إعادة اكتشاف بينوكيو

07:29 صباحًا الأربعاء 29 مايو 2013
محمود قاسم

محمود قاسم

ناقد وروائي من مصر، رائد في أدب الأطفال، تولى مسئوليات صحفية عديدة في مؤسسة دار الهلال، كتب عشرات الموسوعات السينمائية والأدبية، فضلا عن ترجمته لعدد من روائع الأدب الفرنسي.

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

إعادة اكتشاف بينوكيو..عندما يكون المؤلف مجهولاً..

فى مكتبات كل منا، توجد كتب قيمة، تعلوها الآن كمية من الأتربة، وعندما نبدأ فى ازالة التراب عنها، سوف نكتشف كنوزاً عظيمة، نفض التراب هنا يعنى إما قراءتها لأول مرة بنصها الكامل، أو إعادة قراءتها من جديد، أو الكتابة عنها.

ومن بين الكلمات المأثورة التى لا تنسى عن عباس العقاد أنه أشار أن قراءة كتاب مرتين أفضل بكثير من قراءة كتابين، لأننا عند القراءة الثانية لنفس الكتاب فإننا نكتشف جوانب جديدة لم ننتبه إليها فى القراءة الأولى.

لم أكن أتصور أن الرواية بينوكيو للكاتب الايطالى ماركو كولودى (1826 – 1890) تحمل هذا الكم من التخيل، والفانتازيا، والأهمية، إلا عند القراءة الجديدة لهذه الرواية المكتوبة للأطفال، التى وضعت صاحبها فى دائرة الشهرة طوال القرن العشرين، وصار الأراجوز الخشبى بينوكيو هو واحد من أشهر الشخصيات الأدبية التى عاشت فى القرن العشرين تجدد نفسها، ويتجدد وجودها  بتحويلها إلى روايات، ومسرحيات، ومسلسلات تليفزيونية وأعمال إذاعية، وأغنيات، ومن أبرز هذه الشخصيات هناك دراكيولا، وفرانكشتاين، والدكتور جيكل، والسيد هايد.

اكتب هذا، وأنا أقرأ أيضا، فى الوقت نفسه الأعمال الكاملة للكاتب الدانمركى هانس كرستيان اندرسن، الذى يعتبره النقاد أفضل من كتب للأطفال، وهناك جائزة أدبية سنوية تمنح باسمه تعرف باسم “نوبل الصغير” نتمنى أن يحصل أحد كتابنا عليها والكثيرون منهم تجاوز سن الثمانين.

هذه القراءة المزدوجة لكل من كولودى، واندرسن، تجعلنى أجزم أنه أيضا فى عالم الكتابة فإن كاتباً تخطف إليه الشهرة، والمجد، أكثر من كاتب آخر يستحقها، ففى رواية بينوكيو يوجد كم مبهر، عدداً ونوعاً، من التخيل، يعادل كافة ما كتب زميله الدانماركى، الذى سبقه فى الحياة، وذلك باعتبار أن النص المكتوب يقع فى 238 صفحة، فإن كولودى ابتكر قرابة مائتى خيال جامح متدفق، مجنون غير مألوف.

إذن، ليس بعدد الكتب، ولا بالاسم الرنان للكاتب، ولكن ببراعة المؤلف، ولا أعرف لماذا صار بينوكيو أكثر شهرة من صانعه، ولماذا لم يمنحه لمعان الاسم مثلما حدث مع سربانتس مؤلف رواية “دون كيخوته”.

الكتاب بالعربية يتيم المؤلف والمترجم

ليست كتابتنا هنا تعنى التقليل من مكانة اندرسن، ولكننا نقصد اعلاء اسم كولودى، فللأسف الشديد، أن أشهر طبعة عربية لهذه الرواية صدرت منذ سنوات عن سلسلة “ولادنا” بدار المعارف، وليست هناك أى اشارة بالمرة لاسم المؤلف، وبالمرة تم حذف اسم المترجم عادل الغضبان، فبدا الكتاب كأنه مولود يتيم المؤلف والمترجم، رغم أن كل هذا التخيل المتدفق الساحر، وهذه الترجمة البديعة، قد أعطيا نكهة خاصة للكتاب.

أندرسن هو أحد الكتاب الأدبيين بالإضافة إلى مؤلف (أو مؤلفو) ألف ليلة وليلة الذى حصر أبطال قصصه فى طائفة الملوك والحكام، وذلك باعتبارهم صفوة الناس، يحب عامة الشعب التعرف عليهم، والعيش معهم فى القصور من خلال الابداع، رغم الحياة الفقيرة البائسة التى عاشها اندرسن فى أغلب سنوات حياته.

أما كولودى، فقد بدأ روايته الفريدة، التى لا نكاد نعرف له أسماء مؤلفات أخرى على النحو التالى:

“يحكى أن….

“سيقول قرائى الصغار: “يحكى أن ملكا…… لا يا أصدقائى، يحكى أن قطعة من الخشب لم تكن أحسن الخشب، بل من الخشب العادى، الذى نستعمله فى الافران والمدافىء، لايقاد النار وتدفئة الغرف فى الشتاء….

لقد أخذ الميؤلف قارئه المباشر إلى الغابة، حيث يعيش الفقراء، والمحتاجين، والبطل الرئيسى هو نجار عجوز اسمه انطونيو، وان كان الناس جميعا يسمونه السيد “كريزة” لأن طرف أنفه كان دائماً أحمر لامعاً، مثل الكريزة الناضجة تماما.

كولودى، مثل اندرسن، هناك تشابه بين مؤلفاته، أو درجة التأثير عليه، وبين الكاتب الفرنسى شارل بيرو، تدور أعماله فى الغابة، وهو من مواليد فلورنسا، وكولودى هو اسم عائلة أمه، سيرة حياته لا تجذب الاهتمام كثيرا، حيث عمل صحفيا، وهو أحد الذين انضموا إلى الدفاع عن وحدة واستقلال ايطاليا تحت قيادة جاريبالدى، فلما توحد وطنه، وكتب بعض الروايات والمسرحيات، لم تلق منها أى نجاح، مثل الذى حققته رواية “بينوكيو” الذى يتضح من سطورها الأولى أنه كتبها خصيصا للأطفال، وقد بدأ نشر هذه الرواية مسلسلة فى إحدى الجرائد الشعبية، واستغرق نشرها قرابة العامين، من 1881 وحتى عام 1883.

ومن الواضح أن الكاتب قد وضع فى هذه الرواية، كل ما لديه من تخيل، وباستثناء “ألف ليلة وليلة”، ثم روايات الكاتب تولكن، فإن التخيل الذى رأيناه فى بقية الأعمال، يعتبر عاديا، قياسا إلى ما رأيناه عند الكاتبين، إلا أن كتابات تولكن تبدو بالغة المفردات على الكبار بمفرداتها، وأسماء الأبطال، والأماكن، والحوادث المتداخلة، كى تبقى لكولودى الصدارة، والتفرد فى التكابة للأطفال.

لكن هناك مأساة ملحوظة فى أدب الأطفال، تتمثل فى أن الطفل القارىء لا يعطى لاسم المؤلف أهمية أسوة بما يحدث فى أدب الكبار، وقليلون هم أصحاب الأسماء التى تلتصق بأذهان القارىء، وفى مصر، فإن هناك أسماء بعينها يذكرها القراء الصغار، ومنهم كامل كيلانى، ثم نبيل فاروق الذى لم يعتبر نفسه أبداً، حسبما قال لى يوماً، إنه كاتب للأطفال، بل للشباب.

فى عام 1981، وبمناسبة الاحتفال بمرور قرن كامل على نشر رواية بينوكيو، كتب الروائى الايطالى ايطالكالفينو: “من الطبيعى أن نتصرف على أن بينوكيو موجود دوماً بيننا، ولا يمكن أن نتخيل عالماً بدون بينوكيو”.

 

بينوكيو ثاني الكتب الأكثر مبيعا فى ايطاليا خلال 100 سنة

وحسب الاحصاءات المنشورة فى موقع ويكبيديا، فإن “بينوكيو” هو الكتاب الذى حقق المبيعات رقم اثنين فى ايطاليا طوال القرن الماضى، حيث بيع منه قرابة عشرة ملايين نسخة، أما الكاتب الأول الذى حقق أعلى المبيعات “اثنا عشر مليون نسخة”، هو “الكوميديا الإلهية” لدانتى الليجيرى.

وقد امتلأت شاشات السينما دوماً بقصص الأراجوز الخشبى، سواء فى ايطاليا وغيرها، وترجمت الرواية إلى أغلب لغات العالم، وتبارت شركات أفلام التحريك “الرسوم المتحركة” على تقديمه، مثل فيلم “مغامرات بينوكيو” عام 1936، اخراج الايطالى امبرتوسبانو، وبعد أربع سنوات قدمه والت ديزنى فى فيلم تحريك مشهور، وفى عام 1957، تم تقديمه من جديد فى فيلم من اخراج جانتو جار دونه، وقدم فى روسيا عام 1959، وعاد إلى الولايات المتحدة عام 1965، باسم “بينوكيو فى الفضاء” اخراج راى جوسنس، وفى عام 1972، قدمه المخرج الايطالى المشهور ماريو كومنشينى فى مسلسل تليفزيونى، ثم قدمه المخرج الأمريكى ستيف بارون عام 1976، ومن الواضح ان الأمريكيين هم أكثر الناس احتفاء بالأراجوز الخشبى، حيث قدموه مجدداً فى “انتقام بينوكيو” 1997، و”بينوكيو وجابيتو” عام 2000 .

وقد أدهشنا الممثل الكوميدى روبرتو بنينى، عندما جسد الشخصية فى فيلم من اخراجه عام 2002، وفى عام 2004، تم تقديم بينوكيو كروبوت، وفى العام الحالى، عاد بينوكيو مرة أخرى لنراه فى فيلم تحريك من اخراج دانتسودالو.

أى أن بينوكيو لم يكن فقط كتابا يباع بملايين النسخ، بل ذهب ملايين البشر لمتابعته فى الأفلام، والمسرحيات، والمسلسلات الإذاعية، والتليفزيونية، والغريب أن النقاد لم يربطوا بين “بينوكيو” و”بيجماليون” فكلتاهما عن شخص يصنع كيانا، ويقع فى حبه، ثم تدب فيه الحياة، ففى أسطورة بيجماليون، قام مثال بنحت تمثال ضخم جميل، تجلت فيه روعة الابتكار، وما لبث أن وقع فى غرام هذه التحفة، وذهب إلى الغابة، وتوسل إلى الآلهة أن تمنح للتمثال الحياة، وعندما عاد إلى البيت، وجد الحياة تدب هناك فيما نحته.

أما النجار العجوز كريزه، فإنه يحصل على قطعة من الخشب، ففرك كفيه فرحا، واستعد لنزع القشرة وتسويتها كما يريد، لكنه عندما رفع يده بالقدوم لينزل على الخشبة بالضربة الأولى، توقفت يده فى الهواء، لأنه سمع صوتاً رفيعا، يقول له محذرا:

“لا تضربنى بشدة”..

هذا أول تخيل من الخيالات الجامحة التى تقابل القارىء فى الصفحة الأولى من الرواية، باعتبار أننا لاحظنا أن كل صفحة من الرواية تتضمن تخيلا واحدا على الأقل، أو أكثر، كأننا فى أرض متاهات للتخيل، قام الكاتب بحرثها، وبذرها، بكل هذا القدر من الخيال الجامح الأرضى، بما يعنى أننا لسنا أمام أجواء غيبية، ولكن القصة بأكملها بما بها من شطحات متخيلة قد ارتبطت بالأرض التى يعيش عليها بينوكيو.

التخيل الأول أن قطعة الخشب التى ينوى النجار أن يحولها إلى “رجل” لمائدة الصغيرة، قد صارت تتكلم، تدب فيها الحياة، ويعترف النجار أنه رجل صاحب خيال، أسوة بالمؤلف “لابد أن خيالى قد صور لى أننى أسمع هذا الصوت، فمادام الأمر كذلك، فلنشتغل إذن”، أى أن التخيل هو مفتاح الدخول إلى العمل، والمغامرة، فعندما ينزل القدوم على قطعة الخشب، تتألم، وتردد: “آى، إنك تجعنى!”.

ومن هنا يبدأ سيل من التشبيهات والتخيلات، صور سينمائية مكتوبة فى رواية، قبل ابتكار السينما بعقدين من الزمن تقريبا.. مثل قول النجار: “أيمكن أن تكون قطعة الخشب هذه قد تعلمت البكاء والشكوى كما يبكى الأطفال ويشتكون”.

الصفحات الأولى مليئة بالدهشة بالنسبة للنجار، على غرار ما يحدث لعلاء الدين حين يقوم بحك المصباح السحرى القديم، فيخرج له الجنى، ويتكلم إليه.

وفى الفصل الثانى، تبدو موهبة كولودى الفكاهية، فهو يخبرنا أن اسم الرجل الذى سوف يتبنى بينوكيوة “جابيتو” اسمه “عصيدة” وعندما يدخل عصيدة بيت النجار، يراه جالسا فوق الأرض، فلما يسأله عن سبب ذلك يأتيه الجواب “اعلم النحل القراءة”.

وفى الحوار الذى يدور بين جابيتو، والنجار، تبدو درجة التخيل عند النجار عندما يقول انه يود صناعة أراجوز خشبى لطيف، أراجوز مدهش، يرقص، ويبارز ويتقلب فى الهواء، يدور به حول العالم، كى يكسب بفضله قوت يومه.

وعلى الفور فإن صوتا ينطلق من داخل قطعة الخشب، تنادى جابيتو، باسمه الذى يغضب لو أن أحداً ناداه به، انه اسم “عصيدة” ويدور حوار طريف بين الرجلين، عصيدة، والنجار يتضاربان اثناءه،ويتبادلان الصفع والعض، وإحداث الخدوش.

الفصل الثالث يبدأ بعودة جابيتو إلى غرفته الصغيرة تحت السلم، ليس فيها من الأثاث سوى مقعد لا يكاد يقوى على الوقوف، وسرير كسيح ومائدة تكاد تقع، وهناك ينحت الرجل أراجوزه، ويطلق عليه اسمه “بينوكيو” وتبدأ ملامحه فى الظهور، خاصة أنفه، التى كانت أول شىء ظهرت فى الأراجوز، هذا الفم له شخصية، مثل الأنف فى أقصوصة “الأنف” لجوجول، وقد توقف الكاتب عند تفاصيل ابتكار الأراجوز الخشبى، حتى إذاتمت صناعة اليدين، قامت هذه بالعمل لتوها، فخطفت “قراعة” النحات، وغطى بها بينوكيو رأسه.

وهناك تتجلى عبقرية التخيل، فكلما انتهى جابيتو من عمل جزء فى جسم بينوكيو، قام الجزء باثبات وجوده، كان تقوم القدمان برفس صانعه، ثم اخذ يجرى خارج الدار، وعجز جابيتو عن اللحاق به، وهنا تبدأ حالة من اللهاث غير المتوقف لدى بينوكيو، يريد أن يسبق العالم والزمن.

ومن المهم أن نقتبس من الحين والآخر جملا قصيرة تدل على جمال النص، وعبقرية التخيل لدى كولودى، لكن الناس لما رأوا الأراجوز الخشبى يجرى منطلقا كأنه حصان السباق، حملقوا فيه مدهوشين متعجبين، ثم ضحكوا وضحكوا حتى وجعتهم جنوبهم.

 

الرحلة الى ما لا جدوى

أهم ما فى رواية “بينوكيو” هو الرحلة الى ما لا جدوى التى يقوم بها الأراجوز، بعد أن تم الامساك بابيه وادخاله السجن، ووجد “بينوكيو” نفسه فى حالة هروب، وبحث عن أبيه، الذى لم يجتمع به من قبل ولا من بعد، دقائق متكاملة، انها رحلة نحو اللاجدوى، لا يتحقق منها شىء، يلتقى خلالها بينوكيو بأشخاص لم يتوقع أن يقابلهم، ويذهب إلى أماكن تتداعى أمامه، وهو يحاول العودة إلى أبيه.

أول ما التقاه بينوكيو هو الصرصور المتكلم الذى يزحف على الحائط.. الذى عاش فى الغرفة مائة عام، والذى يحذر بينوكيو قائلا “ويل للأطفال الذين يعصون آبائهم، ويهربون من بيوتهم، انهم لن يروا السعادة فى هذه الدنيا أبداً”.

هذا الصرصور، يتكلم، ويغنى، ويسدى النصيحة، وهو أيضا نقاق، يصفه كولودى أنه صبور، لا يغضب، يستمر فى اسداء النصائح، وهو يحاول أن يعلم الأراجوز حرفة كى يتمكن من كسب قوته، هذا الصرصور لن يلبث أن يختفى من مسرح الأحداث، فيموت إثر ضربة من قدوم بينوكيو، وانتهى به الأمر أن تمدد يابسا على الحائط وبقى مشتبكا به.

وتتوالى التخيلات، فعندما يحس الاراجوز بالجوع الشديد، يجرى إلى المرجل الذى يغلى لكن المرجل لم يكن إلا رسما على الحائط، فراح يفتح فمه حتى وصل الفم إلى ما وراء أذنيه، فلما انتهى من تثاؤبه، بصق وكان لم تكن له معدة على الاطلاق، حيث أن المؤلف أكسب الأراجوز سمات انسانية، منها الاحساس بالجوع، والطموح، والبكاء، والشعور بالندم، والتردد، فهو لا يستقر على قرار، أو حال، فعندما يعثر على بيضة، يقوم بكسرها فى الماء المغلى ويضع فى المقلاه ماء بدلا من الزبد، فلما غلى الماء.. طك! كسر البيضة وأمسكها فوق المقلاة.

“انتظر خروج صغارها وبياضها لكنه رأى بدلا منها كتكوتا صغيرا يخرج من البيضة طائرا، ثم ينحنى له انحناءة مؤدبة، ويشكره لأنه وفر له مجهودا كان عليه أن يبذله فى كسر القشرة، ويفرد “الكتكوت” جناحيه، ويخرج طائرا من النافذة المفتوحة ويغيب عن الأنظار.

وتتوالى صور التخيل فى عالم بينوكيو، انه كما أشرنا عالم أرضى، قد يقابله طفل صغير، أو أراجوز متخيل، ينطلق إلى القرية، بشوارعها الخالية، بحثا عن طعام، فيلتقى بنماذج من البشر، وتحترق قدماه المبتلتان الموحلتان عندما يضعهما على الكانون الدافىء، ويروح فى نوم عميق.

عندما تحترق قدما بينوكيو، يحدث لقاء جديد مع أبيه جابيتو الذى يصنع له قدمين جديدين من الخشب، وما إن تعود إليه قدماه حتى يطلب من الأب “بذلة” من الورق المنقوش وحذاء مقشر الشجر، وطاقية مصنوعة من لباب الخبز.

وليدخل القارىء معى فى تصور شكل “بينوكيو” الجديد، بهذه الملابس حيث يرى أنه صار أشبه بعظماء الرجال، ويقرر بينوكيو الذهاب إلى المدرسة، وفى طريقه يقابل شريرا يقنعه بعدم الذهاب إلى المدرسة، ويذهب إلى مسرح الأراجوزات العظيم ليستكمل رحلاته نحو اللاجدوى، فهو لا يستمع إلى نصائح الكبار، خاصة أبيه، ويؤدى ذلك إلى ارتكاب المزيد من الحماقات، والوقوع فى أخطاء جديدة.

يصور الكاتب بطله رعنا، يمكنه أن يبيع كتابات الذى يتعلم منه، وإن اضطر اكثر فيمكنه ان يبيع ملابسه، ويدخل إلى مسرح الأراجوزات ليشارك فى أداء نمرة ترفيهية، حتى يظهر له صاحب المسرح الذى يصفه المؤلف أنه رجل طويل جدا، عريض الكتفين، قبيح المنظر، يفزع الانسان اذا نظر اليه، له لحية كأنها لطعة الحبر الاسود، أما فمه فواسع كأنه الفرق الكبير، واما عيناه فكأنهما مصباحان احمران، وكان يبدو كرباح سميك طويل مصنوع من اذيال الذئاب، ملفوف بعضها فوق بعض، هذا الرجل، بما وصفه المؤلف، هو نموذج للمخلوقات التى يقابلها بينوكيو فى رحلته.

هذا الرجل، هو الشخصية الأولى التى يفصل المؤلف فى وصفها ويعطيه اسم “آكل النار” هو فى ظاهره رجل مخيف، لكنه فى حقيقة الأمر طيب القلب، وكان إذا أحس بالحزن من أجل أحد عطس عطسة شديدة، وهو يأمر رجاله أن يأخذوا الفنان هارلكان، وأن يربطاه ثم يرمياه فى النار، لأن خروفه يجب أن يتم شيه.

وفى رحلته يقابل بينوكيو العديد من الشخصيات المتخيلة، مثل الثعلب الأعرج، والقط الأعمى، يمشيان معا، يتكآن على بعضهما، ويحتالان معا على بينوكيو ليأخذا منه الجنيهات الخمس التى منحه اياها “آكل النار” ويذهب الثلاثة حتى يصلوا قرب المساء إلى فندق “أبو جلمبو الأحمر”، املا فى استكمال الطريق للوصول إلى “غيط المعجزات” عند شروق الشمس، هذا القط التهم فقط خمسة وثلاثين سمكة مطبوخة بصلصة الطماطم وأربعة أطباق من الكرش، فوقها كثير من مسحوق الجبنة الرومى، لكنه لما وجد أن الكرش غير متقن الصنع طلب ثلاث مرات زبدا وجبنا مفروما.

“أما الثعلب، وكان فى العادة يأكل كل شىء، فإنه المسكين – لما كان الطبيب قد أمره بالاقتصاد فى الأكل – قد اكتفى بأرنب كبير فى الصلصلة يحيط به عدد من فراح الربيع السمينة، ثم طلب بعد هذا الصحن – لكى يفتح شهيته – طبقا من الديك الرومى والبلبول والضفادع، وعنب الجنة، فلما فرغ من أكلها جميعا، رفض أن يأكل بعد ذلك شيئا”.

ونحن نسهب فى الرجوع إلى النصوص لنؤكد على ما بالرواية من شخصيات تخيلية وعلى تفصيلات الوصف كما كتبها المؤلف، فنحن لم نعرض سوى أقل من ربع صفحات الرواية المزدحمة بالتخيل، والشخصيات، والأماكن، من أبرزها الطفل الميتة التى تنتظر مجىء عربة الموت لتحملها، انها ذات شعر أزرق جميل، وايضا اللصان اللذان قاما بتعليق بينوكيو فى فرع الشجرة حتى كادت أنفاسه أن تتوقف، كى يظهر صقر كبير جاء من طرف ذات الشعر الازرق، التى تظهر فى الأحداث مرة أخرى وبصحبتها كلب ضخم جميل، يمشى واقفا على قدميه الخلفيتين، كأنه رجل ويلبث ثوبا من الثياب المزخرفة التى يلبسها الحوزى فى الحفلات.

وجدت نفسى أنقل السطور التى أدهشتنى فى قراءة هذه الطبعة من “بينوكيو” وما أجمل ما بها من صفحات، وقد كان من السهل أن أظل أكتب متأثراً بما سحرنى به كتاب قرأه ملايين القراء ويعرفون اسم بطله أكثر من مؤلفه، وقد تم استلهام هذه الشخصيات فى أعمال أدبية وسينمائية عديدة بالإضافة إلى الافلام المأخوذة مباشرة عن هذه الرواية، فلاشك أن اسحاق آزيموف كان فى ذهنه أن يقدم بينوكيو آليا فى أقصوصة “رجل القرنين” المكتوبة فى ستينيات القرن الماضى، لقد صار الروبوت بشراً يكبر فى السن، ويشيخ، كما أن حفار الخشب فى الدراما الأمريكية هو صورة من بينوكيو، وقد انتشر بينوكيو فى المسرح، وفى القصص المصورة، ورغم ذلك فإنك إذا سألت أغلب من أحبوا هذه الشخصية، عن صانعها، يتردد قليلاً، ولعله يعرف أولاً….

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات