مكتبة على أوراق التوت عمرها ألف سنة!

01:13 مساءً الإثنين 23 ديسمبر 2013
  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

الحكمة القديمة محفوظة في لفافات من ورق التوت من عهد مملكة كوريو

مجلة كوريانا الفصلية، كيم هاك سون، صحفي   من كوريا

لم أستطع أن أصدق أن هذه اللفافة، التي تبدو كأنها كتبت منذ عهد قريب على ورق كوري جديد كان عمرها حقا ألف سنة. غمرني العجب منذ اللحظة التي أرسلت فيها عيني على ما يقارب 100 كتاب من مطبوعات تريبيتاكا كوريانا في منصة عرض في متحف هوريم، بالقرب من جامعة سيول الوطنية.

تفطر قلبي عندما أدركت أن تلك المطبوعات كان عمرها ألف سنة من تريبيتاكا كوريانا، وهي خلاصات وافية من الكتب المقدسة البوذية وتعاليم “ساكياموني بوذا وكذلك النصوص ذات العلاقة. معظم الكتابات محفوظة بشكل تام، دون أي ذبول في الألوان أو تشويش. كانت هناك كتابة غير سليمة بشكل عرضي ولكن ذلك كان بسبب أن جهود الحفاظ عليها تطلبت حذرا هائلا. الورق والحبر ما أثار فضولي هو السر فى كيفية صمود هذه الكتابات لألف سنة باقيةً على هذه الحالة من الكمال والدقة.

السيد “بارك جون-يونغ، قيم متحف هوريم، الذي يضم أكبر مجموعة من مطبوعات تريبيتاكا كوريانا الأصلية في كوريا، قدم لنا إجابة عن هذا اللغز: السر هو في ورق كوريو الذي كان بلا شك أفضل وأنقى ورق في ذلك الزمن. كان ورق كوريو مصنوعا من ألياف ورق التوت، التي كانت تدق أكثر من مائة مرة. ثم تغمر في وعاء ضخم فيه سائل ومن ثم كان إطار ذو مسام يغطس ويخرج من هذا السائل جاعلا الألياف تتراكم طبقة بعد طبقة على سطحه، مما يعطي قوة للورق. ثم كانت الأوراق توضع على بلوكات خشبية وتدق تماما لتعطي ورقا ناعما صقيلا بديع المنظر. كانت الألياف تلتصق بإحكام مع بعضها البعض بحيث بدت مثل ورقة مكسوة بتشطيب خاص.

ورق كوريو متعادل الحمضية، لذلك يمكن أن يصمد لعدة قرون من دون أكسدة

أما السر وراء قوة واحتمال هذا الورق ولونه الأصلي وبقاء السطح واللمعان سليما من غير ما سوء يمسه فيكمن في مواده الخاصة وطرق إنتاجه. إضافة إلى ذلك، كان ورق كوريو متعادل الحمضية، لذلك يمكن أن يصمد لعدة قرون من دون أكسدة، حتى لو تعرض للهواء والضوء. إن تفوق الورق الكوري التقليدي كان معروفا بشكل كبير منذ زمن، كما يشير القول المأثور: “يدوم الورق ألف سنة، يدوم الحرير خمسمائة سنة”. كان ورق كوريو معروفا بشكل خاص بأنه الأنقى نوعية حتى من قبل الصينيين الذين يعتزون بورقهم. هناك مرجع صيني يقول: “ورق التوت من مملكة كوريو جميل ورائع اللون وهو يسمى “الورق الأبيض المخفوق”. يحتوي ورق كوريو على خيوط من شرانق دودة القز (الحرير) لذا فهو صقيل وقوي مثل الحرير، وعند استخدامه للكتابة عليه، فهو يستوعب الحبر بشكل جيد لذا فهو مثمن عاليا.” وطبقا للأسطورة، فإن “سو شي “(1037-1101)، واحدا من الأساتذة العشرة في عهد مملكتي “تانغ وسونغ” ومن أوائل شعراء عائلة سونغ كان قد عبر عن رغبته في امتلاك ورق كوريو وسيلادون كوريو. حفظت البروتوكولات الملكية لمملكة جوسون، “ويغوي”، التي تم تخزينها بشكل جيد في “كيوجانغاك” الخارجي من جزيرة كانغهوا، حفظت بشكل مدهش من حيث الحالة الرائعة للورق ووضوح المحتوى.

كانت النسخة التي تعد للملك تكتب على الورق الأفضل نوعية والأكثر جودة متوفرة، ولكن الخبراء مقتنعون بأن ورق مملكة كوريو كان يتفوق على ورق مملكة جوسون. عرفت الصفات الفريدة للورق المستخدم لعمل كتابات تريبيتاكا كوريانا على ضوء فريق بحث الأستاذ “نام كون هي” من قسم المعلومات المكتبية والعلوم في جامعة كينغبوك الوطنية. نفذ هذا الأستاذ الجامعي بالتعاون مع معهد أبحاث تريبيتاكا كوريانا (الذي يديره المبجل “جونغنيم”) مشروعا بحثيا بعنوان “تحليل الورق والتجليد في تريبيتاكا كوريانا الأصلية” في النصف الثاني من سنة 2010. وقد كشف المشروع الكثير عن أسرار الورق، واللفافات، وورق الدعم، والتجليد، ومواد التلصيق، وغلافات كل كتابة لتريبيتاكا كوريانا الأصلية الموجودة. وكانت النتائج قد بنيت على تحاليل مفصلة لحجم ولون وسماكة الورق، وكذلك شكل الإطارات المستخدمة لصنع الورق ومدى دق الورق وكثافة الورق. من المقرر أن يتم نقل النتائج إلى موقع المعهد على الشبكة الإلكترونية في تشرين الثاني 2011. “إن الورق الكوري المصنوع من ورق التوت كان قادرا على البقاء بشكل تام وعلى الدوام لمدة 2000 عام، حاجزا عن نفسه تأثير أى عوامل خارجية أو أسباب التلف، لذا لم تعد هناك حاجة للكلام عن سر ديمومة هذا الورق لـ1.000 عام” هكذا كان يجيب الأستاذ نام. ولعل الحبر الذي أعد بشكل خاص لا يقل أهمية عن الخصائص الفريدة للورق. كان الحبر يصنع من خلط نوع من الصمغ مع السخام الذى يتم الحصول عليه بحرق أغصان الصنوبر وعقدها التي تحتوي على نسبة عالية من الصمغ. الحبر المعد بهذه الطريقة يمكن أن يحافظ على سواد واضح، لمدة ألف سنة عند استخدامه للكتابة أو في الخط. مواد لاصقة مخمرة بشكل طبيعي إن قدرة هذه اللفائف على الحفاظ على شكلها الأصلي لمدة1.000 سنة مرتبطة أيضا بالمواد اللاصقة المستخدمة. الورق المساند، الذي كان يستخدم لربط الصفحة من اللفائف مع الصفحة التالية، كان يثبت بصمغ مصنوع من القمح الطبيعي، الذي كان يخزن لفترة 3 إلى 10 سنوات ومن ثم يخلط مع أعشاب طبية. بفضل هذه العملية الدقيقة، بقيت الأوراق ملتصقة مع ورقة الدعم واللفائف محافظةً على شكلها الأصلي طيلة هذه القرون. هناك فقط تشابك لمسافة ملمترين أو ثلاثة بين الصفحات، لذا فهي حقا مدهشة في صمودها بهذه القوة والثبات في مكانها.

كتب تريبيتاكا كوريانا الأصلية بمثابة الكنز في كوريا

يوضح الورق المستخدم لعمل كتابات تريبيتاكا كوريانا الأصلية فروقا كبيرة اعتمادا على الفترة التي كانت الكتابة تتم فيها. يقول الأستاذ نام إن المواد المطبوعة منها الموجودة في كوريا كتبت في معظمها على صفحات سميكة من الورق الأبيض، بينما تلك المحفوظة في معبد نانزين الياباني وأماكن أخرى كتبت على ورق رقيق يميل لونه إلى الصفرة. المجموعات المكتوبة يذكر قيم متحف هوريم السيد “بارك جون-يونغ” أن متحفه يحوي أوسع مجموعة من الكنز الوطني وكتب تريبيتاكا كوريانا الأصلية بمثابة الكنز في كوريا. من بين هذه، “أفاتامساكا سترا” (وهو الكنز الوطني رقم 266)، الكتاب الثاني عشر والخطاب حول الجسم الواعي (وهو الكنز الوطني رقم 267)، والكتاب الحادي عشر حول ملاحظات وتعليقات على التعاليم العليا (وهو الكنز الوطني رقم 268)، والكتاب السادس (وهو الكنز الوطني رقم 269)، فهي رائعة بشكل خاص. تخليدا للذكرى الألفية لقطع التريبيتاكا كوريانا الأصلية، عرض متحف هوريم معرضا خاصا بعنوان “1011-2011، ألف سنة من الانتظار: تريبيتاكا كوريانا الأصلية” في فرعها في “سينسا” بمنطقة “كانغنام-غو” (18 أيار إلى 31 آب)، وفرعها في “سيليم” بمنطقة “كوانآك-غو” (30 أيار حتى 31 تشرين الأول) في سيول، بحيث يمكن للناس أن يروا طباعة الإصدار الأول. وفي هذا المعرض تم تجميع الكتابات في فئات متعددة وعلى نطاق واسع، مثل الكنوز الوطنية، وبقايا أخرى فى مستوى الكنوز، وذلك بحسب التجليد وحالة الكتابة. في نفس الوقت، فإن متحف “سونغ آم” للكتب القديمة معروف جيدا بكتابات على الكتل الخشبية لتريبيتاكا كوريانا الأصلية من سجلات الأحداث الاستعمارية الشمالية المعنون بـ”يوزهي ميكانغوآن”، وهو الكتاب الوحيد من هذا النوع الذي ما زال موجودا. النص بذاته هو نوع من مختارات شعرية بوذية، تشتمل على ما يقارب 1000 قصيدة تمدح بوذا وتنقب في المعاني العميقة لتعاليمه. تصور الكتابات شخصيات تعلم مبادئ البوذية مقابل خلفية من مشهد أرضي طبيعي ملفوف بسحب واسعة. هذه الأعمال الاستثنائية من فترة كوريو المبكرة تصور لنا بتفصيل الظواهر الطوبوغرافية المتنوعة، مثل الجبال، والصخور، والسحب والأنهار المتدفقة، والأشجار بأشكالها المختلفة، والمباني والبشر. ويرجح أن تكون الكتابات قد تمت في أواخر القرن الحادي عشر، عندما تم حفر البلوكات الخشبية لتريبيتاكا كوريانا الأصلية. بسبب ندرة الرسومات المميزة من فترة كوريو المبكرة، تمثل هذه الكتابات أعمالا نفيسة من الفن التي توفر لنا نظرة في لوحات مناظر طبيعية ومجموعة من الحكم من عهد كوريو الأول.

عدد الكتب الموجود في كل من كوريا والخارج ما يقارب 2700 كتاب

يضم متحف “سونغ آم” للكتب القديمة أيضا مجموعة من الحكم تتميز بكتابات بقلم رفيع جدا مما يعزز قيمة مجموعتها. كان القلم الرفيع يصنع من مادة صلبة مثل العاج أو الخشب، ثم يحفر إلى درجة يمكن معها استعماله كأن يعلم على الورقة ليشير إلى ترتيبها الذي يجب أن تقرأ فيه الحكم الموجودة بها، أو تزود تفسيرا أو أحداثا لحكم وحوارات بوذا. يصعب رؤية الخط الدقيق بالعين المجردة، ولكن يمكن تمييزه إذا نظر إليه من زاوية أو بمعدات خاصة. يضم كل من متحف هوريم ومتحف “سونغ آم” للكتب القديمة ما يقارب 100 مخطوطة أصلية من تريبيتاكا كوريانا، هذه المخطوطات تمثل 83 بالمائة من كل الموجود منها في كوريا. الكتب الإضافية موجودة في جامعة كيميونغ وعددها (5)، و4 كتب في متحف كوريا الوطني، و4 كتب في متحف هوآم للفنون، و4 كتب في متحف كاتشون، و3 كتب في معبد كوين، و3 كتب في متحف تشونغجو للطباعة القديمة، و3 كتب في جامعة يونسي، وكتابان في متحف التاريخ في سيول، وكتابان في جامعة يونغنام، وكتابان في متحف الورق الآسيوي، وكتاب في كل من متحف كيونغي الإقليمي، ومتحف جامعة ميونغجي، ومتحف سامسونغ للنشر. أما النسخة الخاصة بالتهليل للتعاليم المقدسة (الكنز الوطني رقم 271) فى متحف كوريا الوطني فقد أهداها الراحل “سونغ سونغ-مون” مؤلف كتب الدراسات الإنجليزية الشعبية. عندما تم تخصيص هذا الكتاب ككنز وطني سنة 1992، غمرت الخبراء الدهشة، وأسموا العملية ” أقدم مخطوطة تريبيتاكا كوريانا تحتفظ بشكلها الأصلي.” يشك الأستاذ نام بأن هناك أناسا آخرين يمتلكون مخطوطات تريبيتاكا كوريانا أصلية، ولكنهم يفضلون أن يحتفظوا بها سرا. في أيامنا هذه يوجد ما يقارب 330 كتاب من مخطوطات تريبيتاكا كوريانا الأصلية في كوريا، ولكن العدد في اليابان حوالي 2400. معظم هذه الكتب موجودة في معبد نانزين ومتحف سوشيما للتاريخ الشعبي. وعلى ذلك، يكون عدد الكتب الموجود في كل من كوريا والخارج ما يقارب 2700 كتاب. طبقا لنتائج دراسة مسحية، ليس في كوريا سوى 154 كتابا (78 عنوانا) من مخطوطات تريبيتاكا كوريانا. هناك 66 كتابا (50 عنوانا) في معبد نانزين، وثمانية كتب بعنوان مفرد في متحف سوشيما للتاريخ الشعبي. من بين المخطوطات في كوريا هناك ما يقارب 70 من نفس مجموعات السوترا (حكم وحوارات بوذا) ونفس الكتب التي في اليابان. وهذا يشتمل على مجموعة حكم واحدة ذات ثلاث نسخ، تشتمل على الأقل على ثلاث طبعات، إما كاملة أو جزئية، بعد إكمال المجموعة الأصلية من الكتل الخشبية. يذكر الأستاذ نام أنه حتى في مطبوعات نفس الكتب، فهناك حوالي 20 اختلافا عن تلك التي وجدت بعد مقارنتها مع النسخ اليابانية والكورية. حتى بعد اكتمال الكتل الخشبية لتريبيتاكا كوريانا، فإن رعاة القانون البوذي واصلوا فى عمل مراجعات جزئية للنصوص أو ربما احتاجوا لاستبدال كتل خشبية بسبب مشاكل في التخزين. كتب اللفافات تم تغليف كتب تريبيتاكا كوريانا على شكل لفافات وذلك بربط عدد من أوراق كتل الخشبية معا. هذه هي أقدم طريقة لعمل الكتب، ولكن فعليا أول الكتب في كوريا كانت على أشكال اللفافات. صنعت أغلفة المخطوطات من ورق مصبوغ بلون أزرق غامق، على الرغم من أن بعضها ترك بدون تلوين.

استخدم حبر الذهب لكتابة اسم مجموعة السوترا على الغلاف الأزرق الغامق، بينما تم استخدام الحبر الأسود العادي للأغلفة العادية. يقول قيم المتحف “بارك جون يونغ” إن نمط خط الكتابة الذي كتبت بها تريبيتاكا كوريانا الأصلية هو من نوعية وجودة أعلى من الطبعة الثانية. تبدو تريبيتاكا كوريانا الأصلية مظهرةً “حكمة حية وصريحة” منذ آلاف السنين”. فجأة، استذكرت كلمات المعلم الوطني “ويتشون” من عهد كوريو “إن إيجاد تريبيتاكا كوريانا هو جمع لحكمة ألف سنة وإرسالها إلى ألف سنة أخرى إلى المستقبل”.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات