المستقبل.. أنْ نصنع خبزنا

09:05 صباحًا الخميس 21 مارس 2013
إبراهيم المصري

إبراهيم المصري

شاعر وصحافي

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

“أحنُ إلى خبز أمي…”

يقول محمود درويش مُلخصاً نمطاً سائداً في الشعر العربي القديم والحديث، وأقصد نمطاً يمزج بين الحنين والشكوى التي أصبحت هي الأخرى نمطاً سائداً عند الإنسان العربي باختلاف أقطاره وهمومه.

ويمكن اعتبار جملة درويش الشعرية هذه بيتاً لا تغادره الذاكرة وبالتالي لا يغادره الإنسان، وهي جملة وإن جاءت في سياق كلام مُقاوم إلا أنها أيضاً طبعة معاصرة من “قفا نبكِ في ذكرى حبيبٍ ومنزلِ” لامرئ القيس، وثمة جذر واحد إلى حد كبير يعمم نمط الحنين والشكوى هذا، ليس بوصفه خصلة إنسانية وكل إنسان على أية حال يحنُ ويشتكي، وإنما بوصفه كما قلت بيتاً لا يغادره صاحبه أو لا تغادره ذاكرة صاحبه وهي ذاكرة جمعية لم تبرأ بعد من تقاليد ثقافية غابرة، ولا يساعدها واقع التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي كذلك على أنْ تبرأ.

وما أراه هنا أو أزعم أنني أراه، هو ثقبٌ أسود بحجم الإبداع الشعري العربي قديماً وحديثاً، ولم تؤد الحداثة في سياقها الواقعي أو الإبداعي إلى تجاوز هذا الثقب الذي يبدو بحجم واقع الإنسان العربي، الذي يشتكي من كل شيء حتى من نفسه.

وأزعم هنا أننا جميعاً شعراء وغير شعراء، مبدعين وبشراً منهومين بيومهم المعاش أصبحنا.. أصوليين بامتياز.. الأمر الذي يفسر في رأيي أو يساعد في تفسير كل هذا العنف المتداخل مع حياتنا وأيامنا وأفكارنا، إذ يبدو المشهد العربي كما لو كان مشهد طفل يمسك بأقصى نقطة في تطرف “أناه” التي لا تدرك أو تدرك ولكن لا تريد أن تعترف بـ.. كَمْ تغير العالم.. ونحن كما نحن، لا نغادر بيت الحنين والشكوى، وإن غادرناه فإنما لقتل الآخرين أو لقتل أنفسنا في الغالب.

 ولما كان الزمن هو السياق الذي تمضي فيه مصائر البشر، فإنَّ الحنين إلى الزمن الأول والشكوى أيضاً من الزمن بشكل عام حاضر بقوة أيضاً في المنجز الشعري العربي قديماً وحديثاً…

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى

ما الحب إلا للحبيب الأول

كم منزل للحب يألفه الفتى

وحنينه دوماً لأول منزل.

وهذه أبيات كتبها صاحبها أبو تمام بعد بزوغ الإسلام الذي كان من المفترض أن يَجُبَ ما قبله ليس في أشكال العبادات والديانات السابقة عليه وإنما أيضاً في منظومة طبائع الصحراء العربية التي وسمتنا جميعاً من خلال الشريان الثقافي الذي عممته الفتوحات وانتشار اللغة العربية والذي لا يتدفق فيه غير ثقافة وشعر الصحراء، وإلا أين هو الأدب الفرعوني على سبيل المثال في منظومة التعليم المصري، أو أين هو في الشعر المصري المقسم في نهضته الحديثة إلى مدرسة إحياء يمثلها محمود سامي البارودي وأحمد شوقي وكلاهما شكَّاء بامتياز ويعكس شعرهما تقاليد شعرية عربية غابرة، ثم مدرسة رومانسية من أقطابها على محمود طه وإبراهيم ناجي وكلاهما أيضاً شكَّاء بامتياز، ثم مدرسة حديثة تعتمد شعر التفعيلة ويمثلها صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي الذي جاء من قريته إلى مدينة القاهرة، فأفزعته المدينة ولم يتورع عن شتمها…

يا قاهرة

أيا قباباً متخمات قاعدة

يا مئذناتٍ ملحدة

يا كافرة.

ثم شعراء السبعينيات والثمانينات والتسعينيات حتى الآن في سياق حداثة اللعب باللغة ومفردات الواقع، وأعتقد أنَّ ما ينطبق على الحالة المصرية، ينطبق على حالات مختلفة في العالم العربي، وقد يكون هذا تقييماً مُخِلاً وغير دقيق ولكنه على الأقل يحمل قدراً من مصداقية الوصف، يقول حجازي أيضاً…

هو الربيع كان، واليوم أحد

وليس في المدينة التي خلت

وفاح عطرها سواي

قلت أصطاد القطا

كان القطا يتبعني من بلدٍ إلى بلد

يبدو حجازي هنا كمن سقط في فاجعة كان يسعى إليها، بل ويعمد من خلال المخيلة إلى تفريغ المدينة من حياتها لكي تتحول إلى صحراء يفوح عطرها وتمكنه من صيد القطا، وإلا ما الذي جعله يغادر الربيع والبلد لكي يصطاد القطا إلا لكي يعود إلى بيت ذاكرته المعبأ بثقافة الصحراء العربية التي تنهض مدنها الآن ليس لاصطياد القطا، وإنما للاندراج في سياق عولمة اقتصادية هائلة تعيد تشكيل العالم إلى الحد الذي تقول فيه مجلة نيوزويك الأمريكية إنَّ الشرق الأوسط الجديد ينهض من مدن الصحراء العربية في دبي ومسقط والرياض والدوحة والكويت، والأمر كذلك فعلاً بصرف النظر عن كل ما نحمله نحن أصحاب المراكز الحضارية القديمة من احتباس شديد تجاه فوضى حياتنا ومدننا وتجاه تخلف البنى الأساسية والإنسانية في مجتمعاتنا.

إنْ كان ما قلته حتى الآن صحيحاً أو ذا دلالة فإنني سأجازف بإصدار حكم قاسٍ وكبير، مفاده أنه عدا بعض الجزر الشعرية التي لا تبدو واضحة بما يكفي، فإنه لا توجد تجربة شعرية عربية كبيرة في سياق التطلع للإنسان والمستقبل، وظني أنَّ ماكينة الحياة سوف تطحن الكثير من الشعر العربي وتذروه في الرياح بما في ذلك تجارب شعراء نظنهم كباراً أو عباقرة، لأننا جميعاً تقريباً لم نتجاوز الثقب الأسود للحنين والشكوى، والتطور على أي حال فصلٌ مؤلم للطفولة باتجاه دفعها إلى طرق مصيرها بدون حماية.

وما ينطبق على الشعر والشعراء ينطبق في رأيي على الواقع اليومي للإنسان العربي، هذا الذي يشتكي ليل نهار من الإمبريالية والصهيونية ومن الاستعمار ومن اجتياح قيم العصر لثقافته ومعتقداته وتقاليده، ومن الحكومات والحكام، وحتى في مدن الصحراء العربية الناهضة كشاهد على الشرق الأوسط الجديد لن نعدم شكوى مواطنيها من غربتهم وسط فائض سكاني من جميع أرجاء الأرض تقتضيه الآلة الاقتصادية الجبارة في هذه المنطقة الغنية بالنفط وتقتضيه العولمة التي تدفع البشر إلى حراكٍ غير مسبوق في التاريخ إلا عبر الحروب والغزوات.

يقول رولان بارت:

النبيذ باتر وجراحي، يحوِّل ويوِّلد، أمَّا الحليب فتجميلي، يربط ويغطي ويضمد.

وأعتقد أننا ما زلنا في الغصة بالحليب الذي هو في ثقافتنا.. شراب الفطرة.. والذي أنتج في حياتنا الفكرية نماذج تلفيقية بامتياز “الأصالة والمعاصرة” كمثال، وكمثال آخر كتاب زكي نجيب محمود “تجديد الفكر العربي” وصولاً حتى اللحظة إلى أصوليين دينيين يقترحون علينا الماضي البعيد الفردوسي الذي لا تشوبه شائبة نموذجاً للحياة.

ولا أتعمد هنا الخلط بين الإبداع والفكر والواقع، ويقيناً نحن نعرف أنه لا يمكن الفصل العنصري بين هذه المجالات وأنَّ أي منتج في النهاية هو ابن بيئته، والإبداع الشعري العربي الحديث على ضخامته لم يغادر في معظمه بيت الطفولة حيث الحنين والشكوى، وحيث يعكس محمود درويش امرئ القيس وحيث كلاهما ونحن نقف لا لكي نتأمل ونعمل ونقطع وإنما لنبكي.

في مقال له بجريدة الحياة عقب الصراع الدموي بين حركتي فتح وحماس في غزة كتب محمود درويش منتقداً صراع الأخوة ومتكئاً على أسطورة أو حكاية قابيل وهابيل، لم يرتفع الشاعر البكَّاء إلى سوية النظر في واقع تتصارع فيه أطرافٌ على المستقبل لا على الماضي وإن كان كلاهما يجرنا إلى الماضي الذي من شروطه النفسية عدم الخسارة بمعنى الاحتفاظ بالذاكرة ندية وطرية وكاملة وتامة، إنه يدور معهما في الماضي متكئاً على ذاكرة أسطورية تعفيه من النقد المباشر ومن التحديق المباشر في صراع مواطنيه في غزة، كما تعفيه من إدانة أحد الطرفين أو كلاهما.. إنه مثلهما لا يريد أن.. يخسر.

يقتضي المستقبل في المقابل الخسارة ويقتضي الفصل بالنبيذ الذي تحدث عنه رولان بارت كسمة من سمات الشعب الفرنسي، ولا أقارن هنا النبيذ بالدم، فلسنا بحاجة إلى المزيد من الدم وإنما بحاجة إلى اليقظة على الثقب الأسود المرعب للحنين والشكوى والقطع معه إلى مستقبل يقوم في رأيي على ثلاث دعائم: العولمة، الهندسة الوراثية، الفضاء الخارجي.

تندرج العولمة في سياق اقتصادي يطحن جميع شعوب العالم ويجلد بسياطه شعوباً في المقدمة من حيث التطور مثل الشعب الألماني وفي كتاب “اقتصاد يغدق فقراً” لمؤلفه الألماني هورسيت أفهيلد شهادة على ذلك.

وتقوم الهندسة الوراثية على فهم الكائن الحي.. نبات، حيوان، إنسان.. في بنيته الجينية والتدخل لتعديل هذه البنية لأغراض خيّرة أو شريرة، وإن كانت كما يتنبأ الكثير من العلماء ستقلب الكثير من أنماط الحياة السائدة خلال الخمسين عاماً المقبلة.

ويقوم الفضاء الخارجي على التطلع إلى جزر تصلح للحياة في الكون بما في ذلك كوكب المريخ والقطع مع الأرض بيت طفولة الإنسان عبر ملايين السنين الماضية.

وبالطبع فإنَّ هذه الدعائم تقوم كأقواس هائلة على المجتمع البشري ككل بدون الأخذ في الاعتبار الخصوصيات القومية التي يتمسك بها البشر الآن إلى حد النكوص إلى أنماط احتراب طائفية مقيتة والطبقية السياسية والدينية في العراق دليل على ذلك حيث لا تريد هذه الطبقية أن ترى جامعاً للعراقيين في المستقبل يقوم على مبادئ المواطنة الناجزة والقانون الصارم الذي لا يفرق بين عراقي وعراقي، والحال ليست مختلفة في مصر، حيث تعدنا جماعة الإخوان بدولة صارمة العبودية، حيث الإخوان في القمة وتحتهم العبيد من مصريين ومصريات، تمثلاً من الجماعة لدولة الخلافة البائدة التي قامت على التقسيم الطبقي للبشر.

لقد كان “استدخال” قصيدة النثر ضربةً موفقة في تقويض التفعيلة الناجزة عن حداء الإبل والتي كانت بنية إيقاعية لشعر عربي أنجز مآثر خالدة، لكن في المقابل تحول معظم إن لم يكن جميع كتاب قصيدة النثر الكبار منهم والصغار إلى نمط الحنين والشكوى، وإنْ هرب البعض إلى سياقاتٍ أسطورية أو تراثية، فإنه لم يفعل أكثر من نقل البكاء من منطقة إلى منطقة أخرى، وإن كانت الأساطير قد ساعدت العقل البشري في مراحل تطوره البدائية، فإنها كما الحنين والشكوى، تعمل على تفريغ الشحنة اللازمة لطرق المستقبل، وما أعنيه بالمستقبل هنا هو أولاً رؤية واقعنا بما هو عليه، ورؤية العالم كذلك بما هو عليه، وقبول الخسارة بوصفها قاسماً مشتركاً بين جميع البشر في التحول الرهيب من مرحلة إلى أخرى، وعلى سبيل المثال، فإنَّ التطور التكنولوجي يُفقد الكثير من الناس وظائفهم وأعمالهم، لكن هذا ليس قدراً أصم لا يملك الناس إزاءه أية قدرة على مصائرهم.

وما أحاجج به هنا ليس أننا أسوأ أو أفضل من الآخرين، وإنما نحن بالأحرى واقعون في شرك الوهم الذي يعني أننا حداثيون شعرياً على سبيل المثال، فيما نكتبه ينضح بالتقاليد الشعرية العربية المجلوبة من الجزيرة العربية حيث كان الإنسان بدوياً في معظم مجتمعه وعارياً أمام قسوة الطبيعة، ولا يملك إزاء كل هذا غير الحنين إلى مضاربه وغير الشكوى المستمرة من الزمن والقدر، وتلك بنية نفسية مجتمعية نعاني منها بدرجات مختلفة وتمنع في رأيي أن نكون في حداثة تندرج في العصر وتتطلع مثل البشر الآخرين إلى المستقبل.

ولا يعني هذا أنَّ التقاليد الشعرية العربية التي ورثناها سيئة في حد ذاتها، وإنما هي أطلال علينا أن نغادرها تماماً، كما علينا أن نغادر تقاليد وبنى نفسية شعبية تعمل بكفاءة وبإحكام في إغلاق الباب علينا في نمط الحنين والشكوى.

يقول مثل شعبي مصري: “من فات قديمه تاه

وهو مثل يقيم جداراً على عتبة بيت الإنسان ويربطه بشكل لا فكاك منه بماضيه حتى لا يتوه، ويمنع عنه حس المغامرة، وما أقترحه ليس أكثر من الحذر من ضغط ماضٍ ساحق ورهيب يمتصنا بقوة طاغية إلى داخله.. فقط دفن هذا الماضي باحترام، والتطلع إلى الحاضر والمستقبل، ويقيناً سوف نخسر تلك الطمأنينة الميتة في بيت الطفولة، لكننا سنكسب في المقابل حيوية أننا أحياء اليوم وغداً وأننا قادرون على مصائرنا.

وسوف نخسر بالطبع “خبز أمهاتنا” الذي لا يتصف على أية حال بالديمومة، ولكننا سنصنع خبزنا.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات