّاقة الحيوية الخلاقة داخلنا. وأنا أمارس أيضا وبشكل متكرر (البندها) (Bandha) وهي مجموعة من تمرينات اليوجا، وخاصة (الراجا يوجا) (Raja Yoga) ذات الثمّاني خطوات، صحيح إن أنسب وقت هو من السّاعة الثّالثة فجرا إلى الساعة السادسة صباحا إلا أنني أحتاج إلى أن اعيش هذه الحالة من الهدوء بين حين وآخر”[10]  وتعيش كاميليا في الرّواية سعيدة في حديقة اليوجا.

من مشاهد كاما سوترا

ومدّت كاميليا يدها بكتاب إلى مجدي وشرحت عن التّراث الأسطوري الهندي (Indian Mythology)  حيث تقول: “تصوّر يا مجدي إنني حتّى وقت قريب في بداية سني الجامعة، كنت أعتقد أننا وحدنا أصحاب الأساطير، وأن تاريخنا وحده هو الأعظم، لكنني بعد قراءة الرّامايانا  (Ramayana) الهندية، وهي أقدم القصائد الملحمية الســــنسكرتية(Sanskrit) Epic) التي تروي سيرة راما(Rama) ، عرفت ضيق تصوّرنا وتضخّم إحساسنا بذواتنا”[11]. فهذه العبارة نموذج فريد للتّواصل الهندي المصري لأنّ مصر والهند تمثلان أعرق الحضارات فى العالم أجمع، كلاهما تملك التراث الأسطوري الهائل، والهند عريقة في الحضاره والتاريخ. وحتى اليوم تجد تاثيرها ممتداً في الكثير من مناطق آسيا. وأديانها الكبيرة: الهندوسية والبوذيه، وفنونها منتشره في معظم دول جنوب وشرق آسيا وحتى الصين واليابان واندونيسيا. وحتى النازيون الذين يدعون التميز والتفوق العرقي ينسبون أنفسهم للآريين. وشعارهم الصليب المعقوف(سواستيكا) هو أحد رموز الهندوسية. وحتى في الدول الإسلامية تجد الرموز والفنون الهندوسية كما في اندونيسيا المسلمة، ف”الجارودا” – شعار خطوط الطيران الإندونيسية – هي من حيوانات الميثولوجيا الهندوسية[12].

وبهذه الخلفية الهندية لكاميليا تأكّد مجدي أن الشّعر الّذي قرأه كان ناقصا، فهاهي عشيقته تفتح له بابا في الشّرق يمرّ منه الشّعر الأسطوري لملاحم الهند. وعرّفته كاميليا إلى آثار الشاعر الدّرامي الهندي الأشهر كاليداسه  (Kalidasa) وقد نقل من كتاب أعارته اياه، عنوانه كوماراسامبافه (Kumarasambhava or Birth of Kumara)، شعر يتجلّى فيه الجانب الشّهواني للشّاعر حين يصف تساقط رذاذ المطر على جسد الربّة بارفتي  (Parvati) زوجة الإلاه شيفه (Shiva) مع مطلع الصّيف أثناء استغراقها في صلاة التوبة.

وشرحت كاميليا لمجدي عن الثقافة الهندية العريقة وفنونها مشيرة إلى كجراهؤ الهند (Khajuraho) :” لا يجب أن يدهشك ذلك النثر الصافي بالغزل الحسي، لأن مما يسترعي النظر والدهشة والتعجب، أن تمثيل الجماع الجنسي فوق الأبواب بالآثار الهندية، قد نشأ أيضا بكهف بوذي  (Buddhist) ديني، حيث تصور النقوش المنحوتة ثنائيات العشاق (Erotic Sculptures) ، جنبا إلى جنب مع ثنائيات الجماع، كما تمثل رجلا يحمل إمرأة عارية، وما من شك في أن تصوير مثل هذه المشاهد يتعارض مع مبدأ الإعراض عن المتعة والمباهج من أي نوع كانت، المنقوش بوضوح فوق مدخل هذا الكهف المخصّص للرّهبان البوذيين المعتزلين! وباستعراض صيغ العشق والجماع منذ بداية ظهورها فوق الآثار الحجرية خلال القرن الثّاني قبل الميلاد، الى القرن الثالث الميلادي، تلحظ الإظطراد التدريجي للحسّية في تصوير هذا النمط الفنّي، حيث تبدو ثنائيات العشق فوق (أسوجة بهارت) و(سانشي) وهي تحمل القرابين المقدمة إلى الآلهة”[13] .

وقالت كامليليا لمجدي ذات صباح صيفي صحو:”أريدك أن تصمّم لي حديقة على هيئة جنائن مقام تاج محل(Taj Mahal) ، بأحواض المياه المنسّقة حول القناة الرّئيسية وفق النمّوذج الفارسي المعروف باسم جهار باغ(Char Bhag) ، اي الحدائق الأربع، وهو النموذج الّذي اقتبسه بابر  (Babar) عن الفرس، بعد أن أسس الدولة المغولية بالهند عام 1526م، لعل تلك القنوات الأربع التي تتشكل منها الجهارباغ مجرد رمز لأنهار الجنة[14]. وفي اليوم التّالي أحضر مجدي خريطة تصوّر نموذج حديقة تاج محل الّتي تنقسم إلى أربعة أقسام حسبما طلبته حبيبته كاميليا.

وبعد ذلك قامت كاميليا بمقارنة السيّد كمال مع الشاعر الهندي طاغور وقالت:” لا أعرف كيف وردني خاطر أنه يشبه شاعر الهند العظيم رابندرانات طاغور (Rabindranath Tagore)” فعرف مجدي أن تلك مقدمة للحديث عن طاغور، لكنه قد هيّأ نفسه للحوار، فقد رأى في مذاكرة تاريخ الهند وفنونها وآدابها جسرا قويا لتمتين العلاقات مع خطيبته الجميلة وقالت في حوار لمجدي: “طاغور عانى الفقد مثلما عانى السّيد كمال. إنه مثله يحسّ انه كزهرة انتزعت بتلّاتها واحدة تلو الأخرى، وأصبحت كالثمّرة الّتي سيأتي الموت ليقطفها في كمال نضجها، لكنّ صفاءه الواسع وضبطه لنفسه وخضوعه أمام الله يجعله إنسانا نادرا، هكذا كانت إحدى أغنياته التي استلهمها غاندي (Gandhi) منه تقول: انا هذا البخور الذي لا يضوع عطره ما لم يحرق، انا هذا القنديل الذي لا يشع ضوءه ما لم يشعل”[15] وبعد غياب لدقائق عادت كاميليا تحمل مجلّدا ضخما بالانجليزية عن الشّاعر الكبير، تفتح إحدى الصّفحات وهي تقول إن عودة السّيد كمال إلى السراي تمثل عودة طاغور إلى البيت بعد عناء الرحلة. أثنى مجدي على خياراتها، لم تكن كاميليا تعشق النموذج الهندي في الشعر والفن وحسب، بل رأت كيف حافظت هذه الدولة التي تسكن شبه قارة عملاقة على ثقافتها، وكيف تصنع اليوم نهضتها العلمية والصناعية بخطى واثقة اليوم[16] إن إختيار المؤلّف برابندراناث طاغور في رواية ’حديقة خلفية‘ إختيار أصوب، وأنّه أحد أبرز شعراء الشرق وفلاسفته في القرن التاسع عشر ولد في الهند عام 1861 وهو شخصية متعدّدة المواهب فإنه كاتب مسرحيات وروائي وملحن موسيقي وفيلسوف وفنّان تشكيليّ. وقد جمع في حياته وأعماله بين النزعة الغربية العلمية وبين مثاليات الهند. وهو قد لمس في شعره كل شيء – وتفاعل معه سواء إيجابيا أو سلبيا- مثل الحبّ والطبيعة والسّعادة والحزن والألم والإنسانية والوطنية. هو أحد الرّومانسيّين الكبار، وأنه وسّع الرّومانسية من مفهومها الغربي، ونادى إلى التعاطف مع البؤساء من فلاحين وقرويّين. وقام بزيارة مصر فى عامي 1878 و1926 وربطته صداقة بالشاعر أحمد شوقي، فهذه الصفحات من الرّواية رحلة موسيقية مع الشاعر طاغور، حيث أنّ طاغور خاض في أعماق الحبّ مع زوجته، وكانت حياته الزوجية رغيدة، فقد محضته زوجته المحبّة الصادقة، وتذوّقا معا أفاويق السعادة، وترادفت قصائده مشعشعة بالهنائة الغامرة، حيث يقول ديوانه “بستان الحبّ” حيث يقول :

لقد هلّت الفرحة من جميع أطراف الكون لتسوي جسمي
   لقد قبلتها أشعة السماوات، ثم قبلتها حتى استفاقت إلى الحياء
إن ورد الصيف المولي سريعا قد ترددت زفراته في أنفاسها
وغنّت وسوسة المياه وهيمنة الرّياح في حركاتها

إن الألوان المتّقدة من الغيوم والغابات قد انثالت إلى حياتها

وداعبت موسيقا الأشياء كلها أعضاءها لتمنحها إهاب الجمال
إنها زوجتي لقد أشعلت مصباحها في بيتي وأضاءت جنباته[17]

وجائت كاميليا إلى مجدي بألبوم صورها الخاص، صور في حديقة السّيد كمال، لقطات مع أفراد العائلة، صور حميمية مع أمّها، وصور ملوّنة كثيرة لها من رحلة الهند، قطب مجدي الكيلاني جبينه حين رأى صورة بعض مستولي الهندي في زحام كيوم الحشر يرفعون أيديهم. علقت كاميليا عليها وهي تفسر:”هذه الصورة التقتها في مدينة أحمداباد(Ahmedabad)، بولاية كوجرات(Gujarat). كنت أزور المساجد والأضرحة والمعابد وهالني مشهد هؤلاء يزدحمون أمام مخبز كلّ يوم، يوزّع عليهم أحد المحسنين كوبنونات ورقية ليستبدلوها برغيف يقاتلون عليه طوال اليوم[18]

وسكت مجدي الكيلاني لبرهة. أحسّ أن أي كلام سيكون عاجزا عن التعقيب، أردفت كاميليا: “في الهند رأيت الجنّة والنار معا، المتناقضان تحت سماء واحدة، المساجد والمعابد، شيوخ يتعبدون آناء الليل، ونساك زاهدون عن ضجيج النهار، منارات تهتز وأخرى تختفي، بوّابات مهجورة ودروب مزدحمة، بيوت ليس لها من سمت البيوت شيء، وقصور تستعيد أبهة عصور السّلاطين. متاحفا نادرة في عرض الطريق، ومقتنيات آسرة تحت حراسة مشدّدة، أضرحة تعانق قبابها المزركشة السّماء، وقبور تفترش توابيتها الحجرية الأرض، غابات من صفيح، وأشجار من أسمنت، وأسوار من خيش، وشواهد من حجر، وهواء من رماد، هؤلاء الفقراء في الصّورة مثلهم ملايين في مدن الهند الفقيرة، كنت أقول الحمد لله كلّما مررت بهم، نحن نكتب عن الفقر في مصر ولكننا لا نراه…. الفقر نسبي، فمن يسكن شقة يظنّ نفسه فقيرا في مقابل من يملك بيته، ومن يركب الحافلات فقيرا أمام من يقود سيارته، ومن يعمل باليومية هو فقير قياسيا بأصحاب الأجور الشهرية، لكننا رغم فقرنا متساوون في إنسانيّتنا، وأنا أحسّ أن الفقر الحقيقي هو التّخلّي عن هذه الإنسانيّة”[19] وللهند تقاليد ثقافية عريقة وفريدة من نوعها ولا زالت مظاهرها ماثلة للعيان إلى أيامنا هذه، وهذه الفقرة تصوّر التّناقضات الهندية(Indian Paradoxes)  بأبعادها المختلفة في أروع صورة لأن مفكّري الهند يطلقونها بكلمة متحف أنثروبولجي  (Ethnological Museum) وكاليدوسكوب التّناقضات(Kaleidoscope of Contrasts).

ويأتي التّراث الهندي في الرّواية في صورة أكثر معتة في يوم الزّفاف لمجدي وكاميليا، وفي يوم الزّفاف يعيش مجدي حلما لا يريد أن يستيقظ منه. زفاف أسطوري لم يكن يتخيّل أن يكون له، لأن العروس فتاة أحلامه كاميليا، وفي الليلة جائت إليه كاميليا وقالت له: “عندي لك مفاجأة!” وأخذت من حقيبتها كتابا، دهش مجدي وهو يتمتم : “كتاب في هذه الليلة!” قالت: “ليس هذا أي كتاب. كلّ ما علينا أن نقرأه ونحاول أن ندرسه جيدا… الليلة وكلّ ليلة!” قرأ مجدي عنوان الكتاب بالإنجليزية: “كاماسوترا”(Kama Sutra) ، فشرحت كاميليا: “أنا أسمعتك الكثير عن البؤس في الهند، وعن روحانية نسّاكها، وعن الشّعر هناك، وحان الوقت لأدلّك على وجه جديد مفاجئ لها في هذا الكتاب، إنه نص كتب باللغة السّنسكرتية (Sanskrit) في القرن الرابع دليلا مرشدا في الجنس والإمتاع لفن الحبّ(Sex Manual) ، هدفه كان الأخذ بيدي الرجال والنساء لممارسة السّلوك الأفضل خلال حياتهم، وقد ترجم للمرّة الأولى إلى اللغة الانجليزية في القرن التاسع عشر وترجمه الســيد السير رتشارد بيرتون (Sir Richard Francis Burton) “وبدأ مجدي يتصفح الكتاب وقد فاجأته الصّور، آلاف من التمّاثيل لرجال يضاجعون النّساء في كافّة الأوضاع (Sex Positions) . مئات من الصّور المطبوعة على الورق، أو المرسومة على الجلد، أو المنحوتة في العاج والخشب. بدأت كاميليا تتجرد من ملابسها، وهي تحكي كأنها تقرأ: “النصّ الّذي كتبه فاتسيانه  (Vātsyāyana) يجعل من هذا الكتاب الذي اشتريته في الهند وثيقة مصورة، لكنّ ترجمته الجديدة كتبها آندريه ماريون بينكي، واحتفظ ببعض شواهد من ترجمة السير بيرتون. أنت قل لي بم نبدأ، فحين إشتريته تخيّلت هذا اليوم، وحلمت به، لكن الحلم الناقص ينتظرك”. بدأ الحلم يتّخذ مساره الحسي و كانت كلّ صفحة تعني فكرة جديدة للمداعبة، أو طريقة مبتكرة للقاء والتّلامس و القبلو الالتفاف والإحاطة. المنمنات تشرح ما يستعصي فهمه من الحروف. سبعة فصول من الكاماسوترا، كلّ منها بحر يغرق الشّاب وفتاته ليجدا نفسيها في بحر آخر يليه أكثر غورا واتساعا وتقوم كاميليا عارية تماما لتحضر بعض البخور من حقيبة صغيرة، تعود وترفع صوت المسيقى في الاستيريو الموضوع بجانب السّرير، وتقرأ سطورا من الكاماسوترا كأنها تغنّي، وتعدّل من أصابعها: “في المساء، تحضر الموسيقى، وبعد أن نعود للبيت في صحبة الحبيب، نشعل بعض البخور، ونتمدّد”. أعجبت مجدي لعبة إبتدعها، يختار صفحة من كاماسوترا، ثم يقول رقمها، فإذا أصابت كاميليا في التّخمين عمّا بها، أخذت هي الكتاب، وإلّا فإنّ عليها أن تمارسه معه ما هو في الصّفحة بحذافيره، كانت كاميليا تتعمّد أن تخطئ لتعاود الإستمتاع باللّذة مرّة بعد أخرى، كانا وحدهما تحت سماء لا تؤنسهما فيها إلا نشوة الكاماسوترا[20]. وفي ختام الرّواية تذكّر مجدي في السّجن صورة بؤساء الهند في ألبوم كاميليا، إنه أكثر بؤسا منهم في هذه اللّحظة. وستعدّ هذه الرّواية –  بلا شكّ –  أنموذجا حديثا فريدا لمواصلة التفاعل المصري الهندي على الصعيد الثقافي الأدبي.

المراجع

  1. ’حديقة خلفية‘ لأشرف أبي اليزيد، الناشر مكتبة المشارق للنشر والتوزيع – الطبعة الأولى (2011)- القاهرة
  2. مقالة الدكتور صلاح فضل، “أشرف ابو اليزيد ينسق حديقة خلفية”، جريدة الأهرام، 26 مارس 2012
  3. http://www.ashrafdali.com/cv.php
  4. http://ar.wikipedia.org/wiki
  5. http://arabiancreativity.com/ashraf.htm
  6. http://ahmedtoson.blogspot.com
  7. www.ashrafart.4t.com

[1] (عن كلية الفاروق: A Govt. aided college with Potential for Excellence identified by the UGC and Re-accredited at A Grade by NAAC)

[2] . عن الأستاذ عبد الجليل: الأستاذ المساعد في قسم العربية للماجستيروالبحوث في كلية الفاروق/كيرلا

[3] . http://www.ashrafdali.com/ , http://ar.wikipedia.org

[4] . مقالة الدكتور صلاح فضل “أشرف ابو اليزيد ينسق حديقة خلفية”، جريدة الأهرام، 26 مارس 2012

[5] . راجع جريدة “الأهرام” بتاريخ 26 مارس 2012

[6] . راجع تقرير ندوة قاهرية حول روايتي أشرف ابو اليزيد على موقع www.ashrafdali.com

[7] . نفس المصدر

[8] . مقالة الدكتور صلاح فضل ، “أشرف أبو اليزيد ينسق حديقة خلفية”، جريدة الأهرام، 26 مارس 2012

[9] . حديقة خلفية لأشرف أبي اليزيد، الناشر مكتبة المشارق للنشر والتوزيع – الطبعة الأولى (2011)- القاهرة، ص : 82

[10] . نفس المصدر، ص: 82

[11] . نفس المصدر، ص :83

[12] . www.kordofanonline.net

[13] . نفس المصدر، ص: 87

[14] . نفس المصدر، ص: 88

[15] . نفس المصدر، ص: 90

[16] . نفس المصدر، ص: 91

[17] . راجع “روائع طاغور في الشعر والمسرح”، نقلها إلى العربية الدكتور بديع حقّي

[18] . نفس المصدر، ص: 92

[19] . نفس المصدر، ص:92

[20] . نفس المصدر، ص:102

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات