عِطرُ الأحباب في رائِحَةِ الغياب

08:19 صباحًا الأربعاء 29 مايو 2013
أسامة كمال

أسامة كمال

كاتب من مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

يحل الغياب وتبقى الصور

هى محاولة لاستحضار الغياب من فضاءاته ، وتنسم عبقه الفاتن الكامن فى ” المنسى ” من الوجوه ، والأماكن ، والأساطير الانسانية ، ورسامو الظل ، وأوتار البحر ، وغبش الذاكرة .. رحلتى مع ” المنسيين ” سحرية وقدرية ، بدأت أول فصولها بالكتابة عن ” العم سعد ” الذى التقيته فى تباشير الصباح الأولى  قابضاً على كاميرته البدائية مُصراً على الحياة رافضاً الغياب ، جسده تهالك وروحه تكلست لكن عينيه ما زالت تومض بأيامها الغاربة ، نسيت كل ما حولى وجالسته مشغوفاً لفض بكارة أيامه  محاولاً   ” لملمة ” ذكرياته  قبل غرقها فى ماء أيامها البعيدة ، و ” لملمت ” ذكرياته ومعها تفاصيل وعوالم ما يزيد عن قرن من الزمن ، وتشبعت بالزمن حتى تعبقت روحى به ، بعدها جُبت الشوارع وارتحلت بين المدن لأتعرف على المنسيين ، ووجدتهم  قابضين على الحياة بقلوبهم ، حتى الراحلين منهم ظلت معهم أساطيرهم فى سماء غيابهم . وجاءت لقاءاتى مع معظمهم  مصادفةً ، وكأنهم ينقبون عنى مثلما أنقب عنهم ، أو كأننا التقينا تحت سماء أخرى قبل لقائنا وجمعتنا ظلال من ذكريات ..

عوالم ” المنسى ” فى الكتاب  ليست واحدة لأن الغياب طبقات وصفحات من الزمن ، ولكل زمن عطره  ورائحته ، ولكل عطر خصوصيته وخصائصه، ولكل زمن وجوهه وأماكنه وظلاله وأصواته وروائحه ومُفرداته ، والزمن كالبحر ليس له شاطىء واحد ، ومثله الغياب ليس له وجه واحد ، الغياب متعدد بتعدد الغائبين .. ورائحة الغياب    بيضاء بلون نقائها ، ودائماً ما تتشكل فى فترة الطفولة لتسكن الروح وتُبلل القلب بصفائها حتى لحظة المغيب .. رائحة الغياب عطر يتجدد بتجدد حكاياته ..

الكُلوباتى

وبعد ضوء كاميرا ” العم سعد ” الغائب والواهن ، نقبت عن ضوء آخر لمّع لفترة طويلة على الشوارع والأزقة والوجوه ، وجاس على الأرواح  بضوئه الشاعرى الرهيف ،  نقبت مشغوفاً عن ضوء ” الكُلوب ” الساكن داخلنا كدليل طريق إلى معنى الحياة .. وكان البحث عن – الكُلوباتى – مثل البحث عن الزمن المفقود ، كل أرباب المهنة يرقدون تحت تراب النسيان ، و – الكُلوبات –  تحولت إلى بقع ضوء متناثرة داخل ذاكرة كل من إلتقيتهم .. ومن الكلوباتى إلى ” العرضحالجى ” الكاتب المصرى العتيد  إلى ” القارئ المُزمن ”  الذى لا تفوته جريدة يومية ، ولا يغفل عن دورية أو مجلة أسبوعية ، ويعيش بين المطبوعات كمن يعيش بين صحبه ورفقته ..

بعدها تحولت علاقتى بالمنسيين إلى غواية ، ينقبون عنى مثلما أُنقب عنهم ، يلمعون بوجوههم أمام عينىّ كأنما يضيئون بوجوههم سماء روحى المتوهجة بغيابهم الآسر والأثير، أو كأنما تحولوا إلى صدى لمعنى يسكن داخلى كما يسكن فى غيابهم .. ومن المنسيين من رأيته بغتة كفاصل من ضوء واهن ، ويعيش وحيداً مع أحلامه المهدرة هائماً بلا مأوى متنقلاً بين أماكن متفرقة ..  ومنهم من وجدته يجلس على الشاطئ مُنتظراً ، والكل حوله يصلون إلى أحلامهم .. ومنهم من  كان يعرض الأحلام على الناس دون أن يصل إليها أو يقترب من شبقها الحميم .. ومنهم من يقف خلف الفاترينات المضوية فى رحلتها من الظل إلى الضوء ..

وبعد الوجوه عرفت الأماكن التى عاشت بوهج أصحابها ، يحضرون فتحضر، ويغيبون فتغيب ، تلمع بوجودهم فيها ، وتتلظى حالياً منسيةً بعيدةً عنهم .. ذهبت إلى  ” طابية عرابى ” وغادرتها ، ولم يبق معى منها سوى البحر . الطابية تآكلت أمام البحر الصامد الأبدى ، وتحولت جدرانها إلى مجرد أطلال واهنة تتحدث بحنين عن بشر غادروها إلى الغياب ،  ثم حاولت أن أقبض على نبض الزمن فى مكان آخر ، و نزعت نفسي من همومها، وسرت على قدمي من العتبة إلى الجامع الأزهر، ومنه إلى ” بيت الست وسيلة ” الكائن هناك منذ ما يزيد عن ثلاثمائة عام ، ولم  يبق منه سوى حكاية حجاب المحبة الأخضر الملفوف بمحبة زوجة صاحب البيت لزوجها عابراً زمن إنشاء البيت إلى زمننا ..

غرفة فردينان دى لسبس

وكما عادت ” الست وسيلة ”  إلى الحياة بوثيقة امتلاكها للبيت العتيق  ، عاد عصفور النار ” فردينان دى لسبس ” إلى واجهة الدنيا باتفاق الناس واختلافهم حوله ، وحول دوره فى بث الروح فى شريان مصر وروحها – قناة السويس – وعادت مع ” دى لسبس ” أماكنه التى ارتادتها وحكايات أضوائها الغابرة ، نفس الأضواء التى غابت عن ” سينما الألدرادو ”  وشاشة عرضها التى قبعت فى ظلام نسيانها  ، الظلام الذى غطى بُقعاً عديدة على امتداد بر مصر وبحرها ، وغطى معها مساحات من الذاكرة ، هناك فى أحد المخازن المغلقة  يرقد تمثال الملك فؤاد ( 1868 – 1936 ) وحيداً مُهملاً بعيداً عن قاعدته الخالية ، قاعدته التى تتصدر واجهة مدينة ” بورفؤاد  ” وتتوسط الميدان الرئيسى فيها ، ولا تبعد سوى أمتار قليلة عن مجرى القناة الملاحى .. وهناك فيلا واستراحة الملك فاروق ( 1920 – 1965 ) المنسية والمهملة على نهر النيل  بمحافظة دمياط  فى مصر، وتحديداً فى قرية ” كفر يوسف  ” التابعة لمركز ” كفر سعد  ” أحد مراكز دمياط الخمسة  .. ومع إقتراب الخريف دنا من قلبي حفيف الذكريات  وتناثرت أوراق الشجر الرقيقة على جسدي لتبلل روحى بمسحة صوفية بيضاء ، تُوقت على أثرها لسماع أشعار وأغانى الحرية والأرض والوطن العائدة لأيام بعيدة ، إلى أول يوم لامست قدماى فضاء جامعة القاهرة عام 1989، وماء رأسي يطفو بأحلامى البريئة المجردة الخالية من ربكة التفاصيل .. وكما للجامعة معنى وملامح ورائحة ، للمقهى ركن مضيء أخاذ ، لا يخفت ضوءه ، ولا تزول رائحته ، فالمقهى ليس مجرد مكان وناس يأنسون به ويأنس بهم ، المقهى ”  حالة  ”  يختفى فيها البشر مع المكان ، ويصير كلاً منهما ظلاً للأخر ومعنى له . بمجرد الخروج من جدران البيت تبحث الأرواح عن مقهاها كضوء بعيد لتتوحد معه وتختفى فيه ، ومن تعرف روحه طريقها إلى مقهى ” زهرة البستان ” بوسط القاهرة  ، لا  يمكن لها أن تفارقه ، يظل القلب قابعاً فيه ، يناديه في غيابه حتى يعود، وفى نومه حتى ينهض ، وفى موته حتى يتنسم الجالسون رائحته بينهم وحولهم… والغائبون ليسوا فقط وجوهاً وأماكن ، بل ظلالا ًمن المعانى ارتبطت بأرواح نبيلة وتعطرت برائحة قلوبهم ، وكمنت على الأرض كأنشودة انسانية فى الأماكن والأزمنة التى تلامست وأرواحهم النديّة ..

مؤلف الكتاب في رحلة عبر التاريخ تستنطق الصور والذكريات، ويحكي فيها الحجر عن البشر

ومن تلك الأرواح الندية ، عم أحمد عوض ، الذى عاش ما يقرب من تسعة وسبعين عاماً ( 1927 – 2006 ) ،  مر فيها بكل مراحل الحياة : طفولة ،  صبا ، كهولة ، وهن وشيخوخة . ومع ذلك  لم أُصادف  أحداً إلا ونعته بلقبه الأثير ”  عم أحمد  ” ، وكأنه اسمه منذ طفولته الأولى ، ورغم الآلاف الذين يحملون نفس الاسم ، لكن  اللقب ارتبط به وحده واقتصر عليه.. ومنهم الشاعر الراحل ” على قنديل ” الذى تفصلنا سنوات طويلة عن لحظة رحيله ، وما لها من لحظة ، وما أقساه من رحيل ، حينما دهست بعنف عجلات سيارة تابعة للجيش المصري مُسرعة وطائشة ابن الاثنين وعشرين عاماً في ظهيرة يوليو عام 1975 ، وأعلنت  بغلظة وجفاء العسكريين موت حلم لم يكتمل وتفاصيل أسطورة إنسانية ،  لم تكشف بعد عن كل ملامحها .. ومنهم ” : عم محمد طنطاوى ” ، الفرد المُجند فى كتيبة 140 مظلات خلال حرب أكتوبر عام 1973 ، الذى صادفته ليلاً في ميدان التحرير ، وجذب عيني كأيقونة سحرية مُشعة وسط ضجيج الأصوات واليافطات ، وكان صامتاً ساهماً في سماء لا مرئية تخصه وحده ، سنواته تجاوزت الستين عاماً ، وتتحرك معه عصاه مثل صديق قديم طالت رفقته ، يرتدى ( بالطو ) داكن اللون رهيف الشكل ، يغطى جسده بالدفء كما تغطى عيناه مودة رجل طيب من زمن بعيد ، وعلى ( البالطو ) يضع لوحة بحجم جسده النحيف كله كاتباً عليها مطالب الثورة الوليدة والنبيلة ، خطها بيده وكأنه يخط أحلامه على الأرض وفى السماء ، ويتحرك بمطالب الثورة كطائر نبيل يسير على الماء ..

ومنهم ” صبرى السماك ” الذى أدرك ثورة يناير، وقلبه ما زال عفيّاً بالرفض قوياً بالحلم . شارك فيها وعلى قلبه صورة أمه ، التى ودعت حياتها مريضةً ، وتركت جُرحاً غائراً فى روحه لم يبرأ منه ، خاصة أنه لم يودعها فى لحظات إحتضارها الأخيرة ، وغادرت إلى الغياب دون أن يُمسد عينيها بمحبته

ومنهم  قناديل البحر  التى فاجتنى ، ودخلت بنورها إلى روحى ، وسكنت ولم تغادر ، حاولت أن أمسك  بضوئها ولم أستطع ، أتونى موجة بعد موجة وشخصاً بعد شخص .. كذلك عرفت من الفنانين من عاشوا حياتهم  أسرى  للظل ، لا يرنون إلى الضوء ، ولم تسع روحهم يوماً إلى مباهج الشهرة وفتنتها ، عاشوا أسرى فنهم مثلهم مثل نباتات الظل التى تخلق عالمها وحدها وعلى مهل بعيداً عن نور الشمس ، وبعيداً عن غوايات  الضوء ونشوته .. فنانو الظل يحبون الفن ويتلظون بإغوائه لكنهم يتعاملون معه كصيغة حياة يومية ، لا يعرفون خارجها حياة ، يبدعون فنهم دون رغبة فى الخلود ، ودون رغبة فى البقاء ؛ لأن فنونهم ترتبط بالعابر والمنسى والمتغير ، فنونهم تخرج من الناس وتختفى فيهم ، ولا يتبقى منها سوى أثرها العابر فى الزمن ..  وكما للغياب وجوه وأماكن ومعانى وظلال ، له أيضاً أصداء وأصوات وألحان ، تطفو على ماء الذاكرة مثلما تطفو الأحلام على ماء الروح  ، تطفو فيتجلى المعنى بموسيقى الأوتار والأنغام ، وبذوبان المحبين عشقاً فى تلاوة تراتيل محبتهم للحياة ، ورتّل أمامى فنانو آلة ” السمسمية ” تلاوتهم  للحياة على أوتارها الخمسة المعبقة بسحر الأيام .. و للزمن رائحته ومفرداته التى تنفذ إليك مبللةً بتفاصيل الأيام والأحداث ، وتدخل إلى روحك سواء حضرت أيام وهجها وانتشارها  أو جاءتك عبر محفّة الحكايات المتدفقة أو سحر المنسّيات المغوية ، ودائماً ما تكمن رائحة الزمن  فى مفرداته المنفلتة والمتناثرة تحت طبقات الغياب ، او كما جاءت فى الكتاب فى رائحة شاى التموين أو شاى المودة ، وفى سحر الأفيش السينمائى القديم ، وفى حكايات الموالد الشعبية المفعمة بالبهجة ، وحكايات ” كبائن الميناتل ” التى قضت عشر سنوات فى رحاب الشوارع وأروقة الحارات المصرية ، بين رواج وانتشار فى كل يد ، ونسيان وغياب وموت ، وملأت حياتنا فجأة ، واختفت دون أن يشعر بغيابها أحد ..

رائحة الغياب : كتاب صادر حديثا عن دار شرقيات المصرية بمنحة من ” آفاق ” الصندوق العربى للثقافة والفنون

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات