موسم الهجرة إلى السودان (1) شارع الذكريات

01:36 مساءً الخميس 24 أبريل 2014
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

 وفودٌ من مؤسساتٍ دوليةٍ تحاورُ وتناورُ، عقولٌ مهاجرة فردتْ أجنحتَها للعودةِ، باعةٌ من ولاياتِ الشمال، وطالباتُ علم من مناطق الجنوب، خليط من كل ركن بالأسواق الشعبية، حجاجٌ متصوفون، سياحٌ متجولون، عمالٌ موسميون، منقبون عن البترول، مفتشون عن الآثار، باحثون عن فرص الاستثمار، جنودٌ من جنسِيَّاتٍ مختلفةٍ مشاركون في مهماتِ حفظِ السلام على جبهة دارفور، علماءٌ حاضِرون من كل حدْب وصوب يحاضرون في مؤتمر دولي أول للتعليم الطبي، فرقٌ فنية عارضة من دول عربيةٍ شقيقةٍ وإفريقيةٍ صديقةٍ جاءتْ لتحتفلَ بالخرطوم عاصمة للثقافة العربية والإفريقية. في السودان الجديد، الكل آتٍ إلى هنا؛ عابرين ومقيمين، عربًا وأفارقة، أوربيين وآسيويين، فنادق متخمة بقاطنيها، وشوارع أكثر ازدحاما بالمشاة والسيارات، فلا تكاد تجد عنوانا لذلك كله سوى أن تقول: لعله موسم الهجرة إلى السودان قبل أن يصبح سودانين!

هواءُ الصبَّاح باردٌ وخادِع، يبشِّرُك بنهار ربيعي، أنت العابر في قلب العاصمة السودانية، الخرطوم. ما أن تنتهي من طريق طويل لتدخل شارعا آخر، حتى تتبخر أحلامُكِ مع صهدِ شمس ساطعة، وظل ساخن، وعيون دامعةٍ. ملامِحُ العَصْرَنةِ الاستهلاكيةِ المزيفة تُفصِحُ عن وجهها حولك في كل ناحيةٍ، من شارع القصر إلى شارع المطار، وبكل ركن، من شركات السياحة إلى المطاعم: تجارٌ للعملةِ، مروِّجُون للمكالماتِ المخفَّضةِ عبْر الإنترنت، مراكز بيع بطاقات الهاتف السيار، الأكثر شيوعا من أي شيء سواه. الكل هنا يتحدث، ويتحدث، ويتحدث.

شارع الذكريات

تحاول أن تتأمل ملامح شارع (الجمهورية) خلف نظارات الصبر. في هذا الشارع مر جمال عبد الناصر (لاتزال الحديقة به تحمل اسم الزعيم تحيي ذكراه، بالرغم من تقليص مساحتها بعد أن تناقصت المساحة التاريخية لناصر نفسه). في (الجمهورية) أيضا، مر الملك فيصل بن عبد العزيز، مثلما مرت إليزابيث ملكة بريطانيا. يحكي السودانيون عن ذلك كأن ما حدث كان بالأمس: هنا سكن الرئيس فلان، وهناك مشى القائد علان، ولم لا، والحس التاريخي لأهل البلاد هو الذي يؤجج حواسهم، ويحرِّكُ مزاجهم?!

إذا كنت تبحث عن بعض من الخصائص المعمارية لتلك المدينة الجديدة، فمسجدُ (فاروق) سيعينك بما فيه من الرقش والنقش، وما يأتيك به من حديث المشربيات والمقرنصات، كما ستناولك قبابه ومآذنه مادة للحديث. المسجد المشيَّد في القرن الثالث عشر الميلادي، أعاد الملك فاروق ـ آخر ملوك مصر ـ بناءه، على نمط مزج بين العمارة المملوكية في القاهرة، والإسلامية في إفريقيا. وبالرغم من أن هيئة الأوقافِ، أعادت للمسجد اسمه القديم؛ (أرباب العقائد)، فإن اسمه الشائع لا يزال (مسجد فاروق). الخطاب هنا واضح، فلتطلق السلطة الأسماء، وليختر الشعب بينها. الأمر يكرر نفسه عندما غيرت الحكومة الساعة (التوقيت)، لأنك حين تسأل عن (الزمن) يقولون لك: قديم أم جديد? وحدث ولا حرج عن العملة الجديدة: الدينار، فلا ذكر له إلا على الورق، العملة يتم تداولها باسم الجنيه الذي يساوي وحدة عُشرية من الدينار. ودائما هناك خطابان، خطاب الحكومة وخطاب الأهالي. بمناسبة اختلاف خطاب الحكومة عن خطاب الأهالي، حكت لي فتاة جنوبية كيف استطاع شبابٌ من الدنكا، أن يتغلبوا على الخطاب الرسمي الذي أعد لقاءاتٍ أبطالُها الموالون للحكومةِ من الدنكا (إحدى قبائل الجنوب). فقدْ سأل الوفد الأسئلة المطلوبة، وأجاب الموالون بإجاباتٍ مرسومة سلفا، وإذا بالدنكاوية ـ الذين لهم رأي آخر ـ يؤلفون أغنية في دقيقة، لا يسع الوفد الأوربي حين يترجمها إلا أن يعرف نواياهم السياسية الحقيقية.

العمارة في الخرطوم بدأت تعاني مأزق التغريب، صحيح أن هناك بيوتا جديدة لا تزال تحافظ على خلطة من عمارة البيت السوداني بصحنه وفنائه وسوره وتقسيمه وبنائه، مع عمارة البيت النوبي حينا، والإفريقي حينا آخر، إلا أن الواجهات الزجاجية – غير المناسبة إطلاقا لبيئة الخرطوم – والهياكل الخرسانية الماردة بدأت تشق سماء المدينة التي لم يزرها الغيم مرة واحدة في زيارتنا، بينما سعى إليها الغبار مرات.

ملامح العصرنة في الشارع كثيرة؛ بنوك ومصارف، ووكالات سفر وسياحة ـ لا شك أنها هذه الأيام في أوج نشاطها ـ وسوق إفرنجية. أما (ستوديو جوردون) فهو أول مكان انطلق منه التصوير العصري قبل أربعة عقود. شارع (الجمهورية) ـ مثله مثل الخرطوم 2 ـ بالنسبة للسوداني؛ ابن العاصمة، هو ذكرى الزمن الجميل، الذي ولى أو كاد: يتذكَّر فطائر وحلوى سويت روزانا، وترزية الميني جوب (الذي أسماه السودانيون بلطف لغتهم: جكسا في خط ستة! إشارة لخطورة اللاعب الهداف أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات نصر الدين عثمان ـ وشهرته جكسا إذا ما دخل منطقة الياردات الستة ـ القصيرة ـ للمرمى)، ومقاهي المبدعين، وأقرانهم، بما لها من أسماء كوزموبوليتانية مميزة: اللورد بايرون، وسان جيمس، وشيش كباب، وكايرو جلابية، وكوبا كوبانا، وفلفلة، وروضة المدينة، وآتينيه، والمحلات الأوربية: كونت مخلص، ميرزا، جيمبرت، البون مارشيه، الفرد دوبسيه، (وغيرها مما عددها لنا الكاتب محمد الأسباط). أما اليوم فالأسماء تحيلك إلى رموز مغايرة: فمن جهة ستقرأ (بقالة الصحاف)، و(إنترنت بن لادن)، و(اتصالات الظواهري)، ومن جهة أخرى ستعاين (عصير ساندي)، و(سوبر ماركت ساندرا) و(كوافير البرنسيسة) (وغيرها)، فضلا عن وجود مترادفة الإسلامية وصفا لكل شيء، والعالمية صفة لأي محل. ولكن لم يعد هناك مجال لجكسا خط ستة، ولا لفستان (الخرطوم بالليل) (اسم رداء نسوي آخر اشتهر في الماضي وكان يلمع ليلا بما يحتوي من حلي وتطريز).

تكاد تشك في أن يصبح شارع (الجمهورية) اليوم ـ وأخوانه من الشوارع القديمة الجديدة ـ رمزا لعودة الروح إلى العاصمة، قد يحدث ذلك عبر بوابات الاستهلاك الرقمي؛ يكفي أن تعد المحلات التي افتتحت للاتصالات الدولية، والسباحة بالإنترنت، فلا ينافسها عددا في العاصمة وشوارعها سوى الهواتف السيارة (وإعلانات تجاهر بفك الشفرات!!)، ومحلات الأطعمة بنكهاتها العربية (ولو في الاسم فقط)، ومقاهي الرصيف، والغزوات الصينية للبضائع البلاستيكية التي زاحمت كل شيء، حتى أن حضورها كان طاغيا في السوق الشعبية لأم درمان. (في هذه السوق لا تزال تجارة العاج والحيوانات المحنطة مباحة. ستأتي يوما جمعيات الرفق بالحيوان لتحرم ذلك، فهل تأتي معها أو بعدها جمعياتٌ أخرى?)

بلد التحولات

بدا لي أن البلدَ يتحوَّلُ إلى خليطٍ ثقافي هجين، فيما تجتاحه ـ ومعه بلدان كثيرة تحتل موقعه الاقتصادي نفسه ـ تيارات الاستهلاك العولمي، كما تخيلت أن ذلك السخاء الرقمي ليس إلا غطاء وهميا لأزمة حقيقية، اقتصادية واجتماعية. لكنني عدت أراجع نفسي حين بدأت أزور الاستثمارات العقارية الجديدة: أبراج على النيل، فنادق خمسة نجوم تكتمل خلال فترات قادمة وجيزة، توكيلات عالمية لكل الأسماء في عوالم الموضة والرياضة والأثاث والديكور والإعلان والتسوق. والخلاصة أن السودان يحتمل الوجهين في كل شيء، عربات (الريكشا) وسيارات الدفع الرباعي معًا. وإذا كانت الريكشا قد دخلت مع الأزمة الاقتصادية في 1993، كحل شعبي للمواصلات الرخيصة، فإن السيارات الفخمة التي تسعى في شوارع المدينة قد دخلت مع الانفراجة التي يبشر بها الغد. في الأيام السودانية بدأت أبحث عن أسئلة جديدة، وإجابات مقنعة، توازي المشهد الظاهري، الذي يبدد الأموال في فضاء الإنترنت والاتصالات اللاسلكية. كان هاجسي هو البحث عن صور السودان الجديد، فيما أراه ومع من ألتقيه. كنت أعرف أن السودان الغد بحاجة إلى قامات وهامات في الفنون والآداب والعلوم والصناعة، تؤسس وتبني وتخطط، تنقب في الجذور، لتنمو الثمار. إنه بحاجة إلى مشاريع فردية وقومية، تصنع معا نسيج مستقبل بلدٍ عربي وإفريقي.في جامعة أم درمان ألتقي مع البروفسور عون الشريف قاسم، صاحب (قاموس اللهجة العامية في السودان)، وموسوعة (القبائل والأنساب في السودان)، الذي يرى في لهجات السودان صورة حية للتمازج البشري العظيم، الذي أكسب البلاد ما هي عليه من وحدة بالرغم من كل التباين، فكما امتزج العربُ بالسكان الأصليين، واختلطت دماؤهم بدمائهم امتزجت لغتهم بعناصر مختلفة من لغات هؤلاء السكان، واختلطت بها اختلاطا ترى سماتِه واضحة في المفردات والتراكيب والنطق، وهكذا في ذلك القاموس تعرفنا إلى مقاربات عامية مع لهجات من كل فج: أوربية وتركية، سريانية وشامية، بجاوية ودنقلاوية، فصيحة وعامية، فارسية وعربية، مصرية ومغربية ومولدة. هنا ذابت اللهجات كما تذوب في طبق الفول المدنكل السوداني التقليدي كل مكوناته! كان لا بد أن يشير البروفسور قاسم إلى أن سنوات الحرب التي عاشها السودان وبلغت نحو أربعين سنة ـ على مرحلتين ـ خلال نصف القرن الأخير، كانت السبب الأساس لوضع البلاد، وأن يأمل في أن تكون اتفاقية السلام طريقا جديدا للسودان الجديد، الذي يرى فيه سودان الثقافة العربية الإفريقية: (نحن نعلم أن الثقافة العربية حيثما ذهبت تحترم الثقافات الفرعية، ولا تسعى لمحوها، بل تستوعبها، وتتعايش معها، بمرونة وسماحة، عكس ما تسعى إليه الثقافة الغربية التي تسعى إلى الاستئصال والمحو، ونحن ندرك أن الثقافة العربية هنا تبدو أصالتها في أن السودان يمثلها وسط محيط غير عربي. وأنا أعُدُّ السودان المنطلق للأمة العربية في إفريقيا، بالرغم من سعي الآخرين لوقف مسعانا ـ كممثلين للثقافة العربية والإسلامية ـ للنفاذ إلى القلب الإفريقي. فالقارة الإفريقية هي قارة العرب والإسلام، وثلاثة أرباع العرب هنا في هذه القارة، أرضا وسكانا، وجغرافيا وتاريخا. والخصوصية السودانية هي أنها مزيج من الثقافتين، أو الثقافات، العربية والإفريقية، إنه سر ثرائها، وسر وحدتها، في آن واحد).

أحلام ثقافية

هذا التنوع الثقافي كان له حضوره في خضم احتفالات الخرطوم بكونها عاصمة للثقافة العربية 2005. في الطريق إلى مكتب الدكتور عثمان جمال الدين الأمين العام لاحتفالات الخرطوم عاصمة للثقافة العربية (والإفريقية كما تقول لافتات كثيرة). تأملت الشعار الذي صممه الفنان أحمد عبدالعال، عميد كلية الفنون الجميلة، وشرحه جمال الدين: فالثور الأبيض، بقرنه الصارم، يمثل أمرين القوة والثروة الحيوانية؛ والعنصر الإفريقي أيضا، والحمامة رمز بديهي للسلام (سلام العزة كما تلقبه اللافتات المرحبة به في جنبات الخرطوم)، والإفريز المعماري العلوي معادل بصري لأهرام البجراوية، مهد هذه الحضارة الجنوبية التي وجدت شقيقتها على أجزاء أخرى من جسد النيل، ثم الألوان الثلاثة للمياه، والمروج والصحراء. أما الحرف (و) فهو إشارة سيميائية عربية لخطبة الإمام التيفاشي بعد ثورة الإمام المهدي! سنرى متحف المهدي، الذي كان بيته ومقر حكمه، ونرى المتاريس الدفاعية (الطوابي) التي قاوم بها، وسنرى ألوان الشعار على حقيقته فنزور أهرام البجراوية في الصحراء، ونتعرف على قصص جنوبية يتخذ فيها الثور دورا مهمًا، ونلتقي مع كثيرين يؤمنون بما حل من السلام.

التنوع الثقافي الذي يستحضر الروح العربية الإفريقية، يتردد صداه في برامج أيام وليالي الاحتفالية، أسابيع ثقافية عربية موازية للفعاليات السودانية، مثلما هي مواكبة للحضور الإفريقي. أنشطة من مصر والكويت وسورية، وسواها، وعروض من جيبوتي وإثيوبيا وغيرهما (وهو ما لم نستطع متابعته لتبلبل جداولها في معظم الأحيان). مع محمد جبارة رفيق رحلتنا السودانية، من مكتب الإعلام الخارجي، بوزارة الإعلام السودانية، نتابع حضور التنوع الثقافي في سوق أم درمان على المستوى الشعبي، في البضائع والبشر، على حد سواء، مثلما عايناه على المستوى الرسمي إذا صحت التسمية. هذا التنوع الثقافي هو عملة سودانية بوجهيها العروبي والإفريقي، والذي وجد اعترافا رسميا من خلال الفعاليات، مما حقق المعادلة وأمَّن اعترافا معنويا بما سعى إليه الجميع: الإيمان بنسيج السودان العربي الموحد، وأن يصل صوت إنتاجه الثقافي، وهو ما كان يبدو أمرا صعب المنال قبل تحقيق السلام والإيمان بفكرته.

ليس نسيج التنوع الثقافي (الفولكلوري) وحده، هو الذي يمهد لصورة سودان الغد، بل ربما يحييها أكثر نسيج العائدين الحالمين بالمساهمة ثقافيا في بناء سودان ما بعد الاستقرار والسلام. في بيت تقودنا طوابقه الثلاثة عبر دروب الفن، من خلال جاليري وستوديو مفتوح، نعيش مع الفنان التشكيلي راشد دياب، العائد بعد 20 عاما بإسبانيا، بين ممارسة الفن وتدريسه في مدريد، سألته عن سر عودته: (السودان يمر بمرحلة تحول تاريخي ولن يبنيه سوى أبنائه، من المبدعين المهاجرين، والعلماء المغتربين، علينا نحن أن نعود لنبني السودان الجديد، فما معنى أن يترك القادرون على بناء البلد أرضه، فهروب الكفاءات يؤدي إلى مزيد التدهور وستزيد المعاناة. وعندما عدت، مع سواي، جئت حيث تسكن الروح هنا، فمهما عاش الجسد خارج الوطن، لا بد له من البحث عن جذوره الحقيقية. لقد ناديت بالثورة الثقافية، وهي دعوة قوبلت في البداية باستخفاف، لكنني اليوم أفخر بأنني أعيش وفي خانة المهنة (فنان تشكيلي) لأنني أعتقد أن في ذلك رد اعتبار للفن، ولبلد مارس الفن المعاصر خمسة عقود، لكي تبرز صورة سودان الفن الحقيقي لا السودان الفولكلوري). يستقبل دياب إحدى تلميذات الفن، تبدأ رسم لوحة جديدة، ربما تمهد لسيرة حياة فنانة نلقاها في استطلاع قادم!

لم يكتفِ راشد دياب بالحديث، بل دعانا إلى واحة يؤسس لها بأحد أطراف العاصمة السودانية. مكان يتم الإعداد له ليكون فردوسا للفنانين من كل أنحاء العالم. نتجول مع دياب وهو يصف لنا ما لانراه، وما نراه: (هنا ستكون جلسة الفنانين في مقهى تحوطه الزهور الإفريقية، وهنا ستقوم ورشة للنحت، وبجانبها ورشة للطباعة الجرافيكية. وهنا ستقام كلية للفنون الجميلة، وهنا خمس فيلات لإقامة الضيوف من الفنانين من كل أنحاء العالم). وهنا، وهناك، أحلام غادرت رأس راشد دياب وبدأت تنمو في جنبات المكان، مثل زهور بنفسج في أصيص الأمل. يقول: (سيكون المكان مركزا عالميا للفن، جدير به السودان)، يضع قطعة موزاييك في لوحة المستقبل. بدأ المكان يستقبل ضيوفه؛ أصدقاء في الفن والشعر، يتحول المكان ذات مساء إلى قصيدة لا يعوزها الرسم، ضوء خافت، وهواء عليل، وعشق للفن مشتعل.

تكبر أشجارُ البلوط من بذور صغيرة. وينهض أكثر من مشروع فني تشكيلي قومي آخر مثل (بينالي النيلين)، أول بينالي دولي في السودان، الذي يحدثنا عنه الفنان عبد الوهاب الدرديري، المنسق العام له: (البينالي الذي ينطلق للمرة الأولى في أكتوبر القادم، يأتي تتويجا لحلم نيلي ـ تأخر طويلا ـ ويشهد افتتاح أضخم جاليري في السودان، ويستضيف أعمال الدول المشاركة التي زادت على الخمسين، وفعالياته: جوائز، وتكريم، وورش، وأحلام تلون فضاء اللوحة السودانية).

لا يجد الفنان الدرديري الصورة مظلمة، بل هو متفائل، وله أبجدية لونية مشرقة حين يتحدث عن واقع الفن في السودان ومستقبله. وفيما يستعد لمعرضه القادم عن السلام، يجيب عن تساؤل لي حول نقص المعارض المخصصة، فيقول مستشهدا بتصريح رسمي: كل جدار في السودان هو جاليري مفتوح. يصدق حديث الدرديري حين نحضر معرضا تشكيليا لفنانة تشكيلية شابة في المركز الثقافي الألماني بالخرطوم، ومعرضا استعاديا آخر لفنان راحل في المركز الثقافي الفرنسي، ويصدق أيضا حين يختار حمام سباحة ليعرض رسوم الأطفال من كل السودان، يرسمون آمالهم وآلامهم. أتوقف أمام لوحة لطفل يرسم مصافحة السلام بين الجنوب والشمال، بين عثمان علي أحمد وجون قرنق، بينما تحلق حمامتان (سمينتان) بغصني زيتون، كأن السلام يأتي معه الرخاء والابتسامات.

مع سعي عبد الوهاب الدرديري لإنجاز حلمه الخاص في الفن، أو إنجاح همه القومي لرعاية البينالي، نراه يسعد برعاية فرقة موسيقية شابة تجسد صورة لسودان الغد. ومن خلال إيمانه بأن للفن جذورا في الممارسات الحياتية اليومية، ومرآتها في الحياة القبلية السودانية، يأتي (نجوم البالمبو) الذين ينتمون لمختلف مناطق السودان، مما يجعل من الفرقة ـ مرة أخرى نعود للمصطلح ذاته ـ صورة حية للتنوع الثقافي، ولتصبح سفيرا فنيا حقيقيا للسودان في الفعاليات الثقافية خارج البلاد. تهدي الفرقة عرضا خاصا لمجلة (العربي)، تتصاعد الأنغام من الجنوب إلى جبال النوبة التي تنتمي إليها زنوبة بطلة إحدى الأغنيات العربية القليلة، وتتصاعد الإيقاعات الإفريقية مختلطة مع الألحان السودانية، ونعيش ـ بشكل مختزل وقوي ـ ليلة فنية تشرح موسيقيًا: ماهية ثراء التنوع الثقافي بالسودان.

في حوار مع وزير الدولة بوزارة الثقافة السودانية صديق المجتبى نستكمل الحديث حول التنمية الثقافية، بين تحدياتها وآليات تنفيذها وأحلام المثقفين والمبدعين في البلد الذي تحتفل عاصمته بعام الثقافة العربية. يطمح مجتبى إلى تنفيذ استراتيجية ثقافية، ولعل مشروع (المدن الثقافية) هو أبرز ما استمعت إليه في الخطة الطموح، التي تسعى لتحويل مدن السودان، في ولاياته المختلفة، إلى مراكز ثقافية لها خصوصياتها، سعيا للتبادل الداخلي فيما بينها ثقافيا، ضمن نسق السلام المرجو، وترويج الثقافة السودانية خارجيا، في إطار مواسم الهجرة إلى السودان. كلما سألت محاوري وجدت عنده (خطة)؛ لرعاية الصناعات الثقافية، ورعاية المبدعين، وتشييد البنى التحتية من قاعات سينما، ودور مسرح، ومحترفات فن ومكتبات داخل المراكز الثقافية التي يربط بينها وبين المركز مجالس تنسيقية، وبذلك يتحول التنوع الثقافي إلى عنصر وحدة لا شقاق.

في الطريق بين مناطق السودان، كانت المشاهد الحياتية الصعبة تهز في ذهني الصورة المثالية التي حدثني المجتبى عنها. لم أجد معنى لأن يكون الحيز الجغرافي المحيط بالأهرام في البجراوية ـ على سبيل المثال ـ على ما رأيت من مستوى معيشي قاس على أهله، بالرغم من أن المنطقة يمكن أن تصبح مركزا عالميا للإنتاج الثقافي، فالأمل الوحيد ـ كما أعتقده ـ هو أن تتحول أساليب الحياة اليومية إلى نتاج ثقافي ولكن ذلك حين يبدأ اليوم، ويستمر بجدية، يمكن أن نحصد نتيجته بعد عشر سنوات، حتى لا تتحول مفاهيم المدن والتنمية والمراكز الثقافية، وحماية الملكية الفكرية التي حدثنا عنها المجتبى إلى مجرد عبارات منمقة في كتاب المدن الفاضلة والمستحيلة.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات