من أعلام محافظة الغربيّة ، وأحد أبرز أبناء الجامع الأزهر في النصف الأول من القرن التاسع عشر ، وأول أستاذ عربيّ يدخل روسيا ، الشيخ العالم محمد عيّاد الطنطاوي الذي بهر الروس وملك أفئدتهم من قبل أن يصل إلى أرضهم إذ سبقته سمعته إليهم على ألسنة تلاميذه وأقلامهم ، فلما وصل إلى هناك في التاسع والعشرين من يونيو 1840 م قوبل بحفاوة غير مسبوقة ، واستمرت الحفاوة به إلى اليوم ، فمقبرته بقرية فولكوفا ما تزال صامدة في مقاومة الزمن ، بالرغم من رحيله في السابع والعشرين من أكتوبر 1861م . اسمه بالكامل : محمد بن سعد بن سليمان عيّاد ، وكان يضيف إليها : المرحومي ( نسبة إلى محلة مرحوم ) الطنطاوي ( نسبة إلى طنطا ) الشافعي ( نسبة إلى المذهب الشافعي ) هذا ، من قبل أن ينتقل إلى القاهرة ليدرس ـ ثم يدرّس ـ بالجامع الأزهر .
وُلد شيخنا في قرية ” نجريد ” التابعة لمحلة مرحوم في العام 1225هـ الموافق 1810 م ، كان أبوه تاجرا للأقمشة والبن والصابون ، وكان يوزعها على التجار بنفسه في إقليم الغربية ، وكان يملك بيوتا في طنطا والصافية ونجريد بالإضافة إلى بيته الذي في محلة مرحوم ، وقت أن كانت محلة مرحوم أهم من طنطا التي لم تكن عاصمة للإقليم بعد ، وعندما بنى علي بك الكبير المسجد الأحمدي تكريما للولي السيد أحمد البدوي ، بدأت طنطا تخطف الأضواء إذ راجت التجارة حول المسجد خصوصا في مولده ، وأصبحت طنطا موطنا روحيا كذلك لدور المسجد كمركز للعلوم الإسلامية . في سن السادسة بدأ الطفل حفظ القرآن بالكتّاب بطنطا ، وقبل أن يكمل العاشرة كان قد أتم الحفظ مرتين ، كما حفظ عددا من المتون النحوية والفقهية ، وفي الثالثة عشرة انتقل إلى القاهرة ، وعلى الفور انضم إلى طلاب العلم بالجامع الأ زهر ، وفي مذكراته وصف تلك الأيام بـ ” أيام السعادة ” ، وكان من حسن حظه أن يكون معلمه الرئيسي علاّمة الأزهر في ذلك الحين الشيخ إبراهيم الباجوري الذي صار شيخا للأزهر فيما بعد ، بالإضافة إلى عدد كبير من شيوخ ذلك العصر ، وفي زمن قياسي لفت عيّاد الأنظار إليه ، وأصبح من أهم أصدقاء زميله رفاعة الطهطاوي الذي يكبره بعشرة أعوام ( وفيما بعد سيرحل الطهطاوي إلى باريس ، وعيّاد إلى روسيا ) .
توقّف الشيخ عيّاد رغم أنفه عن مواصلة الدراسة بالأزهر بسبب وفاة أبيه ليقوم بشؤون الأسرة ، فعاد إلى طنطا ليعمل بالتدريس ، وفي أوقات فراغه يتحوّل إلى دارس بالمسجد الأحمدي ، وقبل أن يكمل الثامنة عشرة أعطاه الشيخ القناوي إجازة تدريس كتب الحديث الستة بالإضافة إلى موطأ مالك . في العشرين من العمر أصبح الشيخ محمد عيّاد مدرّسًا بالأزهر ، وبسبب تفوّقه على بقية زملائه في اللغات الأوربية كانت حلقته أكبر حلقة في الجامع الأزهر ، وهذا ما جعل عددا كبيرا من أعلام الاستشراق في ذلك الوقت من تلاميذه ، وبسببهم ازدادت معرفته باللغات الفرنسية والألمانية ثم الروسية ، وكان من بين تلاميذه اثنان روسيان هما نقولا موخين ورودلف فرين ، وكان موخين في سن الشيخ عياد تقريبا ، بينما كان فرين يصغرهما بعامين ، وكانا ـ معا ـ السبب الأول لحب شيخنا لروسيا وترحيبه بالسفر إليها ، وقد استغرقت المكاتبات الرسمية الخاصة بسفر الشيخ إلى روسيا وقتا طويلا ، إلى أن دعاه محمد علي باشا وحثّه على دراسة اللغة الروسيّة وإتقانها ، ووعده بعطفه وعنايته به . ليغادر الشيخ القاهرة في يوم السبت الرابع والعشرين من المحرّم 1256هـ ، 16 مارس 1840م عبر النيل إلى الإسكندرية ليصل إليها مساء الجمعة 22 مارس ، وفي السادس والعشرين منه ركب باخرة نمساوية لأول مرة وأبحر إلى روسيا ، وبعد توقّفات كثيرة وصلت الباخرة إلى أودسّا في الخامس والعشرين من أبريل ، ثم إلى كييف في 25 مايو ، ليصل في نهاية المطاف إلى بطرسبورج في 29 يونيو ، بعد عناء شديد في سفر طويل لمدة ثلاثة أشهر ونصف الشهر قضى منها أكثر من شهرين في الحجر الصحي.
وكان الاستقبال حافلا ، والترحيب غير مسبوق ، فكتبت صحيفة ” فدومستي بطرسبرج ” : ” أنت تسألني : مَن هذا الرجل الجميل في لباس شرقيّ ، ووعمامة بيضاء ، وله لحية سوداء كجناح الغراب ، وعينان تشعان بإشعاع غريب ، على وجهه سمة الذكاء ، وقد لفحت الشمس بشرته ، وليست بالطبع شمس بلادنا الشمالية الباردة ، لقد رأيته مرتين يسير بخطوات وئيدة على بلاط شارع نفسكي في جهته المضاءة بالشمس . ولقد لفت هذا الرجل نظرك كما لفت أنظار زائري هذا الشارع في أيام الجو الطيب وتريد أن تعرف من هو ؟ .. هو ضيف جديد من ضفة النيل ، واسمه الكامل الشيخ محمد بن سعد بن سليمان عياد الطنطاوي .وطنطاوي بدون أداة التعريف أل هي نسبة إلى مدينة طنطا ، وطنه في مصر …”
استمر الشيخ في أداء رسالته ، اتسعت شهرته ، وتزايد عدد تلاميذه ، وأصبح نارا على علم في ربوع روسيا ، غير أنه لم يتمكن من زياة مصر سوى مرة واحدة ربما كانت في العام 1844م ، كما زار تركيا وكتب عنها ، وكان تنوع معارفه وعلومه مع بساطته وحلمه سببا في حبّ نلاميذه وزملائه له ، وأصبح له تلاميذ متعددون من جميع الدول المجاورة ، وفي العام 1950 أنجب ابنه الوحيد أحمد ، وقبل وفاة الشيخ توفيت زوجته وكان المرض قد ضرب جسده ، فطلب إلحاق ابنه بإحدى المدارس الداخلية ، ثم رحل الشيخ في 27 أكتوبر 1861م ، فتدخل عدد من الأساتذة بجامعة بطرسبرج من أجل أن يُصرف معاش الشيخ لابنه ، ثم توفّي أحمد في الخامسة والثلاثين تاركا طفلة صغيرة ، وتم إلحاقها بدار أيتام مسيحية ، و… غدت مسيحية !!
ترك الشيخ محمد عيّاد واحدا وأربعين مصنّفا أهمها “وصف روسيا “، ولم يسعَ أحد من المسؤولين لاستردادها ، وكانت صدمتنا مروّعة ، آل عيّاد ، بعد صدور الطبعة الثانية من كتاب ” حياة الشيخ محمد عياد الطنطاوي ” عن سلسلة ذاكرة الكتابة بهيئة قصور الثقافة عندما قرأنا هذا الرقم ، وقد طلبت من الدكتور شاكر عبد الحميد ـ عندما كان أمينا عاما للمجلس الأعلى للثقافة ـ أن يعمل على استعادة نسخة من هذه الكتب وسنساهم نحن ـ ” مؤسسة آل عيّاد الخيرية ، التي أشرف بكوني عضو مجلس الأمناء وأمين الصندوق بها ” ـ في إصدار هذه الكتب ، غير أنه انتقل وزيرا للثقافة ثم ضحّى بنفسه لكي تعيش الحكومة ! كما سطا المنافقون على المدرسة الابتدائية التي كانت تحمل اسم شيخنا بمحلة مرحوم وجعلوها باسم الرئيس المخلوع ، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه أن الانترنت يرد الاعتبار للشيخ في آلاف المواقع ، غير أننا لن نفقد الأمل .
***
عن جريدة فيتو القاهريّة ، العدد رقم 57 ، الثلاثاء 26 فبراير 2013م
مؤسس جمعية الصحفيين الآسيويين، ناشر (آسيا إن)، كوريا الجنوبية
الرئيس الشرفي لجمعية الصحفيين الآسيويين، صحفي مخضرم من سنغافورة
روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.
آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov
كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.
بشير عـيـَّـاد ، شخصيًّا
30 يناير, 2014 at 3:24 ص
ألف ألف شكر