مولانا جلال الدين الرومي في الأهرام بصحبة آمال عويضة

09:09 مساءً الإثنين 10 فبراير 2014
  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

بشرتنا الكاتبة آمال عويضة، وبهرتتا، بمضمون صفحتها الجديدة في جريدة الأهرام، بما أثلج الصدر بلا حدود. فقد خصت الصفحة التي حملت عنوان (ثقافة عربية وعالمية) بالغوص في عالم مولانا محمد جلال الدين (البلخي)، نسبة إلى (بَلْخ) مسقط رأسه، حيث ولد لأب كان عالم دين، فأورث ابنه المهنة والعشق، وكانت الرحلة التي بدأت بقصد الحج، وانتهت بالمعراج إلى فضاءات، أفاضت آمال عويضة في الحديث عنها:

“في القرن الثالث عشر الميلادي، عاش مولانا “جلال الدين الرومي” ولكنه ظل بعد رحيله بستاناً مثمراً في زيادة، ومثيراً بالقدر نفسه للجدل، فيٌمنع قبل أسبوعين من الدخول في الكويت (!!)، وتحقق رواية عن حياته أعلى المبيعات شرقاً وغرباً في 2013، ويختارها مبدعون ومثقفون عرب على قمة أفضل الروايات، بينما بشهادة متابعين تحقق الرواية وكتبه المترجمة أعلى المبيعات في معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي أغلق أبوابه قبل أيام.
و”الرومي” الذي تحول من مجرد عالم ديني تقليدي شهير إلى تلميذ لمعلمه الدرويش ورفيقه الروحي “شمس التبريزي”، هو من أهم المتصوفة الذي تركوا خلفهم تراثاً فكرياً وموسيقياً وأدبياً تبدى في نصوصه، وعلى رأسها أجزاء “المثنوي” الستة، التي تمت ترجمتها إلى عشرات اللغات فخاطبت قلوب الملايين من القاهرة إلى طنجة، ومن جاكرتا إلى لاهور، ومن الهند وأفغانستان إلى إيران وتركيا ومن ألمانيا وفرنسا إلى الأمريكتين، وهو ما كان سبباً في اختيار اليونسكو لشخصه قبل أعوام رمزا للمحبة والتسامح محتفلة بمرور 8 قرون على ميلاده، وذلك بمشاركة تركيا وإيران وأفغانستان ومصر. وها هو يعود للصدارة مرتبطاً هذه المرة باسم رواية “قواعد العشق الأربعون” لمؤلفتها الروائية التركية “إليف شافاق” المولودة في 1971، والتي صدرت بالإنجليزية في الولايات المتحدة في فبراير 2010، ثم في المملكة المتحدة في يونيو 2010، وبيع منها في الأسابيع الأولى نحو نصف مليون نسخة لتحتل القمة في إيطاليا وفرنسا وبلغاريا وتركيا، كما تمت ترجمتها إلى عشرات اللغات وصولاً إلى العربية التي صدرت في ترجمة للسوري “خالد الجبيلي” في 2012.
لقد نجحت رواية “شافاق” في تقديم “الرومي” في صورة روائية لأجيال شابة من القراء، وكأن “الرومي” جوهرة تحتاج لمن يعرضها حتى يهتدي إليها العاشقون، ليصبح الرومي بطلاً للنص فارضاً شهرته واسمه عليه لتنزوي خلفه الرواية وشخصياتها المتخيلة. وكما قال لي أحد باعة الكتب إن زبائنه يسألونه عن رواية”الرومي” وليس “شافاق”، مضيفاً أنها الترجمة الأكثر تعرضاً للقرصنة هذا العام بإعادة النشر في مصر والعالم العربي دون حقوق تعود إلى ناشر أو مؤلف، هذاً فضلاً عن مئات الآلاف من النسخ الإلكترونية التي ووجدت طريقها إلى أجهزة كمبيوتر قارئيها، وأنا منهم. أعترف أن تلك الرواية طاردتني لمدة عام في تكراراها على ألسنة المحيطين، قبل أن أحصل عليها لأحتفظ بها على حاسبي الشخصي لعدة أسابيع قبل أن أبدأ في قراءتها عشية تفجير مبنى المديرية في المنصورة للتغلب على مرارات العنف والدم، وكلما قرأت جزءاً بهدف إنهائه والتوقف، عدت بعد برهة لاستحلاب المزيد من حلاوة المكتوب . أذكر أنني لم أفعل شيئاً في اليوم التالي سوى القراءة بلا توقف، منهية إياها مع آذان المغرب، وكلي سكينة، هي إذن دعوة وتحريض على قراءة الرواية بلا شك، ولكنها أيضاً محاولة لإلقاء نظرة على ثمار بساتين مولانا “جلال الدين الرومي”، الذي ترك آثار محبته على ملايين من مريدين يحيون على طريقته التي تقوم على دوام الاشتغال بالذكر وحسن السلـوك بالمحبة، ومعهم آلاف من المبدعين والباحثين الذين عرفوا طريقهم إليه فأنجزوا أدباً وشعراً وفنوناً وموسيقى ورقصاً يختلط فيها العاشق المسكون بالشوق، والمدعي المظلم بالنفاق، وهو ما يستلزم وعياً وفرزاً وألماً ينضج بالولوج إلى باب عنوانه “حضرت مولانا”، القائل: “انظر إلى وجه كلّ إنسان، وكن منتبهاً، فلعلّك تغدو من التأمل عارفاً بالوجوه. ولما كان كثير من الأبالسة يظهرون في صورة الإنسان، فليس يليق بالمرء أن يمدّ يده لكلّ يد. ذلك لأن الصياد يصطنع الصفير، لكي يوقع الطائر في حبائله. فيسمع الطائر صوت أبناء جنسه. فيجيء من الهواء فيجد الشبكة والسكين. إن الرجل اللئيم يسرق لغة الدراويش ليتلو على البسطاء أسطورة منها يخدعهم بها”.

الصفحة التي أبدع في تصميمها المخرج سامح الكاشف، فاتحًا أفقا جديدا يضفي الجمال على رصانة الأهرام ويكشف عن الروح الجديدة بالجريدة

ولم تنس المحررة أن تبين التناقض الذي يعيشه البلخي / الرومي اليوم، مثلما عاشه بالأمس، فقد كان داعية سلام في زمن الحرب، واليوم، في عصر يُستلهم فيه الرومي آناء الكتابة والشعر، تحدث الفانتازيا الأكثر تناقضا، كما تقول عويضة:

“كانت تلك فانتازيا سوداء عندما خرج النائب الكويتى “محمد الجبري” فى مؤتمر صحفى قبل أسبوعين، كاشفاً عن مخاطبته وزارات الإعلام والأوقاف والداخلية لمنع إقامة أمسية مخصصة للنساء فقط –لعدم الاختلاط- عن «مولانا الرومى» ،
و«باقى الخزعبلات» و«الأفكار المنحرفة»، بحسب قوله، التى لا يرضاها المجتمع الكويتي، وهو ما دفع تجمع التحالف الوطنى الديموقراطى دفاعاً عن حرية الرأى لعقد الندوة بعد أيام قليلة لمناقشة الأمر، الذى لا يكشف إلا عن مخاوف لا أساس لها، فضلاً عن أن البعض لم يستوعب بعد توافر “الإنترنت”، ولم يبذل جهداً للتعرف على ما تركه سابقون بروح نقدية واعية.
يتم هذا فى حين أن للرومى حضورا كبيرا على “الإنترنت”، متجاوزاً حواجز الحدود واللغة والعرق والنوع، حيث يمكن العثور على مئات التسجيلات لموسيقى السماع وآلاف الصور، فضلاً عن مئات –بل آلاف- الكتب والدراسات والمقالات بكل اللغات. ومما يلفت النظر ذلك الإقبال من أجيال شابة، وهو ما تضاعف فى العقد الأخير بفضل “الفيسبوك”، وذلك فى صفحات بالعربية –وبغيرها- يصعب حصرها لمبدعين وباحثين بجهد فردى أو جماعي، وأغلبهم من مصر وسوريا والمغرب، ومنهم صفحة خالد الحلاج للباحث المصرى “خالد محمد عبده”، ومدونة “أنوار” للباحثة المغربية “عائشة محمد”، وصفحات “اللا محتجب”، و”حضرت مولانا”، و”دروس حضرت مولانا”، و”عشق”، و”شمس”.من جهة أخرى، أصدرت المطابع كتابات وترجمات لا حصر لها للمثنوى بالفارسيَة أقدمها ما قام به “كمال الدِين حسين بن حسن الخوارزميّ الكبرويّ”، فضلاً عن شروح بالتركيَّة، وكذلك الفرنسية، التى صدرت بها فى باريس ترجمة كاملة فى عام 1990 عن الفارسية قامت بها عاشقة مولانا المدفونة إلى جواره “إيفا مييروفيتش” بالتعاون مع “جمشيد مورتازاني”. ويظل أهم من تناول الرومى وكتب عنه المستشرق الإنجليزى “رينولد ألين نيكلسون” (1868م – 1945م)، والألمانية «آن مارى شيمل» (1922- 2003) عميدة المستشرقين الألمان، ومن أحدث كتبها المترجمة للعربية “الشمس المنتصرة”، للسورى محمد عيسى العاكوب.ويحظى المثنوى بشهرة واسعة فى الولايات المتحدة، وخاصة بعد ترجمة “كولمان باركس” لأشعار مولانا التى ينظر لها بعض المتصوفة الغربيين باعتبارها جزءًا من علاجات روحية. وفى العربية تم تقديم ترجمات عديدة له، ومن أهمّها: شرح يوسف بن أحمد المولويّ، فى 1872، وترجمات العراقى “عبد العزيز الجوهري”، والمصريون د.عبد الوهاب عزّام فى 1946، ود.عبد السلام كفافى فى 1966، ود.إبراهيم الدسوقى شتا، فى القاهرة فى التسعينيات. وما زالت العديد من الجامعات العربية تتناول أعمال مولانا بالدراسة والبحث، ولعل أحدثها هو بحث لنيل الدكتوراه عن مولانا “الرومي” وتلميذه “محمد إقبال”، للباحث المصرى “خالد عبده” المتيم بعالم مولانا، وغيره كثر.

آمال عويضة

ولم تنس عويضة أن تستأنس لصوتين بارزين في عالم الرومي، بين الفن والأدب، تكتب:
“إن علاقة مولانا “الرومي” بالله لم تنفصل عن عشقه الموسيقى، التى اعتبرها والشعر والذكر والرقص وسائل للوصول إلى الخالق. وحباً فى الموسيقى نظم مولانا ديوان المثنوى على أوزان عديدة، بلغت الخمسة والخمسين وزناً، أمّا الناى فقد كانت له مكانة خاصّة فى دمج الرقص بالطريقة الصوفيَّة. يقول عامر التونى مؤسس فرقة “المولوية” المصرية المعاصرة، وأحد الباحثين فى مجال الموسيقى الصوفية، والذى أصدر أول بيان فكرى للمولوية المصرية كاشفاً عن كثير من الرموز والحركات والإيقاعات باعتبار أن الفراعنة كانوا أول من داروا رقصاً وعبادةً وجلباً للطاقة فى المنيا بالصعيد: “بصفة عامة، نجد أن فطرة الإنسان ربطت بين الموسيقى كوسيلة روحية، وبين التصوف كمنهج، فكل الأشكال القديمة تمارس الموسيقى بالفطرة، حيث خرجت الفنون من عباءة الطقوس الدينية القديمة. ومع ظهور الأديان التوحيدية ظلت الأشكال الإنشادية المختلفة مرتبطة بها، وقد اختار المتصوفة السماع لأن النفوس والطبائع تستريح للموسيقى، وقد سئل الصوفى “الجنيد” عنه فأشار إلى أن كل ما يجمع العبد بين يدى الله فهو مباح، وأما سماع الصوت الحسن والنغمة الطيبة فهو حظوظ الروح، وهو مباح لأن الصوت الطيب فى ذاته محمود. وفى تفسير قوله تعالى” “يزيد فى الخلق ما يشاء”، قيل هو الصوت الحسن، والصوت الطيب لا يدخل فى القلب شيئاً، ولكنه يحرك ما فى القلب. أما فى الحضرة المولوية فالحركة. والحركة مع الموسيقى لديه لها دلالات مختلفة لأنها تقود إلى معرفة الله، وتمر عبر ثلاث مراحل موسيقية من الإيقاع البطيء إلى الأسرع فالأسرع ليمثل حالات المعرفة الإنسانية من علم اليقين وهو الإيمان بالغيب، ثم عين اليقين وهو عندما نرى الجنة والنار، والمرحلة الثالثة حق اليقين وهى عند دخول الجنة أو النار”. وعن تجليات الموسيقى الروحية على الموسيقى المعاصرة، يقول “التوني”: “ترك هذا الأداء الروحى بصماته على الموسيقى العالمية عند “نصرت فتح على خان” فى فن القوالى المنتشر فى الهند وأفغانستان وباكستان، وفى الموسيقى الهندية الجديدة لدى “رافى شنكار” وغيره، وهناك “أمير فرزاد” فى إيران، و”عمر الفاروق” فى تركيا. وفى الشام هناك الحضرة والإنشاد وفرق مثل “تهليلة” و”حمزة شكور”. وتجلى فى شمال أفريقيا فى مصر عبر فرقة “المولوية”، وفى الحضرة التونسية والمغاربية، وإبداعات المغربى “رشيد غلام”، وفرقة “ابن عربي”، و”أهل أصيلة”، وهناك السنغالى “يوسو نادور” وغيره فى السودان ومالى وموريتانيا ونيجيريا. عالمياً امتد التأثير ليصل إلى البريطانى “بيتر جابرييل” وغيره من الموسيقيين الذين تأثروا بخطاب الموسيقى الصوفية للروح على عكس الموسيقى الحديثة التى تخاطب الجسد».

شافاق وأغلفة روايتها عن الرومي

في تقديمها للصوت الثاني تدون آمال عويضة تقدم د. هالة فؤاد أستاذ الفلسفة والتصوف في حوار عنوانه: أفكار “الرومى” تستفز أصحاب القوالب الجامدة:
“لا قيمة للحياة من دون عشق. لا تسأل نفسك ما نوع العشق الذي تريده، روحي أم مادي، إلهي أم دنيوي، غربي أم شرقي، فالانقسامات لا تؤدي إلا إلى مزيد من الانقسامات. ليس للعشق تسميات ولا علامات ولا تعاريف. إنه كما هو، نقي وبسيط. العشق ماء الحياة. والعشيق هو روح من النار!. يصبح الكون مختلفاً عندما تعشق النار الماء”. إليف شافاق.
– تكشف د. “هالة فؤاد” أستاذة الفلسفة والتصوف بكلية الآداب جامعة القاهرة فى حديثها عن اهتمام كبير بالفكر الصوفى والنصوص التراثية الفلسفية، وخاصة بعد أن عملت لسنوات على نصوص “التوحيدي”، كما أن لديها الآن مشروعاً حول الحكى الصوفي، يتناول نماذج من الحكايات الصوفية عند “الرومي”، و”فريد الدين العطار”، ولها إلى جانب ذلك أراء تتعلق برواية “قواعد العشق الأربعون” وشهرتها:
– كيف ترين الرواية وما هى أسباب الإقبال على قراءتها؟
جمال الرواية يبدأ من عنوانها الذى يحمل تناقضاً بين عشق لا خير فيه إذا تم تدبيره بالعقل، وبين القواعد التى تحكمه ويجب تحطيمها، والأجمل أن الرواية تحطم القواعد ولا تؤسس لها من وجهة نظري، فى دفعها بقصتين تدوران ما بين القرنين الحادى والعشرين والثالث عشر الميلادي. ولعل نجاح الرواية عالمياً يعود إلى موهبة الكاتبة التركية المولودة فى فرنسا لأم تعمل فى الحقل الدبلوماسى بما يعنيه هذا من تنوع معرفى وثقافى فى تناول المشترك الإنسانى العميق فى قصة تتماس مع فكرة الحب وقبول الآخر. تحكى الرواية قصة “إيلا” المرأة اليهودية الأمريكية، التى تفرّغت لبيتها لأعوام طويلة، وعلى الرغم من ذلك يخونها زوجها، وتصر ابنتها على الزواج من مسيحي، ولا تخرج من هذا كله إلا بعد انغماسها فى تقييم رواية “الكفر الحلو” لعزيز الكاتب الإيرانى الصوفى المسلم الذى لا تعرفه، وتنطلق معه فى قصة عشق ومعرفة للذات تتقاطع مع فصول عن مولانا “الرومي” الذى ترك معتاد عمله كشيخ تقليدى ليكتشف الحب الكونى على يد الدرويش. وتتبنى الرواية طريقة السرد الدائرى وتعدد الأصوات، الذى هو أبرز ملامح الحكى الصوفي، فالرواية ليس لها راو واحد، وبها قصتان متطابقتان فى رواية داخل رواية، حيث الانتقال بين قصة “إيلا” الأصل وقصة “الرومي” الهامش، وفى لعبة السرد يصبح الرومى الهامش هو المتن، ويصبح المتخيل حاضراً، ويصبح الحاضر هو الخيال.
– وماذا عن انتشارها بهذا الشكل عربياً، وأسباب التخوف من بطلها الرئيسى بعد وفاته بـ800 عام؟
ربما يعود ذلك لتماس الرواية مع ما نعايشه، لأنها تعرى التدين الشكلى عبر شخصيات من لحم ودم، مثل القاضى المغرور الذى يهمه تطبيق الشريعة شكلياً، والفتوة الذى يفرض الدين بالقوة ولا يتورع عن التنكيل بعاهرة. كل هذا آمام الدين المجدول بالمحبة والزهد ومراعاة خلق الله، وهو ما أراه أقرب للوجدان المصري. وأرى أن الرومى كبطل للرواية يضعنا فى مواجهة مع تلك التيارات الجامدة التى تحاول فرض السيطرة على حياة الناس وأفكارهم لتسوقهم فى اتجاه نفق معتم، وهو ما قد يستفز أصحاب هذه الأفكار الذين قد يحاولون منع الرواية من الانتشار، أو فرض الصمت على من يحاول مناقشتها، أو مقارنتها بما نعيشه اليوم.

د.

د. هالة فؤاد، أستاذة الفلسفة والتصوف بكلية الآداب جامعة القاهرة ، في حوار كاشف حول عالم أثير لديها

– هل ما سطرته شافاق كان معبراً صادقاً عن “الرومي”؟
بداية لا يمكن إنكار موهبة “شافاق” الأدبية، وجرأتها فى تناول شخصية شهيرة وإيجاد عالم مواز لها وعنها، ولكننا فى الوقت نفسه علينا الحذر عند الحديث تناول “الرومي” الحقيقي، و”الرومي” المتخيل، و”الرومي” الروائي، وإن كانت كلها انعكاسات لشخصية واحدة، إلا أن الرومى الحقيقى قد يختفى تحت وطأة القصص الأسطورية عن الرومى المتخيل، وها هو يتشكل روائياً مرة أخرى بتفاصيل قد يتعامل معها البعض باعتبارها رسماً مكتملاً للرومي. وبصفة عامة، فإننا نعانى مشكلة فى الشرق المحافظ، والعربى على وجه الخصوص مع السير الذاتية، حيث نتفنن فى تضخيم صفات المكتوب عنه لتحسين الصورة فى شكل أقرب للملائكية، كما حدث قديماً مع الإمام “الغزالي” الذى تم تقديمه باعتباره المنقذ الباحث عن الحقيقة، وكذلك حديثاً مع “طه حسين” فى الأيام باعتباره الكفيف المكافح. وعلى النقيض، تطالعنا كتب السير الغربية بمفاجآت كما هو الحال عند “جان جاك روسو” الذى دوًن أكثر الأحداث حميمية فى حياته. وتتعاظم تلك المشكلة مع المتصوفة، الذين يتعرضون بالفعل لتهم جاهزة فى مجتمعاتهم التى تعجز عن فهمهم، وبالتالى فهم لا يكتبون عن أنفسهم، وغالباً ما يكتب عنهم تلاميذهم الذين يسقطون فى فخ الدفاع عنهم برسم صور مثالية أسطورية، فهى مخيلة صوفى يكتب عن صوفى ضد المجتمع وأحكامه، وهكذا الأمر بالنسبة للرومي، ولكن “شافاق” نجحت لأنها لم تحاول إعادة إنتاج الأسطورة أو التأريخ للرجل، ولكنها كتبت نصاً يوازى الخط الواقعى ولكنه لا يوثقه ولا يرصده.
– للرومى إسهامات فى الشعر والنثر والموسيقى والفلسفة، كيف تفسرين موسوعيته؟
بداية، لابد من الأخذ فى الاعتبار أين عاش؟، ومتى عاش؟، وبما تأثر؟، وما هى علومه؟، وارتباط هذا كله بانتمائه لأسرة دينية، خرجت من “خراسان” وعاشت فى وسط تركيا، فى وقت اضطرابات وحروب وقلاقل، هذا فضلاً عن ضرورة فهم أفكار الصوفية التى لا يجب محاكمتها دينياً، وكونها مرتبطة بالمنجز الدينى من قرآن وسنة ومعبود، لا يورطها ولكنه يضعها فى إطارها بين الفلسفات الصوفية التى ظهرت بمصاحبة كل الأديان وخارجها أيضاً. وقد انعكست الأحداث والجغرافيا وأفكار الصوفية كلها على تناول الرومى للجسد الذى ينظر إليه باعتباره جمالاً يكتمل بالموسيقى والحركة وميزان الشعر، وليس كما ينظر إليه مفسرو النصوص باعتباره وظيفة تقودها الغواية، فى الوقت الذى تنظر فيه الفلسفة الغربية فى العصور الوسطى للجسد باعتباره مصدر الغواية فتحتقره لماديته. وقد أعطى “الرومي” بتصوراته الفلسفية للرقص قيمة تتعالى على القالب المادي، وهى لا تنفصل فى الوقت نفسه عن زمنه الذى تأثر بإسهامات سابقة للحضارتين الفارسية والتركية فى احتفاء فنانيهما بالصورة ورسم الجسد خروجاً من تقاليد فنانى ما بعد ظهور الإسلام الذين احتفوا بالطبيعة والأشكال المجردة مع تجاهل الجسد.
– وفى الختام، لم تغفل د. هالة الإشارة إلى أن انتشار الرواية والاحتفاء بجلال الدين الرومي، يأتى الآن بكل هذا الشغف للرد على كل محاولات التقييد والإرهاب باسم الدين وفرض قوالب جامدة لا تتيح الاستماع لآخر وتميل إلى تكفيره لو جاء بأفكار مخالفة، علماً بأن العالم يحتمل الجميع والحقيقة ليست حكراً على أحد، وقد احتفظ لنا التاريخ بما يؤكد أن الطرق إلى محبة الله شتى، وانه يمكن لامرأة عاهرة من ديانة مخالفة أن تدخل الجنة لأنها سقت كلباً، وهى تلك المحبة التى أسس الله عليها الرومى والعارفين الذين اتخذوا سبلاً إلى المحبوب قد لا يعرفها غيرهم.

ورقتان نقديتان، بتوقيع الأستاذ محمد عبد الهادي علام، رئيس تحرير الأهرام، هدية رمزية موقع باسمَي المحررة والمخرج

 

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات