بشير عيَّاد في وداع أركان حرب الشعر أحمد فؤاد نجم : الله يجـــازيك يـا مـــــوت !!

02:24 مساءً الجمعة 13 ديسمبر 2013
بشير عياد

بشير عياد

شاعر ، وناقد ، وكاتب ساخر ، يغني أشعاره كبار المطربين، له عدة كتب في نقد الشعر، متخصص في " أمّ كلثوم وشعرائها وملحنيها " .

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

كان هذان البيتان يمثلان صرخة الختام في مسرحية “لولي” التي كتبها الراحل الكبير الشاعر أحمد فؤاد نجم ، وعُرضت على مسرح البالون قبل ثمانية عشر عامًا ، وكانا ـ بالنسبة لي ـ نقطة تحوّل في قراءتي لأعمال الشاعر الكبير الذي بهرنا وكهرب أعصابنا ونحن في سنّ المراهقة وعلى أعتاب المرحلة الثانوية عندما بدأنا نفهم أشعاره التي كنّا نكتبها في كرّاساتنا خلسةً باعتبارها أعمالا فكاهيّة ( ولم نكن ندرك أنها وقود الثورة، وأنها مكتوبة بماء النار )،وأذكر أن أوّل ما أضحكنا ـ ثمّ أبكانا فيما بعد ـ كان زجل ” الفول واللحمة “:

عن موضوع الفول واللحمة ..صرَّح مصدر قال مسؤول
إنّ الطبّ اتقدّم جدًّا …والدكتور محسن بيقول
إن الشعب المصري خصوصًا ..من مصلحتُه يقرقش فول
حيث الفول المصري عمومًا .. يجعل من البني آدم غول
تاكُل فخدة في ربع زكيبة ..  والدكتور محسن مسؤول
يدِّيك طاقة وقوّة عجيبة.. تسمن جدًّا تبقى مهول

**
ثم أضاف الدكتور محسن :إن اللحمة دي سمّ أكيد
بتزوّد أوجاع المعدة .. وتعوِّد على طولة الإيد
وتنيّم بني آدم  أكتر ..وتفرقع منّه المواعيد
واللي بياكلوا اللحمة عمومًا .. حيخشوا جهنّم تأبيد

**
يادكتور محسن يامزقلط ..  يامصدر يا غير مسؤول
حيث ان انتو عقول العالم … والعالم محتاج لعقول
مارأي جنابك وجنابهم … فيه واحد مجنون بيقول
احنا سيبونا نموت باللحمة ..وانتو تعيشوا وتاكلوا الفول
مارأيك ياكابتن محسن … مش بالذمة كلام معقول ؟؟

 كنّا نضحك بشدة ، خصوصًا من المقطع الأخير ، لكن عندما فهمنا بكينا بأثر رجعي ، وبدأت أعمال نجم تأخذ مسارًا آخر في ضمائرنا وخيالنا ، ولسوء حظّنا ـ نحن أبناء الريف والمدن الصغيرة في محافظة البحيرة ـ أننا لم نستمع إلى هذه الأعمال مغنّاة،كنّا نتناقلها بالألسنة ثم ندوّنها على طريقة العصر الجاهلي والعصور الشعريّة الأولى ، ولما بلغنا المرحلة الجامعية أواخر السبعينيات ، كان نجم في قمة توهّجه بعد الإخفاقات الكثيرة التي رآها في الأداء الساداتي قُبيلَ الحرب أو مع انتفاضة الخبز ( 1977) وانتهاءً بمبادرة السلام ، أخذَنا الفاجومي في عباءته وضرَبنا بأعاصيره الساخنة ، وبدأنا الحفظ والترديد ، وعرفنا معنى الألم العام وعمق الإحساس بالآخرين ، فما بالنا إذا كان هؤلاء الآخرون هم الفقراء والكادحون والمطحونون الذين يحملون الوطن على أكتافهم وفي قلوبهم وضمائرهم ، ولا ينالون سوى القهر والحرمان !

جاء نجم ليكون المتحدّث الرسمي باسم أنينهم وأحلامهم المكسورة ، وعلى جناح صوت رفيقه في الوطنية والعذاب الشيخ إمام،طارت الكلمات الملتهبة لتجتاحنا وتعلّمنا الوطنية الصادقة المختلفة عن الوطنية الزائفة التي يسكبها الإعلام الكاذب في ضمائر المواطنين ، ولم ترهبهما سياط الحاكم ،ولم يبخلا بشبابهما الذي نزفاه وتبعثرَ منهما في ظلماتِ السجون والمعتقلات ، وفي الزنازين المختلفة حولا الظلام إلى قصص حبّ مضيئة تتغنّى ببهية وجمالها وشبابها الذي لا يشيب ، وعلى الجدران السوداء خطّا تاريخًا ونهرًا يحملُ أمجاد الماضي ويصبّها في شرايين المستقبل ، ابتلعا جرعات الألم بالجملة والقطّاعي ، وحوّلا الأنين إلى أنغام عذبة تشبه المضاد الحيوي الذي يحاصر ميكروبات اليأس والإحباط وخيبة الأمل ، أصبح السجن واحة مشرقة ، وتحوّل المساجين إلى أطيار مغرّدة تنتظرُ طعامها كلّ صباح من أشعار نجم وصوت إمام لتتعلم منهما الحب والوطنية والغناء والقفز على أسوار اليأس والانتصار على الهزيمة وهزيمتها !!

     ولأنّ أعمال أبي النجوم كانت ضد عبد الناصر ومن بعده السادات ، فقد كان من الصعبِ أن نستمع إليها عبر الإذاعة المعنية بالأعمال المهادنة أو المنافقة على طول الخط ، لدرجة أنهم ـ في الإذاعة ـ أخذوا نجيب نجم بذنب أحمد نجم ، فقد كتب الأول أغنية لشادية ولحنها الموسيقار إبراهيم رأفت ، واعترض مراقبو الإذاعة لأن “نجم ممنوع “، قالت لهم شادية : الممنوع أحمد نجم وليس نجيب نجم ، قالوا لها : انتهى الكلام ، تدخلت أمّ كُلثوم بكلّ ما لها من نفوذ ، قالوا لها : انتهى الكلام ، ولأن أمّ كُلثوم كانت تحبّ شادية وتدعمها ، معنويًّا ، فقد طلبت من الشاعر عبد الوهّاب محمد أن ينقذ الموقف بسرعة ، فكتب أغنية على اللحن ، ولم تستطع شادية أن تحفظها لضيق الوقت فقد كان الحفلُ بعد أقلّ من 48 ساعة ، وغنت شادية  ـ لأول مرّة ـ من ورقة ، وإلى الآن تذاع بهذا الشكل وهيَ أغنية “أنا وقلبي “، التي تعدّ من بدائع عبد الوهاب محمد وإبراهيم رأفت وشادية !!

 الغريب ، والذي يشبه اللغز أو علامة الاستفهام الضخمة ،  أن إذاعة “صوت العرب ” قد خصصت برنامجا يوميًّا لنجم والشيخ إمام بعنوان “مع ألحان الشيخ إمام “، من إعداد وتقديم الراحل الكبير رجاء النقّاش ليذاع في شهر رمضان المبارك (نوفمبر وديسمبر  1968)، في عزّ غضب السلطات الناصريّة عليهما ( الستينيات ، وما أدراك ما الزفتينيّات ) ، ولم نكن نعرف شيئًا عن ذلك البرنامج لولا أن فاجأنا بهِ نابغة الإذاعة إبراهيم حفني في برنامجه البديع ” منتهى الطرب “،  كان الناقد الكبير  يستضيفهما في كلّ حلقة ويقدم لهما عملين أو ثلاثة ، كما اكتشفنا أنهما قدما لليلى نظمي عملين في بداية مشوارها ، ومن أبدع ما في الحلقة الأولى منه ألقى نجم قصيدته الفريدة “واه يا عبد الودود “، ولم يكن الشيخ إمام قد لحّنها بعد ، وهي من أهم أغنيات حرب الاستنزاف التي لو أخذت حقّها في الإذاعة لاكتسحت الكثير من غبار الكذب والتدليس الذي مارسه ماكييرات تزيين الهزيمة من الشعراء والملحنين والمطربين الذين سيقوا بكرابيج التهديد ونظرات الأعين الحُمر !

 في عام 1992م زرت أركان حرب الشعر الثوري أحمد فؤاد نجم في منزله بـ “خوش قدم” ( حوش آدم ) ، اصطحبني الفنان محمد عمر ـ رسّام الكاريكاتير ـ وكانت صدمتي قاسية عندما دخلنا غرفة الشاعر الفحل ، وفي عام 2000 بدأت زياراتي له بمنزله بالمقطم ، وكانت صدمتي أفظع ، وفي كلّ لقاء أو مكالمة كان حزني يكبر ، ألهذا الحدّ تأكلين يا مصرُ أبناءك الأوفياء ؟ بينما الكذابون وماسحو أحذية السلاطين يرفلون في العز والجوائز ؟

 كان نجم يحمل قلب طفل وروح ملاك وشجاعة أسد هصور ، لم يتقن الانحناء ولا لحس الأعتاب ، فلم تدخل يده جائزة من جوائز الدولة التي كادوا يوزّعونها على بطاقات التموين ، وهاهو يرحل قبل أن يفرح بجائزة الأمير كلاوس التي كان موعده معها بعد 48 ساعة من الآن !! حكمتك يا ربّ!

 رحل نجم بعد أن صنع الثورة وشارك فيها ، ورأى مصر العظيمة التي حَلُمَ بها تولد من جديد ، رحل بعد أن كتب في كلّ أغراض الشعر ، ولكن الرفض والثورة ظلَّا رأس هرمه ، وفي سرادق عزائه رأيته يستقبلُ المعزّين فيه تسبقه ضحكته الطفولية ويده الحانية ، وكان أكثر حضورًا من كثيرين من الذين يمشون بيننا،رحل الشاعر البندقية وترك رصاصاته تخترق حواجز الأزمنة وتؤسس للثورات المقبلة ، وبالرغم من أنه وصل إلى الرابعة والثمانين ، إلا أنني أغمض العينين وأفتحهما على أنين صوت محمد الحلو وهو يصدح بكلماته في مشهد الختام بمسرحية “لولي ” :   

بيحزّ ف حَلقي الصوتْ

مِن بعدِك اغنّي لمين ؟؟

الله يجازيك يا موت

يا عريس الحلوين !!

 (بورتريه ، ص9، العدد 96مـــــن فيتـــــو، الثلاثاء 10 ديسمبر 2013م)

One Response to بشير عيَّاد في وداع أركان حرب الشعر أحمد فؤاد نجم : الله يجـــازيك يـا مـــــوت !!

  1. بشير عياد

    basheer ayyad رد

    13 ديسمبر, 2013 at 5:17 م

    مذهوووووووووول
    من جمالكم

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات