سارتر ونساء طروادة: مصير كتاب مهم!

07:39 صباحًا الإثنين 25 مارس 2013
محمود قاسم

محمود قاسم

ناقد وروائي من مصر، رائد في أدب الأطفال، تولى مسئوليات صحفية عديدة في مؤسسة دار الهلال، كتب عشرات الموسوعات السينمائية والأدبية، فضلا عن ترجمته لعدد من روائع الأدب الفرنسي.

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

جان بول سارتر Jean Paul Sartre

ترى إلى أى حد تمتد العلاقة بيننا وبين الكتب الكثيرة الموجودة فى بيوتنا، وترى أين راحت الكتب الجميلة التى شكلت وجداننا وقرأناها فى مقتبل حياتنا، ولم نستطع أن ننقلها معنا إلى بيوتاتنا الجديدة التى انتقلنا إليها بعد الزواج، أو عبر الانتقال من مدينتنا الأم كى نعيش فى القاهرة.

فجأة اكتشفنا أن أهم كتب حياتى قد تركتها فى منزل أختى، وأننى تصورت أن ابنتها سوف تحافظ عليها، ولم أحاول السؤال عن مصير هذه الكتب حتى لا أحرجها، ترى هل بددت، أم موجودة، لا أعرف، لكن حدثاً غريباً كان ينتظرنى فى فترة بدأت افكر فيها فى اهداء ما لدى من كتب إلى إحدى المكتبات الدائمة، حتى لا تجد نفسها فى أسواق الكتب القديمة مثلما رأينا مصائر مكتبات مثقفين كبار تباع فى هذه الأسواق..

هذا الحدث يتمثل فى أن الدكتورة عبلة إبراهيم المدير الأسبق لادارة الطفولة بجامعة الدول العربية أرسلت لى صندوقاً مليئاً بالكتب، كى أتصرف فيها كما أشاء، اقدمها للأصدقاء أو المكتبات، كلها كتب باللغة العربية، وقد خيل لى أن شخصا قام بجمع الكثير من الكتب التى تركتها فى منزل أختى، وكأن الذكريات تستعيد نفسها، أنها الكتب نفسها التى غيرت أفكار جيلنا من الذين كانوا يقرأون بشغف ملحوظ فى الستينيات، حين كنا نتهافت لقراءتها، سواء اشتريناها، أو استعرناها، فهى الكتب التى غيرت مسيرة أفكارنا. ومازلنا نعجب بسطورها ونتذكر صفحاتها التى كتبها عمالقة القلم فى كل العالم، روايات دوستويفسكى، والأعمال الكاملة لجان بول سارتر، والبير كامى، وفيكتور هيجو، وأرنست هيمنجواى، وروائع المسرح العالمى “مصر” ومسرحيات عالمية “الكويت”، وأعمال أخرى لتشيكوف وفرانسواز ساجان، وسيمون دى بوفوار، وويليام فوكنر.

هذه الكتب زادت من احساسى بالعبء الشديد عن مصيرها، ونحن فى سن يجب أن نطمئن على مصائرها بعد الرحيل، أكثر من أى أموال، فنحن الذين نعتبر الكتب هى ثروتنا، قد اكتشفنا مع الزمن أننا صرنا نقتنى الكتب أكثر مما نقرأها، وأن كتاباً واحداً جديداً سيدخل البيت لن يجد له مكاناً، ولذا فقد تكدست الكتب دون أن يكون لدينا الوقت لقراءتها، أو الوسيلة للتصرف فيها بحيث تؤدى نفس الغرض، فقد تعلمنا من مهرجان القراءة للجميع أن الكثيرين كانوا يقومون باقتناء الكتب الكثيرة المهمة، دون أن يقرأوا، وإلا لةو كانت هذه الكتب قد قرأت ما كنا قد وصلنا إلى هذا الحال، فالثقافة هى سلوك الشعوب وهى تعبر عن مدى قدرته فى الوصول إلى الأفضل.

شعرت أن كتبى الضائعة عادت إلىّ، ورجعت لى مؤلفات ظللت أبحث عنها طويلاً، وأحسست أنه من الواجب اعادة قراءتها للاستمتاع بها من جديد، وكانت هناك كتب بعينها فى صدارة الاهتمام، مثل السيناريو الذى كتبه سارتر تحت عنوان “تاريخ حياة طاغية”، وكتاب “أسطورة سيزيف” لألبير كامى، وبعض روايات ليرمنتوف وفلوبير، ومورافيا، ومسرحيات برناردشو، وشكسبير، وبريخت وأوسكار وايلد.

نساء طرواده

من بين هذه الكتب كان هناك واحد استرعى اهتمامى، وأخذ أولوية فى القراءة، وما إن وقعت فى سحره حتى تعمدت أن أتباطأ فى قراءته، كى أزيد من فترة الاستماع بقراءه، إنه كتاب لم أتمكن من قراءته فى سنوات القراءة الأولى، لاسباب عديدة، أن قدرتى المالية لم تمكننى من شراءه، ولم أجده فى المكتبات العامة التى كنا نستعير منها، كما أنه كتاب غريب، وغير مألوف بالنسبة لمؤلفه جان بول سارتر، هو مسرحية شعرية تحمل عنوان “نساء طرواده” كما ترجمه وحيد النقاش، وصدر عام 1918، عن دار الآداب “بيروت”، واسمه الحقيقى هو الطرواديات لكن لا شك أن الاسم العربى كان جذاباً بشكل ملحوظ.

هذا الكتاب، وما يمثله من صندوق يثير سؤالاً هو أين تكمن الآن عناوين هذه الكتب، وهل يقرأها الجيل الجديد، ليس فقط فى العالم العربى، فالغريب أن القارىء العالمى، خاصة فى فرنسا، وأوروبا، قد تعامل مع هذه المؤلفات على أنها “موضة” قرأت بشكل ملحوظ حين صدورها لأول مرة، أو حين ترجمتها فى بلادنا، ثم خبا الاهتمام بها، وأقبل الناس على قراءة الجديد من الاصدارات، وكأنما الكتاب الجميل أشبه بالفستان، ما إن تمر مناسبته حتى يدخل دائرة النسيان، لكن إلا الثقافة، فالناس لاتزال تقرأ دون كيخوته، بشغف شديد، وايضا “كليلة ودمنة”، و”ألف ليلة وليلة” وأعمال ديكنز وبلزاك، وزولا، وتولستوى، وكافة أساطين الكتابة فى عصور متعددة.

هذه المسرحية هى العمل الشعرى الوحيد الذى تعامل معه سارتر، فمن المعروف أن كافة الوجوديين لم يكتبوا الشعر، حتى سارتر نفسه، فكل ما فعله أنه قام باعداد جديد لمأساة الشاعر الاغريقى القديم يوربيدس وقد كتب المقدمة بنفسه قائلاً انه اختار هذا النص لأن “المأساة اليونانية هى اطلال أثر جميل يزورها المرء بكل احترام وفى يده دليل تفسيرى فى منتهى الدقة يقود خطاه، إلا أن أحداً لا يمكن أن تواتيه فكرة السكنى بها، ويرى سارتر أن المسرح اليونانى القديم بعيد عنا، وفى لغته سحر، ولكنه لم يعد يملك القدرة على الاقناع، والمأساة اليونانية ليست مسرحيا بدائيا، والممثلون فيها يتحدثون من وراء أقنعة ويسيرون بأحذية التمثيل الخاصة.

هذه المسرحية مثلت لأول مرة فى التاريخ فى احتفالات الربيع فى عام 415 قبل الميلاد، وهى تقع ضمن ثلاثية كتبها مؤلفها اليونانى حول حرب طروادة وتدور أحداث هذه المسرحية بعد سقوط طرواده بين أيدى اليونانيين، وهى الحرب التى استمرت سنوات، وأفرزت أبطالاً عرفناهم بقوة فى الدراما الاغريقية، وأبطالها من آلهة الاغريق مثل بوزيدون إله البحر، ونساء طرواديات كن قبل ساعات ملكات معززات، ولكن بعد الهزيمة سوف يصبحن عبدات، سبايا لملوك اليونان المنتصرين، ولذا فإننا لسنا أمام عمل درامى متكامل، بقدر ما الأبيات الشعرية تعبر عن حالة الحزن الشديد، والهم الشخصى الذى أصاب هؤلاء النساء فرحن يعبرون عن الآلام الشديدة التى اعترت كل منهن عقب الهزيمة، خاصة الملكة هيكوب، وابنتها كاسندر واندروماك أرملة هيكتور، ويعطى النص إلى هيلين زوجة مينلاس فرصة أن تدافع عن نفسها وهى التى هربت من زوجها مينلاس ملك اليونان مع باريس من طرواده، بعد أن أكرم ملك اليونان وقادته، وتبدو هيلين هنا وقد حملت وجهة نظر لما فعلته، هذه الفعلة التى جلبت العار عليها، وعلى عشيقها، وقومه..

تبدأ المسرحية فى معسكر القوات اليونانية، أمام طروادة المحترقة، المنهزمة، حيث توجد مخيمات عديدة، وهذا هو إله البحر بوزيدومن يقدم نفسه، ويتحدث عن حول ما يرى أمامه من خراب، وتبدو حال.

وجئت أنظر فى اللهيب والكتل السوداء

إلى ما كانت عليه طرواده

نوبيوس وأنا حملنا أحجاراً

وشيدنا بأيدينا أسوار تلك المدينة

فى الماضى

ومنذ ذلك الحين لم أكف عن حبها

لن يبقى منها شىء..

تبدو طرواده أشبه بمدننا التى نعيش فيها الآن، أقرب إلى المحترقة، أدركها التغير، يحن سكانها، خاصة النساء إلى الماضى، يملأهن النحيب، والولولة، بما يقطع نياط القلب، كما يردد إله البحر أيضاً

معابدنا تنزف

الاغريق نهبوا كل شىء

ولأننا لسنا أمام عمل مسرحى متكامل، فالحوار طويل، وأعتقد أن المخرج ميشيل كوكاينيس عندما أخرجها فى باريس لأول مرة عام 1965 قد قدمها فى شكل غنائى، فالمشهد الأول بمثابة مدخل طويل يصف من خلاله بوزيدون أحوال طرواده بعد الهزيمة، بكلمات تمزق نياط القلب

وهاهن نساء طرواده

سيكون بعضهن من نصيب القواد

والباقيات سيوزعن كيفما أتفق

تلك المرأة المنبطحة ببطنها على الأرض، انها الملكة المسكينة

تندب زوجها وأبناءها..

وإذا كان هذا الكلام الملىء بالأسى قد خرج على لسان بوزيدون قد جاء بهذا القدر من الحزن والألم، فإن ما ستردده الملكة المنهزم جيش بلادها سيكون أشد ألماً، فى المشهد الثالث من المسرحية.

أيتها الآلام، أواه يا آلامى،

ليس هناك ألم فى العالم لا يخصنى!

ملكة أصبح زوجة ملك

منحته أجمل الأبناء

قتلهم السهم الاغريقى واحداً بعد واحد

وبريام، زوجى، مليكى

كنت هناك عندما نحروه

وتتكلم الملكة إلى نفسها، أو إلى من حولها، انها تنعى مصيرها القادم إليها، بعد الهزيمة، والموت والانكسار، وتصف بالتفصيل ما سوف يحدث لها.

لا أعلم إلا شيئاً واحداً

أسوأ الاحتمالات هو الأكيد

آمة

لمن؟ وأين.

فى أرجوس؟ فى فيتيا؟

فوق جزيرة وسط البحر

أيتها العجوز التى تستدر الشفقة

الأكثر قرباً إلى الموت منها الحياة..

نحن هنا نقرأ قصيدة حزينة طويلة، تدور على لسان امرأة كانت ملكة، تقف أمام نساء طرواده، المنهزمات، احترقت منازلهن، وفقدن رجالهن، لن ترى كل منهن مدينتها من جديد، ويتوحد وهن يعرفن أن أقسى الآلام ما سوف يجىء.

فى المشهد الخامس تظهر كاسندر ابنة الملكة هيكيوب، وهى تغنى للحزن، تبدو نملة بأحزان ما لحق بقومها من هزيمة، وهى العذراء التى سوف تزن إلى أجاممنون، الذى قتل الكثير من أبناء قومها، تعد أن تدمر ذرية القائد المنتصر، العدو، الذى سيتزوجها، وتعد أمها أن تقتل هذا الرجل ذات يوم.

البلطة!

هناك! فى منتصف الجمجمة

ولست أنا التى سوف أمسك بها

ولكننى أضمن لك أنه سوف ينزف

ملك الملوك

أواه، لكم سوف ينزف

وأنا، لسوف يقطعون عنقى

وكلمات كاسندر فى هذا الفصل مليئة بالألم، أبيات شعرية طويلة، تتحدث عن قسوة الحرب، وعن الرجال الذين أسقطتهم السهام.

بعد معارك النهار القاسية

كانوا يعودون بيننا

وعندما كانت تخترقهم سهامكم

كانت ايد رحيمة تلم أجسادكم

على أرض المعركة

وقد تم دفنهم فى نفس هذا المكان

ليست مهمتى أن أقدم عرضا لكتاب شدنى، تمنيت لو قرأه كل من حولى، فى الظروف الاجتماعية التى نعيشها، فالكثير من مشاعر عبرت عنها نساء طرواده المنهزمة تنتابنا نحن هذه الشهور، رجالا أم نساء وهذه هى كاسندرا تردد:

أولئك الذين يشنون حرباً قذرة يموتون فيها

فإن فى موتهم من الحمامة أكثر مما فى حياتهم

ارفعن رؤسكن وكن فخورات

واتركن لى مهمة الثأر لرجالكن

فلسوف يكون فى زمانى القضاء على جلاديهم

دعنا نقفز بين مشاهد النص المسرحى إلى المشهد العاشر الذى تلتقى فيه هيلين الخائنة مع زوجها اليونانى الملك منيلاس، وتحاول القاء شباكها عليه، لكنه يتوعدها بالموت جراء لما فعلت، فأخبرته أن باريس قد دفعها للهرب معه بناء على حكم قدرى، بينما كان منيلاس منشغلاً دوما بحروبه وتركها وحيدة مع ضيفة ذلك العين

انا، المخلوقة الضعيفة

أقاوم الآلهة أفروديت؟

أو كنت تستطيع ذلك، أنت

اسمع، هل يمكنك أن تعاقبها لما فعلته بى؟

إذن، لكنت أشد بأساً من ملك الآلهة لأن زيوس عبد لها، مثل جميع البشر.

نعم، تبدو المقالات عن الكتب الجميلة مبتسرة، قياساً إلى الكتاب نفسه، وكما أشرت، فإن هذا النص الرائع الذى تعمدت قراءته لأطول فترة ممكنة يحتاج إلى قراءته بأكمله، ولعل مكتبة الأسرة تنتبه إلى هذه الكتب فتعيد إلينا زمن متعة القراءة، إذا قرأناها، دون أن نقتنيها فقط.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات