كتاب الهلال: نون النِّسوة .. نهرُ الفَنّ

10:59 صباحًا الثلاثاء 21 مايو 2013
  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

صدر للشاعر والروائي أشرف أبو اليزيد أحدث مؤلفاته (نون النِّسوة .. نهرُ الفَنّ) ضمن سلسلة (كتاب الهلال). الكتاب يتناول عبر سبعة فصول طرفا من سير كوكب الشرق أم كلثوم وممثلة الإغراء الأشهر مارلين مونرو والشاعرة اليونانية الرائدة سافو وأيقونة الشعر الفلسطيني فدوى طوقان والتشكيليات جليلة خانوم؛ أم الشاعر التركي ناظم حكمت، والمكسيكية فريدا كالو، والسويسرية ذات الهوى المصري مارجو فيون. 

 يجيب المؤلف تحت عنوان (أيقونات في حياتنا) عن سر اختيار هذه الأسماء:

“ربما يتبادر سؤالٌ أول عن سرِّ اختياري لهذه الأيقونات، وهن سبعٌ، من بين كل فنانات العالم!  والحق أنه لا إجابة محددة لي عن هذا السؤال، فكل أيقونة منهن تستحق أن تكون مادة كتاب واحد، مخصص لها، كما يمكن أن يكون هذا الكتاب لا نهائيا، يسع ألف أيقونة وأيقونة، فتاريخ البشر لا تعوزه الأيقونات. فقط أردتُ أن أفتح صفحة جديدة ـ وربما فريدة ـ في حياة إبداع كل منهن. فقد عرفنا ـ جميعًا ـ مارلين مونرو، ولكن من يتذكر أنها كتبت الشعر، ومن قرأ قصائدها، ومن يصدِّق أن تلك الحسناء كان عندها وقتٌ لتفكِّر في الشعر. كما عشنا زخم كوكب الشرق الفني، أم كلثوم، التي كانتْ تتلو القرآنَ الكريمَ فيخشع لها القلب، وتنشد القصائد والأغنياتِ فيطرب لها السمع، وتضيفُ للشِّعر، بلْ وتحذف منه، فترضى به السليقة، وتصعد إلى خشبة المسرح واثقة الخطى في وصلة ووصلتين، فينتبه لها وجدان المشرق والمغرب، وتظهر على الشاشة الفضية جارية وسيدة، وتهمسُ بالفكاهاتِ والمُلح، وتعشق كلَّ جميل، ويعشقها كل مبدع، ولكن من يعرف أنها كانت تقرأ الأدب القصصي، بل وتبتكر نهايات قصصية!  وكلُّنا ـ في الشرق الثائر ـ رددنا قصائد ناظم حكمت، صاحب أجمل القصائد؛ “التي لم تُكتبْ بعْد”، ولكن من أين نهل ذلك الشبل، إن لم يكن من نهر جليلة خانوم، أمه، الرسامة التركية الرائدة، والثائرة أيضا؟ والأمر نفسه يمكن أن يقال عن أول شاعرة في التاريخ؛ سافو، وعن مارجو فيون، الرسامة السويسرية التي عاشت نحو القرن في مصر توثق بريشة صبية حياة المهمشين، وأفراحهم، كما يمكن أن نبحر بعيدًا، لنصل إلى الفنانة الوحيدة التي صنع من أجلها فيلم سينمائي، فريدا كالو، أو نعود إلى قلب عزيز على الجميع، جغرافيا وتاريخيا، لنجلس في حضرة الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، في رحلتها الجبلية الصعبة”.

 أم كلثوم. مارلين مونرو. سافو. فدوى طوقان. جليلة خانوم. فريدا كالو. مارجو فيون. سبعُ نِسَاء وسبع حكايات، لا يجمع بينهن زمن واحدٌ، ولا تضمهن سيرة عملية وحيدة، كما لا توحد كلماتهن لغة موحدة؟ لكن حياة كل منهن تستحق أن ننظر إليها مجددًا، لأن فيها جديدًا، نراه بعد عام، أو قرن، أو ألف عام. فهن أيقونات الأمس، لكنهن أيضا أيقونات كلِّ غدٍ.

في الفصل الأول يتناول أشرف أبو اليزيد سيرة جليلة خانوم، أم ناظم حكمت رائدة الفن التشكيلي في تركيا التي كرست حبها لابنها الشاعر ناظم، وكانت سنده في أكثر من مناسبة، وهو شاب غض، أو حينما بادرته الحياة بمصاعبها بسبب آرائه وأشعاره، وخاصة أنها انفصلت عن والد ناظم في سن صغيرة. لا شك أن تمرد الشاعر التركي المعروف كان يستمد عنفوانه من أمه. فخلال سنوات سجنه في مدينة بورصة التركية، ولكي تكون إلى جواره، استأجرت جليلة بيتا قريبا من السجن. وكان من بين مواقفها الأشهر للدفاع عن ابنها يوم علقت لافتة على جسر غلطة تعلن دعوتها لجمع توقيعات تدعم ناظم حكمت الشاعر السجين، الذي كان قد بدأ إضرابه عن الطعام. أثارت دعوتها الكثيرين، وسدت الجماهير الطريق فوق جسر غلطة. وحين ظهرت الشرطة، وأخذ العسكر جليلة للسؤال عن مدى تورطها في المظاهرة، وعمن وضع اللافتة لها فوق الجسر، أجابت بأن التوقيع على اللافتة يقول: جليلة الرسامة.

 رسامة الجسد الأنثوي!

 عندما عادت جليلة إلى تركيا، ظلت تمارس فنها الأثير الرسم، مخصصة له جُل وقتها وجهدها، لتكون رائدة من رائدات الفن الحديث في الدولة التركية. واستمرت في أسلوبها ترسم الموديلات العارية بعد أن نقلتها إلى جو الحمامات التركية ، ورغم براعتها في رسم البورتريه إلا أن شهرة الفنانة جليلة في تركيا ارتبطت برسمها لتلك الأنثى العارية في مشاهد الحمامات التركية.  كان تركيز جليلة على لوحة الجسد العاري في تلك المرحلة المبكرة اتجاها صارخا، واختارت كذلك ـ مثل كل فنانات المرحلة ـ  الانخراط في رسم البورتريه وكان تركيزها الأساس على رسم بورتريهات لأفراد عائلتها، وظل رسم البورتريه جزءا هاما من حياتها كموهبة ولدت معها، ويعكس بورتريه ذاتي من مجموعة ابنتها موهبتها الأصيلة في هذا المجال. و  لم تكن جليلة فنانة وحسب بل كانت من أكثر الفنانات إنتاجا، تعمل منذ ضوء الفجر الأول وحتى غروب الشمس، في زاوية من بيتها وحين تقدم بها العمر وضعف بصرها بسبب مرض الكتاركت بدرجة لم تكن جراحة تلك الأيام تقوى على إصلاح ما أفسده الدهر، ولكنها لم تفقد حبها للرسم، فكانت تضع على عينيها ثلاث نظارات مرة واحدة لتواصل عملها.

   وكانت إنتاج الفنانة جليلة الضخم يتوزع على شكل هدايا مجانية، للأصدقاء والأقارب بشكل لم يبق منه الكثير، وتقبع كميات هائلة من هذا الانتاج الآن خارج إطار العائلة، وكانت صور حماماتها التركية هي الأكثر شعبية، وحين كانت تهدي إحداها لأحد الأصدقاء أو الصديقات كانت تشترط: أن توضع اللوحة في قاعة المعيشة لا غرفة النوم؟

فريدا كالو

أما الفصل الثاني فخص به المؤلف الرَّسامة فريدا كالو بعنوان (عَبْرةٍ في محيطٍ من الدموع!)، ولأن نسغ الفن متصل مثل مسبحة في يد ناسك، علينا أن نصل إلى فريدا كالو، سليلة ذلك الإرث الضخم من الفنانين الأفذاذ، الذين تمردوا على القاعدة، فكانت لهم قواعدهم الخاصة في الفن. عاشت فريدا سبعة وأربعين عاما (1907 ـ 1954 ميلادية)، قضت معظمها أسيرة مقعدها المتحرك، بعد إصابتها في سن الثامنة عشر إثر حادث حافلة، وظلت طريحة الفراش لمدة عام بإحدى المستشفيات، وتعرف إليها بطلنا الفنان دييجو ريبيرا فتزوجا وهي في الحادية والعشرين. وظلت فريدا ترسم صورا ذاتية لها، كأنها تستعيد الصور التي فقدتها إثرا الحادث، فهي تحتفي بالطيور الأربعة على كتفيها، كأنها سترسلها لجهات الدنيا تعوضها عن أسرها، أو أنها ـ في لوحة أخرى ـ تنام في الطابق الأدنى لسرير من طابقين، فيما ترقد بالطابق الأعلى دمية عاجزة عن الحركة؛ كأنها الكوابيس التي تهاجمها دوما لتعبر عن عجزها. أو هي الغزال الشارد لحظة اقتناصه (رسمت لوحة لغزالة تحمل وجهها وقد طعنتها سهام من كل صوب)، ودائما هي جالسة أو نائمة، وفي المرة الوحيدة التي وقفت فيها فريدا، كانت تمسك بيد زوجها فيما دييجو ريبيرا يمسك في يده الأخرى باليتة نظيفة وأربع فرشات ألوان.

 ويعرض الكتاب للفيلم الذي أعاد إنتاج هذه الصورة بكثافة بالغة. وضفرت مخرجة العمل جولي تيمور هذه الحياة الحافلة للرسامة المكسيكية في مسرد زمني مشحون بالعاطفة، وأعانتها لوحات فريدا على إعادة تقديمها في هيئات كولاجية.

مارجو فيون

وختام التشكيليات في الفصل الثالث مع مارجو فيّون رسامة الرّوح الشعبية المصرية, مارجو فيُّون المولودة في القاهرة عام 1907 ابنة لرجل أعمال من سويسرا وزوجته النمساوية أمضت معظم سني حياتها باحثة عن تلك اللحظات النابضة في قلب الحياة المصرية، و  لم تجعل مارجو فيُّون من نفسها مصورة صحفية رغم أن المجموعة الهائلة من الاسكتشات التي رسمتها يمكن أن تصف بها الحياة المصرية. وحاولت في لوحاتها ـ مرحلة ما بعد الاسكتشات ـ أن تقدم الحدث في حركته، العازفين مع موسيقاهم، الراقصين بإحساس الرقصة نفسها، لم تكن تريد لقطة ساكنة للحركة، بل تريد لوحة تحاكيها حركة وضجة وبهجة، بما تخفيه وتكشفه في آن واحد.

  وتفرد الرسامة قسما خاصة للأراجيح (مراجيح العيد كما يسميها أطفال مصر)، وهذه الأراجيح لا ترتبط وحسب بالعيدين الكبير والصغير، بل بالموالد القروية التي تجر إليها الأراجيح حتى تتخذ ركنا يحتفظ للأطفال بالجزء البهيج من المولد. تعلو بهم دورة إثر دورة وحين تنقلب تجد الصراخ الممتزج بالفرحة والطرب والتشجيع.

بعد رحيلها، تصدرُ أعمالها بين غلافين، ونستعيد في كل صفحة ذكريات معارضها التي كانت تقيمها لها الجامعة الأمريكية في القاهرة، والأكثر من ذلك أننا نستعيد روح الحياة المصرية، ولا نقول بعيون أجنبية، لأن الفنانة التي عاشت نحو القرن في مصر، تكون شاهدة مصرية في أعماقها، على رحلة الحياة، لدى أطياف من البشر، أصبحوا خارج الزمن.

من مفاجآت الكتاب الصادر هذا الشهر في 152 صفحة من القطع الصغير عن دار الهلال، ما يقدمه أشرف أبو اليزيد في الفصل الرابع بعنوان (قصائد مارلين مونرو):

“لستُ أكتبُ عن أشعار مارلين مونرو من باب الطرافة، فللجدية نصيبٌ كبير في الحديثِ عن نجمةٍ أصبحت أيقونة في الفنون جميعها. ألم تنسج ملامح سينما الإغراء، فاقتفت آثارها الفنانات المُحاولاتِ غربًا ثم شرقا؟ ألم تترك قصة حياتها مشاهد خاطفة غامضة مثل برق آلة تصوير يبهر النظر أكثر مما يكشف للبصر؟ ألم يُشع أنها انتحرت، بقدر ما قيل أنها نُحرتْ؟ ألم تُلهم صورتها آندي وارهول لتعطي فن البوب آرت دفعة غير مسبوقة؟ ولكن إن اختلف الجميع بشأن مارلين مونرو فقد اتفقوا على أن ينظروا إلى جسدها، ناسين أن هناك رأسًا ذات عقل تحرك هذا الجسد، ومتناسين أن لها قلبًا ذا مشاعر يتألم ويبكي. ولعلهم لم يعرفوا أيضا أن هناك فما ينطق بالحكمة، ويدًا تكتب الشعر!”

ومن القصائد المدونة في هذه السيرة:

ربما أكونُ قدْ عشقتك مرة،

ربما أكونُ قد نطقت بحبِّك جهرة،

لكنك ذهبت بعيدًا،

وحين عدت،

كان ذلك بعد فوات الأوان،

كان الحب قد أصبح كلمة منسية،

فهل تذكر ذلك كله؟

مارلين مونرو

إنها القصيدة التي أنشدتها مارلين مونرو للعشاق الكثيرين الذين اقتربوا منها، فمنحتهم روحها وجسدها معًا، بل ووهبت لهم مالها في أحيان أخرى، ولكن ذلك كله لم يشفع لها عند أحد منهم، حين تركوها فريسة للوحدة والألم:

آه أيها الزمن،

هلا رحمتني،

هلا ساعدت ذلك الكائن المتعب،

فتخفف من وطأة وحدتي،

وتطمئن بالي،

وأنت تلتهم جسدي!

ويختار المؤلف أن يقدم وجها جديدًا لكوكب الشرق في الفصل الخامس الذي حمل عنوان (قصة قصيرة لأم كلثوم):

“كانتْ تتلو القرآنَ الكريمَ فيخشع لها القلب، وتنشد القصائد والأغنياتِ فيطرب لها السمع، وتضيفُ للشِّعر، بلْ وتحذف منه، فترضى به السليقة، وتصعد إلى خشبة المسرح واثقة الخطى في وصلة ووصلتين، فينتبه لها وجدان المشرق والمغرب، وتظهر على الشاشة الفضية جارية وسيدة، وتهمسُ بالفكاهاتِ والملح، وتعشق كلَّ جميل، ويعشقها كل مبدع، ولكنها أيضا كانت، كما سنعرف في هذه السطور، تقرأ الأدب القصصي، بل وتبتكر نهايات قصصية! فماذا بقي لأم كلثوم، كوكب الشرق،عَصيًّا على الدَّمْع والفعل؟”

بدأت الحكاية قبل 75 عامًا، وبالتحديد في 15 أكتوبر 1934 حين نشرت مجلة الإثنين الأسبوعية المصورة، والتي كانت تصدر عن دار الهلال في القاهرة، وتضع عنوانا جانبيا لها هو الفكاهة والكواكب، قصة بعنوان النذر، دون أن تضع لهذه القصة خاتمة، وقد طلب محرر الإثنين الأستاذ أبو نظارة إلى القرّاء أن يتصوّروا نهايتها.

هُنا أم كلثوم:

هذه قصتي!

كتب أبو نظارة بعد قراءة الإجابات: استبعدت تلك الردود وهي الغالبية العظمى، ثم أبقيت الردود الأخرى التي تصح أن تكون تتمة للقصة  الناقصة، فما راعني إلا أن أجد أحدها مذيلاً باسم مطربة الشرق الآنسة أم كلثوم! وقد قرأته وأنا أخشى أن يكون هناك شخص جريء قد اعتدى على اسمها الكريم فانتحله، حتى رجوت من أحد موظفي دار الهلال أن يتصل بحضرتها بالتلفون ليستوثق من أنها قد أرسلت تلك الإجابة. ولما لم يستطع الاتصال بها تليفونيًا راجعت توقيعها على توقيع لها محفوظ بدار الهلال.

وقد قارنت بين إجابتها والإجابات الأخرى، فوجدتها هي الأقرب إلى الروح القصصية والأنسب لتكملة القصة، ذلك فضلاً عما تحتويه فكرتها من نبل وتضحية، وليس عجيبًا من مطربة الشرق أن تصل بذكائها الفطري وعاطفتها السامية إلى الحل الصواب، وهي التي تهز النفوس بصوتها وترتفع بالقلوب إلى العلياء. وعليه فقد فازت مطربة الشرق بالجائزة الأولى هي قلم فازت مطربة الشرق بالجائزة الأولى وهي قلم حبر بريشة ذهب وقلم رصاص ماركة ريليانس.

أشرف أبو اليزيد

في بستان الشعر يحلق الفصل السادس مع فدوى طوقان، تلك الزهرة النابلسية ورحلتها الجبلية، التي التقاها المؤلف في مسقط ثم تتبع خطى سيرتها النادرة التي تعد نموذجا للرحلة الشاقة بنضالها والخصبة بثمارها.

“لم تكن سطور الشاعرة الكبيرة مجرد قراءة في ماض ينتمي لها وحدها، بل قراءة في ذواتنا، خاصة وأنها كانت شاهدة عصرنا الفلسطيني. كنت أستعيد قراءة الحلقة الواحدة مرات ومرات. ومن كان يُمَني نفسه ـ وهو في سن العشرين مثلي حينها – بالشعر دربا، كان عليه أن يقرأ إنجيل الشاعرة الكبيرة، وقد حفرت سطوره في جبل القسوة والظلم والألم؛ قسوة التاريخ وظلم المجتمع وألم فراق الأحبة، حفرتها بصمود وإيمان شديدين بموهبتها وقدرتها علي أن يكون لها صوتها الخاص في صحراء الصمت التي أحاطها بها المجتمع”.

ويقول تحت عنوان (فدوى التي أحبها):

:التقيتها في بلاد السندباد، كانت ضيفة مهرجان الخنساء الشعري في مسقط، وحين قدمَت شهادتها عن تجربتها في الشعر والحياة، قرأت في السطور التي كتبَتها رائحة الرحلة الطويلة. كانت أمامي فدوي التي أحبها، فبدأت معها الحوار من حيث انتهت (رحلة جبلية.. رحلة صعبة)، تقمصتُ دور الصديق الذي رمزت له بحرف (A) والتقته في أنكلترا؛ عاشق الشعر والرسم في سيرتها. كانت هي نفسها، التي عشت مع سيرتها، وعاشت فيَّ سيرتها، فكأنني لم أفارقها أبدًا.

قالت لي: جئت من زمن كان فيه شعر المرأة بدعة، فالمرأة العربية في موروثنا الشعري لم يتعد دورها قول الرثاء، وإبراز مناقب الراحلين، عدا ما قدمته لنا رابعة العدوية في القرن الثاني للهجرة، بشعرها في الحب الإلهي، ظاهره الغزل الحسي وباطنه الدعوة إلي الله بالحب الذي هو أهل له. أما الأغراض الشعرية الأخري فكانت من المحـرمات. وهذا يختلف عن شعر المــــرأة في الأندلـــس، وقد عرفت هناك من الحــرية ما لم تعرفه نساء المشرق، والحرية مصدر إبداع الإنسان وسر تفجر طاقاته. سألتها عن دور أخيها الشاعر الكبير إبراهيم طوقان في حياتها. قالت لي وكأنها تطالع وجهه عبر السنين: لولا وجود شقيقي في حياتي لما قطعت هذا المشوار، إبراهيم طوقان هو صانع نسيج وجودي، فهو الشاعر الذي أخذ بيدي ودلني علي بوابة الشعر، وحين توفاه الله صغيرا، اعتمدت الجهد الشخصي والتثقيف الذاتي، فكنت قد خرجت من المدرسة ـ كما قرأت في سيرتي ـ في سن الثالثة عشرة، لكنني بالمراسلة وتنظيم الوقت، وبذهابي إلي أكسفورد سنتين تعلمت الإنكليزية، وحاربت من أجل كتابتي، لأن الشعر يستحق، فهو قضية وجودي”.

ويختتم ذلك الفصل بقراءة قصيدتها التي قدمتها في ديوانها (الليل والفرسان)، حيث تكتب فدوي طوقان نصها (إلي السيد المسيح في عيده):

يا سيد، يا مجد الأكوان

في عيدك تصلب هذا العام

أفراح القدس

صمتت في عيدك يا سيد كل الأجراس

من ألفي عام لم تصمت

في عيدك إلا هذا العام

فقباب الأجراس حداد

وسواد ملتف بسواد.

القدس علي درب الآلام

تجلد تحت صليب المحنة

تنزف تحت يد الجلاد

والعالم منغلق

دون المأساة

هذا اللامكترث الجامد يا سيد

انطفأت فيه عين الشمس فضل وتاه

لم يرفع في المحنة شمعة

لم يذرف حتي دمعة

تغسل في القدس الأحزان.

قتل الكرامون الوارث يا سيد

واغتصبوا الكرم

وخطاة العالم ريش فيهم طير الإثم

وانطلق يدنس طهر القدس

شيطانيا ملعونا،

يمقته حتي الشيطان .

ومما يزيد في ثراء الكتاب أنه يقدم في الفصل السابع ديوانا كاملا للشاعرة اليونانية سافو؛ ربة الفن العاشرة.

وفي حياة سافو من الأسطورة ما هو أكثر من الواقع، ولها من الخيال نصيب أوفر مما لها في الحقيقة، ولا تكاد الأشعار التي تركتها تنبننا عن سيرتها الكثير، فهي لا تشير الى التفاصيل المفسرة، كما أن المؤرخين لها لا يلحون على الشذرات التي لا يخلو بعضها من التجني على شاعرة نذرت نفسها للحب، تعلمه أفضل مما تستمتع به، وتغني له بأفضل مما تعيشه. سيكتنف الغموض مسارات حياة سافو، منذ اللحظة التي ترى فيها نور السماء. فنحن لا نجد فيما دونته السير أكثر من تواريخ (تقريبية ) لمولدها. وإشارات مبهمة لزواجها، وأسباب متجنية لنفيها عن وطنها، وقصائد غير كاملة لذويها. وحين يتناولها النقاد بالدراسة سيكتبون عن عصرها باستفاضة لا تنالها.
ويتواترون التهم التي لحقت بها دون دحض لها، فلا يبقى من سافو إلا الخيالات التي لا تستحقها، والافتراءات التي طاردتها في الحياة والممات.

ومن أجواء ديوان سافو:

أبلغي كل إنسان

الآن، اليــــوم، بأني
في عذوبــة سأغني
لمتعة صديقــاتي
*

ولسوف نستمتع معا بالغناء

مثل من يجـــد
الخطايا، وربما السذاجة
والحزن تجرفه!

*
واقفة بجانب سريري

بصندليها الذهبيين
والفجر في نفس
اللحظة أيقظني
*

سألت نفسـي

ماذا ، يا سافو، بمقدورك
أن تمنحي لمن
تمتلك كل شيء،
كأفروديت؟

*

أعترف؛

أنني عشقت ما أرهق
حالي. وآمنت

بما للعشق
من نصيب في
تألق الشمس
وعفتها.

*

في وقت الظهيرة

والأرض
تضيئها ألسنة لهيب
يتساقط كرمح عمودي

يطلق صرصار الليل
عاليا كقذيفة
غناءه بجناحيه.

*
برغم أنهن
محض أنفاس وحسب، لكن الكلمات
التي أملكها
خالدة.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات