رواية قهوة سادة: مآزق الصياغة الأدبية عند السيد حافظ

10:29 مساءً الجمعة 19 أبريل 2013
محمود قاسم

محمود قاسم

ناقد وروائي من مصر، رائد في أدب الأطفال، تولى مسئوليات صحفية عديدة في مؤسسة دار الهلال، كتب عشرات الموسوعات السينمائية والأدبية، فضلا عن ترجمته لعدد من روائع الأدب الفرنسي.

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

الرواية والمؤلف

هل ابتدع الإنسان التجريب لضرورة ما، أم أن الضرورة هى التى دفعت بعض الكتاب إلى التخلص من الأشكال التقليدية للكتابة، كى تكون هناك فرصة متاحة ليستخدم المبدع كافة أشكال التجريب ليعبر عما بذاته، وعن شكل المبدع فى داخله، يمزج الشاعر، بالروائى بالفلسفة، والرأى، واضافة المعلومة؟

آنذاك يصبح فى امكان المبدع أن يختار ما يشاء من اساليب الحكى، خاصة فى الرواية والمسرح، والمفردات اللغوية التى تروق له، يكثفها، ويجمعها معا، يربطها بفواصل، أو يطلق لها الحرية لتكون كما يشاء، يخلط الشعر بالنثر، ويتلاعب بالأزمنة، ويحرر الأشخاص من ثوابتهم، لذا فإن روعة التجريب تتوقف على موهبة الكاتب، وثقافته، وقدرته على عمل صياغة جديدة للكتابة، وفى أغلب الأحيان تكون هناك صياغات، لأن التجريب ليس فى حد ذاته نوع من الكتابة، بل هو محاولة للخروج عن المألوف فى الكتابة، بتجريب ما يسمى بالكتابة الأخرى، التى لا يتقبلها القارىء العادى الذى من الصعب عليه أن يتذوق الكتابة غير المألوفة.

ومنذ أن عرف الإنسان مصطلع “التجريب”، وهو واقع فى فخه، كأنه آخر الأطر الخاصة بالكتابة، فصار كل خروج هو تجريب، من الصعب أن تحدد نوع التجريب فى داخل النصوص، فالكاتب حين يلجأ إليه يثور على كافة ما يعرف من كتابة تقليدية، دون أن يكون فى حسبانه تسمية ما يفعله، وأعتقد أنه قد انتهى الزمان الذى قام فيه كتاب التجريب بتنظير ما يكتبونه، مثلما فعل الآن روب جرييه فى كتابه “نحو رواية جديدة”، فى الوقت الذى يبحث فيه النقاد النمطيون عن ملمح للدراما، أو لقصة ما فى النص، كى تدخل تحت تسمية ما، أما رواية، أو مسرح، أو أنواع أخرى.

والسيد حافظ من أبرز كتاب جيله فى محاولة الخروج عن المألوف، سواء فى القصة القصيرة أو المسرح، وخاصة فى هذا الأخير، باعتبار أن النص هنا مرتبط بالكلمة المكتوبة، وأيضاً بالأداء التمثيلى على خشبة المسرح.. وفى روايته “قهوة سادة” وجدناه يتجه إلى التجريب بكل ما يمتلك الآن من خبرة، وقدرة على الامساك بالنص، من خلال شخوصه، وما يرتبطون به من علاقات، وأمكنة، وهم يتحركون فى إطار الزمن.

ومن أجل أن تستوعب النص، فيجب أن يكون ذهنك قادراً على قبول كافة التفسيرات الموجودة داخل النص، سواء كانت التفسيرات تلك التى يقصدها الكاتب، أو أن تتكون لدى القارىء مفاهيم مختلفة تماماً عن النص، أو المقود منها، وهذا هو السر فى أهمية التجريب، حيث يصبح لهذا النص المكتوب ألف وجه مختلف، إذا كان عدد قراء الرواية ألف شخص وهكذا دواليك.. فالقراء الذين يميلون إلى القراءة المرتبطة بالتجريب قليلون، وفى فرنسا فإن الكاتبة مرجريت دوراس عندما نشرت روايتها “السفينة ليل”، قالت إنه يكفيها أن يقرأ الرواية ثلاثين ألف قارىء، وهو عدد قليل للغاية، قياساً إلى عدد القراء فى اللغة الفرنسية.

ولذا، فإن السيد حافظ، وأمثاله، يعرف جيداً أن من يستقبل مثل هذا النوع من الرواية قليلون، وأنهم ليسوا فى ازدياد، فبعد كل هذه العقود، من التجريب، لايزال القارىء الغالب هو الذى يميل إلى الصياغات التقليدية، ولا أدل على ذلك سوى هذا العدد الضخم الذى يتابع الروايات البوليسية، وقصص التجسس أو الخيال العلمى، وروايات الحركة.

وفى روايته “قهوة سادة” لجأ السيد حافظ إلى أغلب صور التجريب، وابتعد،  دون وعى عن أشكال أخرى، وفى رأيىّ أنه لم يبلغ ما حققه أستاذنا فى هذا المجال محمود عوض عبدالعال منذ روايته “سكر مر” المنشورة منذ أكثر من ثلاثين عاماً.

ورغم العبارات الجريئة التى تجذب انتباه القارىء فى الصفحات الأولى من الرواية، إلا أنه من السهل اكتشاف أننا أمام نص تجريبى، رغم كثرة الشخصيات، ووجودها فى حى شعبى، يعيش أفراده حياة تقليدية.. فالكاتب لديه شخصية استثنائية، منبهر بها مثلما ينبهر بها من يعيشون فى إطارها الاجتماعى، خاصة أستاذها كاظم، هذه الشخصية، هى “سهر” التى وصلت لتوها سن البلوغ الأنثوى صباح يوم الخامس من يونيه عام 1967 دون أن يتوقف عند المدلول السياسى لهذا التاريخ، فالطفلة الآن فى سن التاسعة، لكن هذا هو نهدها يتحرك فى الفراش.. ولعل أول سؤال يتبادر إلى الذهن.. هل سهر فى التاسعة من العمر، مولودة أيام الوحدة فى فبراير 1958، وهل سن التاسعة قادر أن يجعل للطفلة نهداً يتحرك.

يقول الكاتب أنه فى عام 1967 فإن سهر هى ابنة السابعة عشر، وفى مكان آخر يشير إلى أنها مولودة عام 1958، وفى الروايات التقليدية فإن هذا يمكنه أن يؤدى إلى شرخ فى الحكى، أما فى التجريب، فعليك أن تأخذ التفسير الذى يناسبك، قد تكون فى التاسعة مثلما تقول التواريخ، أو هى الآن ابنة السابعة عشر، أى مولودة عام 1950، أو حسب وصف الكاتب لمسألة البلوغ الأول فى سن الثالثة عشر على أكثر تقدير، فإن سهر قد صار لها تاريخ ميلاد ثالث.

فى هذا الفصل الأول مثلاً، تبدو ملامح عديدة من التجريب عند الروائى، الذى يستخدم لغة شعرية على طريقة “لم ينم العصفور وطاف بخياله ألف حلم، آه لو كان بشراً لطاف بها فى الفراش حول الكرة الأرضية واغتصبها ألف مرة، وتزوجها، رغماً عن أنف كل البشر.

لقد مزج الكاتب التواريخ الحقيقية، بأشخاص من لحم ودم، مع أحداث تخيلية فانتازيا، حين فتحت سهر النافذة، ووجدت عصفوراً يرتعش، فأمسكته واحتضنته، وانتفض نهدها الأيمن، وأدخلت العصفور فى صدرها، تدفأ العصفور واندهش نهدها الأيسر وطرب..

وقد عاد الكاتب ليستخدم أسلوب الكتابة الذى بدأنا نراه فى ابداع الشباب منذ نهاية الستينيات فى مصر، حيث تم الاستغناء تماماً عن الفواصل بين الجمل، وأيضاً عن الاستعانة بأدوات وحروف الاضافة، وتحررت الكلمات، فتداخلت معاً.. وففى بعض الأحيان استخدم الكاتب النقطتين المتجاورتين (..) للفصل بين الجمل أو الكلمات على طريقة..

“تمددت” سهر.. نزل شعرها على كتفيها فظللت العصفور.. شعرها غابة من الحرير من العطر تغطيه.. هذا العطر لم يشمه من قبل العصفور لا على الزهور ولا البحور ولا الغابات ولا أى بشر..

هذا الشكل من الكتابة التى كانت محط أنظار المجددين، والمجربين فى تلك الحقبة، قد تخلى عنه أصحابه بشكل ملحوظ، تجعلنا نتساءل عن الفترة الزمنية التى كتب فيها المؤلف هذه الرواية، فترى هل كتبها مع بداياته فى السبعينيات، أم أنها مكتوبة فى القرن الحالى..

وعلى جانب آخر، فإنك تحس بنزعة صوفية، روحانية فى صياغة فقرات أخرى فى الفصل الأول نفسه حين يقول الكاتب عن شهرزاد، العرافة: “حكت عن كل رجل منهم أشكالاً مختلفة وأوضاعاً مشتتة وهى تعرف مدينة العلو والايضاح فى أسرار الليل..

أى أن الكاتب فى فصل واحد فقط من فصول روايته، قد قام باستخدام أكثر من اسلوب للكتابة، وحاول التجريب بكافة الأشكال التى دفعته قريحته إليها، وان كانت الدائرة قد اتسعت بشكل ملحوظ فى عمل روائى متشعب فى عدد أبطاله، والعلاقات المتداخلة فيما بينهم، وذلك بالاضافة إلى الصياغة التقليدية المتعارف عليها للرواية، وهى الصيغة الأكثر تواجداً فى كل الصفحات، مما يجعلنا نتعامل مع النص الأدبى على أنه عمل تقليدى الحكى، مرصع بعديد من الصياغات التجريبية التى سبق أن رأيناها فى صياغات الحكى المتجددة فى الكثير من الروايات التجريبية، ومنها على سبيل المثال تداخل الأزمنة.

يبدو الرمز ذو دلالة فى اسم العرافة، مثلا، فهى شهرزاد التى تعرف، أسوة بالحكاءة فى ألف ليلة، عليها أن تقول، وأن يستمع الآخر إليها، تتكلم إلى الأب، وتبلغه أن ابنته سوف تسافر إلى بلاد النفط، بلاد الذهب وأنها سوف تتزوج من رجل ثرى، وتفتح لها المدن ألف نافذة نور، وستتمرغ فى الذهب.

ويعترف السيد حافظ أن المقصودة هنا امرأة أشبه بالحكاءة، هى تعرف قصة لسان امرأة مسماة بالألفية، جامعها ألف رجل فحكت عن كل رجل منهم أشكالاً مختلفة، وأوضاعاً مشتتة، وهى مدينة العلو والايضاح، وشهرزاد هذه ورثت عن أبيها مكتبة بها كتب الشيخ الامام جلال الدين السيوطى، وغيره من الكتب، خاصة المتعلق منها بالغرام.

وفى الفصل الأول يمكن ملاحظة أنه ما بين الفقرات، يسعى المؤلف إلى أن يغير من حكيه، فتارة يحدثنا عن شهرزاد، ثم ينتقل إلى أم سهر، وينطلق كى يتحدث عن شهرزاد مرة أخرى، ومنها إلى سهر التى ستظل حاضرة فى أغلب فصول الرواية، التى قد تحمل أسماء أشخاص آخرين، مثل كاظم، معلم اللغة العربية، العاشق لتلميذته فى صمت، يريد أن يتنفس وجودها فى الحى فى القرية فى لاكون.

وفيما بين السطور يمكن ملاحظة أن الكاتب لا يكف عن التجريب.. فهناك ملحوظة واضحة فى الصياغة المكتوب بها فصل “كاظم”.. فرغم وجود النقطتين الفاصلتين فى بعض الفقرات، فإن الكاتب ألغى تماماً كل أشكال الفواصل المتعارف عليها فى لغات الكتابة، وقام فى الكثير من الأحيان بلصق الكلمات كأنها قطعة واحدة من الصعب الفصل بينها، وهى صياغة مقصودة عند من يكتبها، وهو يقول مثلا العبارة التى ذكرناها آنفاً أن كاظم يريد أن يتنفس وجودها فى الفصل فى المدرسة فى الحى فى القرية فى الكون”، حيث ستصير الأماكن كلها متصلة ببعضها من الصعب تفكيكها أو احداث فواصل بما يعنى التوحد فيما بينها، وهناك فقرات بأكملها شبه ملتصقة على طريقة أسلوب الكاتب الفرنسى كلود سيمون (نوبل 1986) فى رواياته، وهو أحد أساتذة التجريب فى الرواية الفرنسية فى القرن الماضى.

اذن، حسب الفصل الثانى باسم “كاظم” فالمؤلف لجأ إلى أكثر من صياغة أدبية، غير تقليدية، بالإضافة إلى الكتابة التقليدية، بما يجعلنا نتعامل مع نص روائى، تجريبى فى المقام الأول، والمقصود بالتجريب هنا أن القارىء عليه التعامل مع النص حسبما يريد هو، وليس فقط حسبما يقصد المؤلف، فالموضوع نفسه تقليدى، ان فتاة جميلة، بلغت سن الأنوثة، لاتزال تلميذها، يحبها أستاذها، ويطلبها رجل كبير فى السن للزواج هذه هى الحكاية على طريقة نابوكوف فى رواية “ضحكات فى الظلام” حين حكى موضوع روايته فى عدة سطور فى مقدمة الرواية، واشار إلى أن من يريد الاستمتاع بالتفاصيل فعليه قراءة الرواية، أما من يريد أن يعرف الحكاية وموضوعها، فتكفيه السطور القليلة التى أوجز فيها الرواية.

وأغلب فصول “قهوة سادة” بمثابة الحدث الساكن المتحرك فهو عن أشخاص، لا تكاد الحياة تتحرك بهم، فى مشاعرهم، وأماكنهم وأهوائهم، ولكنهم يتحركون من حول أنفسهم ببطء ويكتشفون أنهم سوف يتغيرون، حتى وإن ظلوا فى الأماكن نفسها.

ففى الفصل الثانى، فإن المدرس يناجى تلميذته التى يحبها فيما يشبه التصوف، وينطق الرجل بكلمات مليئة باللوعة والتخيلات، وهو يردد على سبيل المثال: “لا تتركينى بين ظنونى القاتلة.. أنا قلبى عصفور يطرب كل الطيور ولكن اللحن من قلبك أنت وعطرك أنت.. غيابك موت بطىء.. لا تتركين ظنونك تهشم أحلامنا، فأحلام العشاق أجنحة الفراشات وجناح الظنون نار تحرق قلوبنا سيدتى أنت.. أنا أهزم كل الأشياء إلا الظن والشك فهو يبيد كل الفرسان والبشر أحبك نعم، وأنا عصفور لا أحتمل الظنون.

وفى مقابل هذه الفقرة الصوفية، التى تعبر عن عاشق جوانى، المتلاصقة الكلمات والمعانى، فإن الكاتب فى صفحة تالية يكتب فقرات معرفية حول أن غاية الجنس هو تكاثر النوع، حيث يرجع إلى ما كتبه فرويد، وكولن ويلسون حول هذا الموضوع بكلمات جافة، مرجعية تعبر عن رؤى متعددة وجهات النظر، ويتحول الكاتب إلى معلم، أو إلى ناقل للمعلومات من مصادر مرجعية، كان ينقصه ذكر هذه المراجع، وهو يتحدث بفقرات مطولة عن “علم الباه” ثم الباءه.. كأنما لا يهمه وحدة الرواية التقليدى التى تروى عن الفتاة سهر، التى تظهر لنا من فصل لآخر، أغلبها يحمل اسم الأستاذ الولهان بتلميذته.

ففى هذا الفصل مثلا ينتقل الكاتب من فقراته المعرفية حول علم الباه، كى يحدثنا فى رؤى تخيلية خيالا جامحا (فانتازيا) عن العصفور الذى نام على كف “سهر” وبكى وشعرت بكلامه ولم تفهم حواره، ثم ننتقل إلى الواقع، حين تستيقظ الصغيرة لتخبر أمها أن المدرس يطلب ولى الأمر، فتقرر هذه الأم أن تذهب إلى المدرسة بنفسها مع ابنتها، وتقابل كاظم، وسرعان ما ينتقل الراوى من اليوم الدراسى، ولقاء الأم بالاستاذ إلى زمن آخر، غير محدد، يشار إليه بـ “ذات مساء” حين تقول العرافة وهى تمشط شعر الفتاة “العشق يا سهر.. سر الحياة.. العشق واحة الروح”.

لقد كسر المؤلف الحدث، وزمنه وشخوصه، عن طيب خاطر، وبكل عمد، كى ينقلنا إلى حالة أخرى، جرت فى وقت آخر، هى ذات علاقة بالفتاة، محور الأحداث، ليدور حوار بالغ الحسية بين العرافة والتلميذة، وما يجب أن تفعله الأنثى تجاه الرجل الذى يعشقها كأن تقول “ان خلع الملابس للأنثى فى العشق ليس دفعة أو مرة واحدة.. بل قطعة قطعة.. كأمواج من الزبدة تسيح فى حرارة غريزة الرجال.. وأن الجنس على ريش نعام هو الأحلى.. وأحيانا على نجيلة خضراء.. وهكذا..

وفى التجريب وفى بعض الروايات التى تنتمى إلى الرواية الجديدة، فإن الكاتب يرى أن كل جملة مكتوبة، هى بمثابة عمل درامى متكامل، يجب أن ينفصل عن الجملة السابقة، أو اللاحقة، وفى رواية “قهوة سادة” قد يسهل التعامل مع بعض الفقرات والجمل بهذا المنطق، مثل الجمل المتلاحقة التى تقولها شهرزاد وهى تضحك..

“كنت جميلة جداً/ الجمال ابتلاء والقبح ابتلاء/ كنت مثلك/ ألهب خيال الرجال/ كان ربى عظيما جدا/ قلبى ينتظر أن يصحو قرينه/ لكن قرين قلبى  يضل الطريق طوال العمر وقلبى لا يتزحزح/ واقفا على رصيف الحب ينتظره/ لقد تعودت الوحدة/ تعودت الانتظار.

وهكذا يمكن اعادة قراءة هذه الجمل، والتعامل معها على أنها منفصلة عن بعضها، للتأكد أن كل منها بمثابة عمل درامى منفصل، يمكن النظر إليه على أن معناه يؤخذ به وحده، وإذا شاء القارىء أن ينظر إلى الفقرة بأكملها على أنها عمل درامى واحد، تتحدث فيه العرافة شهرزاد عن الرجال، والفراش والجبل، والعناق.

يريد الكاتب أن يلملم أشياء من حوله، ليضعها فى القهوة السادة، التى تمتص كافة ما يضاف إليها لتظل بدون طعم، بالغة المرارة، وفى فصل جديد بالاسم نفسه “كاظم” نجد أنفسنا أمام رواية سياسية وطنية من خلال مناجاة كاظم، بشأن قضية فلسطين، هذا الفصل يمكن قراءته وحده، ومن السهل فصله عن بقية الرواية، وهو كلام انشائى، اعتدنا عليه، وتصورنا أنه دليل الوحدة العربية، وقد ملأ الكاتب هذه المناجاة بالألم، والحسرة، لدرجة أن كاظم يردد فى حنايا آلامه أن الحكومات العربية نجحت فى جعل المواطن العربى يكره وطنه وأرضه، ويبحث عن وطن آخر له.

وفيما بين الفصول، وبحاسته التجريبية، التى لا يسأل عنها الكاتب، يمكن نشر بعضا من الأبيات القليلة لجبران خليل جبران، قبل أن تدخل فى فصل جديد بعنوان فتحى رضوان، أثناء يونيه 1967، وهو شخصية روائية تختلف تماما عن وزير الارشاد، والكاتب المعروف، وإن كان الكاتب قد أشار إلى أنه فى الثامنة عشر من العمر، مصرى الملامح، عربى الفكر.. عالمى الاحساس بالجما، يذاكر الثانوية العامة أدبى.. الجدير بالذكر أن الكاتب لم يشر بشكل مباشر أن سهر من منطقة الشام، لعلها فلسطينية، أو لبنانة أو سورية، باعتبار أن مختار البلدة قد تقدم لخطبتها، أما فتحى رضوان، فإليه أشار الكاتب بشكل واضح أنا “مصرى الملامح.. عربى الفكر”.

فى هذا الفصل صار للحكاء أكثر من صوت، فالتلميذ فتحى رضوان يتكلم عن المواد التعليمية التى يحبها أو يكرهها.. ثم تحدث عن الفتاة رغيدة، التى تشعر بالوحدة بين أربعة جدران، وبسهولة يتحول الحكى إلى الكاتب الذى يبلغنا أن هذا الشاب مولود فى عام 1948، فى اليوم نفسه الذى استشهد فيه البطل أحمد عبدالعزيز فى حرب فلسطين، ويحكى الكتاب صفحات من التاريخ العسكرى لمصر، ثم انتقل الكاتب حسب زمنه المرن إلى الفتى حين كان فى الثانية عشر، وأبلغنا أنه فى هذا التاريخ المفروض عام 1961، دارت حرب يونيه، لقد اختصر الكاتب من زمن بطله، ومن أزمنتنا جميعا قرابة خمس سنوات، وفى الكتابات التجريبية من السهل تقبل مثل هذه الأخطاء، فلعلها رغبة الكاتب أن يلغى الأزمنة، أو أن يضمها إلى بعضها البعض، أسوة بلصق الكلمات فى جملة واحدة ليست بينها فواصل، كما أن هناك خلط بين حكى فتحى رضوان، وحكى المؤلف حول ماذا حدث فى الثامن من يونيه، وسرعان ما تدخل إلى دائرة وطنية، على خلفية أحداث سياسية وعسكرية شهدها أبناء الوطن فى ذلك التاريخ، ومن جديد تتداخل الأحداث، مع الأزمنة والشخصيات ولا يصبح هناك فاصل محدد للراوى الذى نراه قد عاد فجأة إلى الصف الثالث الابتدائى، ليحكى عن علاقات المسلمين بالأقباط خاصة فى المنطقة التى يسكنها الشاب، وعلى شكل البحث المعرفى، قام الكاتب بجولة، أعلن فيه أنه لا يعرف لماذا ارتبط مصير مصر بالجزيرة العربية، كما استعان بفقرة من الجزء الأول من كتاب مروج الذهب ومعادن الجواهر، واستكمل الكاتب اقتباس عبارات عن المقريزى، والمسعودى، وجمال حمدان..

من بين صياغات التجريب عند السيد حافظ، مسألة اختيار عناوين فصول رواياته، فرغم أنه صار على النهج التقليدى لتقسيم النص الأدبى إلى فصول، فإنه اختار تسمية هذه الفصول بأسماء أشخاص، قد يكونون الأبطال الأساسيين فى الرواية، وقد يكونون شخصيات ثانوية، لكن المهم فى هذا الأمر أن الكاتب لم يلجأ إلى ترقيم الفصول، بالترقيم المألوف الذى كان يتبعه نجيب محفوظ مثلا، واحد، اثنان، ثلاثة، وهكذا، أو أن يقال الفصل الأول، وربما يضاف إلى هذا عنوان فرعى، الكاتب اختار أسماء أشخاص، أغلبهم من الذكور، يدورون فى آفاق الفتاة سهر، وهم كاظم، الذى يتكرر اسمه من فصل لآخر.. ثلاث مرات متتالية، ثم هناك فتحى رضوان، الذى سيظهر اسمه ثلاثيا فى بعض الفصول انه فتحى رضوان خليل الذى سيكون له صوت حكاء ثلاثة فصول متتالية، ومن بعد ذلك تتنوع عناوين الفصول، كى يعود الشخص نفسه مجدداً فى فصول لاحقة، وهو الذى سيكون حبيب سهر فيما بعد، وفيما بعد تنكسر هذه المنظومة، لتدخل سهر كعنوان رئيسى لفصل، وتعود من جديد إلى فتحى رضوان، وكاظم، وفى الفصول اللاحقة لجأ الكاتب إلى عناوين فرعية مضافة إلى أسماء الأشخاص. وظل كل من كاظم، وفتحى رضوان هما الاسمان اللذان يتواجدان بقوة على الفصول.. وفى مرات قليلة كانت هناك استثناءات مثل “وتحكى شهرزاد”، ولاشك أن الهدف من ذلك هو ايجاد شكل مختلف، جديد لتسميات فصول الروايات، فكلمة فصل هنا غير موجودة بالمرة، لكن هذه العناوين تعنى بالتأكيد وجود صياغات غير مألوفة، ليس فقط فى مزج الأنواع والصياغة الأدبية، ولكن أيضاً فى أن يؤكد الكاتب أنه حريص بشدة على التجريب، حسب رؤيته.

وفى الفصل الخاص بشخصية فتحى رضوان خليل، نتعرف من جديد على رجل سيكون محوراً رئيسياً فى حياة سهر، وسيكون حبيبها فيما بعد، حيث يتحدث فتحى أنه كان يحلم وهو فى الدراسة أن يكون الأول، لكن هذا لم يحدث أبداً، وفى هذا الفصل أحدث الكاتب خلطا مقصودا فى الحوار فتارة ترى الحوار باللهجة العامية، وفى مرة أخرى، يتكلم الأشخاص أنفسهم باللغة الفصحى المبسطة وقد يصير هذا الخلط موجوداً فى جملة حوارية واحدة، يرددها المحبش: “سأبلغ المعلم سعد أخو هانم.. وازاى الحاج رضوان يوافق على الكلام ده”، وطبعا من حق الكاتب أن يختار لغة الحوار التى ينطق بها أبطاله، لكن لا شك أن الخلط بين الاثنين يستحق المراجعة، وباعتبار أننا فى عمل تجريبى، فلا مانع أن نتعامل على أننا “نجرب” ماذا يمكن أن يحدث لو امتزجت كلمة “سأبلغ” بمنطوقها الفصيح، بكلمة “ازاى” فى جملة حوارية واحدة.

فى هذا الفصل، هناك تداخل بين التواريخ، وأيضاً فإن الكاتب يعبر من خلال بطله عن مشاعر مواطن عربى ازاىء هزيمة 1967، ويترك الكاتب الحكى، والتاريخ، ليكتب عبارات وجمل تقريرية مليئة بالسخرية، عن هزائم الجيوش، ثم يقول: منذ نشأة القاهرة فى العهد الفاطمى وهى متسخة كما قال الجبرتى وحتى الآن.. احنا شعب غلبان..

الكاتب هنا صنع نوعا من السلطة التجريبية، أو الخليط، فهو يستخدم من ناحية، الكتابة النثرية غير الابداعية، بشكل تقريرى، ويكتب انطباعه ممزوجا بين اللغة العربية، مع جملة باللهجة العامية، ويترك المؤلف لنفسه العنان أن يكتب انطباعاته، أو خواطره على لسان فتحى رضوان خليل حين يقول مثلا: “العربى لا يفلح إلا فى مضاجعة النساء. وهذه المقولة تبث فشلها بعد أن كتبت القحبات الأجنبيات الأوروبيات مذكراتهن مع العرب فى الفراش.. فسمعة العربى فى فراش الجنس صدفة وليست حرفة، فمستواه ضعيف ومترد وهمجى مثل الكلاب.. وهكذا إلى آخر الفقرة.

هذا الفصل يمثل نموذجا للخليط الذى لجأ اليه المؤلف للتجريب، فهو يكتب المقال، والرأى ويروى على لسان بطله، بما يشبه الاعتراف، ومثل هذه المفردات اللغوية تأتى على لسان فتحى رضوان، وهو يتكلم فى أمور السياسة، ويتوقف عند هزيمة 67 ويسخر بشدة من روح الشعب العنيد العبيط البليد التليد الغريب العجيب الحبيب، وتتداخل الأغراض كلها فى فقرة واحدة مثلا، يتكلم عن نفسه، وتحس أنه يوجه كلامه إلى القارىء، ثم يتكلم إلى حبيبته معلنا “حبك سيد فى حياتى ليس له عنوان. وحب الجمال ليس حرفة” ثم يتكلم إلى ضمير الغائب مشيرا إلى أنه كلما حاصرنى حب الوطن بنيرانه، وأسهم حقده.. وحاول قتلى.. هربت منه تحت جلد النساء حتى أضمد جروحى..

فى هذا الفصل الطويل، يمكنك أن تحس بهوية “ميرسو” فى رواية “الغريب” لكامى، حاضرة فالراوى يشعر باغتراب شديد فيما حوله، انه اغتراب ميرسو اكثر من اغتراب روكنتان فى رواية “الغثيان” لجان بول سارتر، الذى يظهر للراوى من بين الكتب التى يراها فجأة لمحت سارتر يبتسم لى من أحد الكتب، ما هذا.. مسرحية “سجناء الطونا”.

 نسوق مثل هذه الدلالات، والاستشهادات للتأكيد على هذا الكم من وسائل التجريب التى يلجأ إليها المؤلف، ليس فى الرواية بأكملها، بل ربما فى فصل واحد من رواية “قهوة سادة” فما ان انتهى الراوى من مشاهدة غلاف مسرحية “سجناء الطونا” لسارتر، حتى وجد نفسه يدخل عالم الفانتازيا الأرضى، أى أنه لا يتعدى أن يظل فى الأماكن التى حولنا، حيث يتخيل أن فتاة الصورة العارية، قد خرجت من اطارها، وهبطت نحوه، وراحت تلعب بيديها فى أنفه، وفى الوقت نفسه فإن ايليا أبو ماضى راح ينفخ فى أذنه بكلماته، ثم راح عقل مارى يصنع خلايا التفكير الجديدة فيه، ثم راح ميخائيل نعيمة يداعب جبينه، وأخذت زوجة موسى النبى راعية الغنم تدعو له وللعذراء وتباركه وعائشة زوجة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.. تستغفر له.. ولكن تدخل الأنبياء موسى وعيسى ومحمد وإبراهيم أبو الأنبياء انقذونى بالدعاء إلى الله الذى استجاب لهم وأنقذنى بينما هى تحاول ان تخطفنى.. طرق الباب شخص ما.. فزعت هى، وعادت إلى الصورة..

وكما نرى فإن العديد من صور الفانتازيا قد تلاصقت معاً، وتواجدت فى هذه الفقرة، من خروج فتاة الصورة من الحائط، حتى عادت إليه، ويمكن التعامل مع الجمل بشكل منفصل على طريقة الرواية الجديدة، فتنظر إلى كل منها كأنها عمل درامى منفصل عن الآخر، مثل ما يفعله كل من جبران، ثم ايليا أبو ماضى، وميشيلين، والعذراء.. وبقية الشخصيات، التى جمعها الكاتب فى حدث واحد، وفى المكان نفسه، ليفعلوا الشىء نفسه “الدعاء” الذى تتم الاستجابة له، وعلى لافور يطرق الباب، ويدخل شخص، لا نلبث أن نعرف أنه قابيل بن آدم، ويردد: أنت حفيدى، فأنتم أحفادى وأنا القاتل.

هى عمل ابداعى منفصل، يحدثها الكاتب ضمن صفحات روايته، يروى عنها بطل من الشخصيات الرئيسة فى الرواية، وينتهى الحدث، باعتباره كيان منفصل، وهكذا تتسع أفق التجريب لما حدث فى يوم الجمعة، ويأتى يوم السبت الأول، لتحدث فيه أيضاً أشياء متراكبة معاً، متداخلة فيما بينها.

هذا الفصل مفعم بالفنتازيا، أو الخيال الجامح، وتبدو الساحة بالغة الاتساع للروائى ان يجمع كل هذه الأشخاص، والاماكن فى فقرات متتابعة، ابتداء من إيفون إلى (س) وكيوبيد والكمسارى، والحوذى، والسلطان سليم الأول، والامير فخر الدين، والمماليك، والسلطان محمود الثانى، وغيرهم، كل هؤلاء يتواجدون معا فى فصل واحد، جاءوا عبر الأزمنة، والأماكن يتداخلون مع الفيلسوف الشاعر لويس أبولونيا، الذى يتنافس مع ريتشارد نيكسون فى انتخابات الرئاسة الأمريكية، ويظهر كوسيجن رئيس وزراء الاتحاد السوفيتى، ليؤكد الراوية أن الاحلام ما اكثرها حين تغرق الانسان وتجعله يشعر بالسعادة حين يهرب إليها ولا يعود للواقع الأليم.. فالكاتب يراها أحلام، والناقد يسميها فانتازيا..

لقد جلب الكاتب فى هذا الفصل كل هذه الشخصيات وغيرها، كى تتجاور، كما صارت أماكن عديدة متلاحمة، لتصنع كيانا جديدا، ليدخل الكاتب فى حالة صراخ مباشر موجه إلى البشر فى كافة بقاع الأرض.. أبناء المسيح، وشباب موسكو، وشباب واشنطن.. وشباب باريس، والمعنى هنا يأخذ شكلا سياسيا عالميا: “ساقوم بطرد السياسيين، واعادتهم للعمل فى الحدائق العامة ليزرعوا الورود، بما تنبت زهرة حب فى داخلهم وتموت زهورهم..

وهذه الجملة الأخيرة، كما نلاحظ، متلاصقة الكلمات، كأنما هى حرف واحد ينطلق إلى معان متعددة، جعلت الكاتب أحياناً يغرق فى تكوينات بالغة التخيل، ثم يدخل إلى تقارير سياسية مباشرة المعانى، فيما اصطلح على تسميته ببرنامج عملنا المقترح، الذى يتحدث فيه عن الاتحاد الاشتراكى وذلك طوال حديث لا يكاد ينتهى عن دور السياسة فى حياة الناس وعن مجلس الأمة، وأوجه للحياة السياسية المصرية فى النصف الثانى من ستينيات القرن الماضى.

لقد لجأ الكاتب إلى هذا الشكل الأدبى الذى يميل إلى الرجوع إليه دوماً، فى نصوصه المسرحية، حتى يتمتع بكل ما لديه من حرية فى أن يقول ما لديه، وأن يتحرك عبر الأماكن، والأزمنة، وان يستحضر ما يشاء من شخصيات، قد يتحدث عن منطقة غرباء بالاسكندرية، التى ولد بها الكاتب ونحس كأنما السيد حافظ هو بطله الذى اختار له اسم المناضل السياسى، والكاتب والمفكر فتحى رضوان، وهو يروى عن تاريخه السياسى فى مدرسة الاسكندرية الثانوية، حين تقدم لانتخابات اتحاد الطلاب، فصار سكرتيرا له على مستوى الجمهورية، وقد استطاع الكاتب أن يصنع من هذا المزيج وويا لكتبك خاصا بنص روائى تختلف الصياغة فيه، كما أنه صنع نصا له هوية خاصة مرتبطة باسمه.. السيد حافظ.

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات