أيام كورية

04:04 مساءً الثلاثاء 6 نوفمبر 2012
محمد سيف الرحبي

محمد سيف الرحبي

كاتب وصحفي من سلطنة عُمان، يكتب القصة والرواية، له مقال يومي في جريدة الشبيبة العمانية بعنوان (تشاؤل*، مسئول شئون دول مجلس التعاون في (آسيا إن) العربية

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

عدت من كوريا الجنوبية، وبدا لي الانقطاع عن الكتابة طوال الفترة الماضية مربكا بالنسبة لي، فأن تعود للوحة المفاتيح بعد انقطاع امتد تسعة أيام فإنك تصاب بفقدان الشهية للكتابة، حيث تضعف اللياقة، لأن الكتابة مثل الرياضة، تحتاج إلى مران يومي لتكون رياضة يومية تعطي ممارسها متعة الجري على صفحات الورق بلياقة يحسدها عليها آخرون.
أما الكتابة عن الرحلة الكورية السريعة فتضيف عبئا آخر..
كمن رأى حلما في نومه فاستيقظ منه سريعا، ولم يستطع القبض على جزئيات منه ليتحدث عن كامل الحلم.
سافرت إلى كوريا الجنوبية، وعصر اليوم التالي (بتوقيتهم المتباعد عنا خمس ساعات) وصلتها، وقبل أن يرتد إلى الإجازة طرفها عدت، غبت خمس ليال نمت اثنتان منها في الطائرة (بين مطار وطائرة) وثلاث فيها موزعة على سيئول ومدينة أخرى تطل على المحيط الهادي (الباسفيك) كلما قالوا اسمها نفرته الذاكرة، كما لم تستوعب بقية أسماء المستضيفين حيث عدت ولم أتذكر اسم أحد منهم، وجوه متشابهة بأسماء أكثر تشابها (كما تبدو لي).. كأنني استرجعت ذاكرتي، مرافقنا الكوري اسمه: لي.
استرجعت بالرحلة (الكورية) زمن الرحلات الصحفية (أيام عملي في الصحافة) والمجموعة التي تلتقي في المطار أو في فندق الإقامة لتتعرف على بعضها البعض، هذا جاء من المشرق وآخر قدم من المغرب، وتكتمل الصورة بأسماء نشاركها المهمة ساعات طوال من اليوم، حتى إذا عدنا لم نتذكر الكثير من الأسماء، وقد غابت، كل في فلك يسبحون، لعلنا نلتقي في سفر آخر.. ذات عمر.
التقينا ضمن مشروع (آسيا إن) الذي كوّنته مجموعة من المهتمين بالشأن الصحفي ليكون وكالة أنباء، تعرض الآن موادها الصحفية بالصينية والكورية والإنجليزية، وجاء الصحفيون العرب ضمن مبادرة لتكون لغتها الرابعة هي لغة الضاد، نافذة إعلامية تتوخى المصداقية لتكون رسالة سلام تتحدث عمّا يحدث في بلدان عربية من أنشطة تغيّر الصورة التي لا تصل منها إليهم سوى اخبار الحروب والمجازر، العرب الذين يذبحون بعضهم بعضا..
وكان اختياري من السلطنة للمشاركة في هذا المشروع الذي لا يقدم للصحفي شيئا من المال، لأن رسالته هي تقديم شيء عن بلده، ومن أراد تناول هذا الخبر من أي صحيفة في العالم فلها الحق (إذا كانت ضمن مشروع اتفاقية التفاهم الموقعة بينها وبين المؤسسة القائمة على المشروع).. لكن قراءة الموقع الالكتروني متاحة، بأربع لغات، وستترجم مقالات وأخبار من اللغة العربية إلى اللغات الثلاث الأخرى، لتحقق الهدف المبتغى، وضع البلدان العربية في مرآة القاريء الآسيوي، الاتجاه شرقا بعد أن اتجهنا غربا كثيرا ولم يلتفت إلينا الغربي إلا ضمن سياقات مصالحه (وحده).
تحمست لمشروع النسخة العربية من وكالة أنباء (آسيا أن) ضمن ثلاث لغات أخرى هي الصينية والكورية والإنجليزية، وتحمست أكثر لزيارة كوريا الجنوبية لأضعها ضمن أجندتي عن 21 دولة في العالم زرتها حتى الآن..
وصلنا كوريا الجنوبية قبل أن نصلها، دخلت بيوتنا، وسائر حياتنا، عبر صناعاتها، هذه المنبعثة من رماد حروب ودمار، العاملة بصمت يستقبلك منذ أن تصل مطارها الكبير في مدينة إنشون، كأنه لا أحد في المطار غيرك، هدوء في الشخصية، ولأنها شخصيات ممتلئة فلا تحدث الصوت الذي تحدثه الشخصيات الفارغة التي تعمل ليل نهار.. لكن لتنظّر (وتفلسف) كل شيء، وهي لا تفعل أي شيء!
وجدتها بلادا لم تتقدم من فراغ، لكنها تمتلك الأدوات التي تحرّك المجموع لينطلق في منظومة واحدة تعمل مع مفردة العمل كهاجس وطني لا يلتفت للصغائر، أتعجب ممن التقيتهم يعملون معنا معظم ساعات اليوم، فقط يردّون أنهم اتخذوا العمل فكرة للمتعة وممارسة حياة أفضل تمنحهم السعادة في وجودهم الحقيقي على سطح الأرض، لذلك لا يشعرون بالإرهاق لأن العمل لديهم متعة وليس فكرة (دوام) من أجل الآخر، لا من أجل نفوسنا، واتخاذ شعار أننا مخلوقون لعمارة الأرض لا النوم عليها.
تقدموا لأنهم لم يسمحوا للفساد أن يفسد عليهم إخلاصهم في العمل، الشعور بالنقاء لأنهم يعملون، يسعون في الأرض لتحقيق الأفضل، تقدموا لأن أحدهم انطلق من واجبه الإنساني المحض دون الإلتفات إلى تفاصيل خبيثة تثير المشاعر السلبية داخل النفس وتحد من النقاء والصفاء الذي يعود إليها أولا وأخيرا.
احترامهم للنجاح كبير، يفرحون به، يتحدثون بسعادة عمّا حققته شركاتهم الكبرى، ويتحدثون عن كوريا تولد من جديد على أيدي تعمل على تغيير حقيقي أساسه العلم والمعرفة، لا الشعارات وركوب أمواج التغيير دون تقديم ضوء شمعة (تنوير) لمجتمعاتهم.
جلسنا إلى راهبهم فوجدنا الحكمة، أخرج من جيبه أوراقا نقدية ووزعها علينا جميعا (وكنا أكثر من عشرة)، نحو مائة دولار لكل واحد، ليقول أنه يشعر بالسعادة لأنه أسعدنا، ونحن سنسعد آخرين عندما ننفقها.
وزرنا معالم التكنولوجيا في بلادهم، بينها شركة سامسونج العملاقة، فوجدناهم يتحدثون عن الغد المضيء لا الماضي الذي يحيل الشعوب إلى أمم متحفية مكانها طاولات العرض في المتاحف، هم يعملون بفكرتي العلم والعمل، بعيدا عن الثرثرة، واحتساب الإجازات حيث تمر تسعة أيام بدون عمل سوى تقطيع اللحم والمشاكيك وأكل الشواء!
لم نسمع همسة عن تذمرهم من طول يوم العمل، كأنهم أمة خلقت للعمل والتفكير، يحملون هاجسهم الوطني أن يكونوا أفضل، ليس بالشعارات الوطنية وأغنيات التمجيد وقصائد التفاخر، إنما بالعقل القادر على اختراع المذهل، يحترمون بعضهم البعض حدّ الانحناء.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات