أخبار الأدب: سندباد أسباني في بحر العرب

03:51 مساءً الخميس 31 يوليو 2014
جوردي إستيفا Jordi Esteva

جوردي إستيفا Jordi Esteva

كاتب وصحافي ومصور ومخرج إسباني

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

احتفلت جريدة أخبار الأدب الأسبوعية المصرية في بستانها بصدور كتاب عن حكايات رحلة في الزمان والمكان،‮ ‬قام بها الكاتب والمصور والرحالة الاسباني جوردي استيقا علي مدي خمسة وعشرين عاما منطلقا من القاهرة إلي الخرطوم وجوبا بجنوب السودان،‮ ‬إلي موانئ البحر الأحمر‮: ‬سواكن وبورتسودان والحديدة،‮ ‬لتأخذه بعد ذلك نداهة الترحال إلي اليمن وعمان حتي زنجبار في محاولة لإعادة كتابة الماضي من منظور الحاضر،‮ ‬بحثا عن الماضي المزدهر لحضارة عربية إسلامية قامت علي فنون البحر وحولت المحيط الهندي ليصبح طوال قرون عديدة بحرا عربيا خالصا،‮ ‬حضارة بحرية امتدت من موانئ الجزيرة العربية علي البحر الأحمر وبحر العرب وحتي موانئ شرق أفريقيا،‮ ‬ابنة الرياح الموسمية التي احتكر أسرارها البحارة والتجار العرب،‮ ‬ومن خلالهم انتقل الإسلام حتي شواطئ الصين دون معارك أو‮ ‬غزوات،‮ ‬وظلت هناك لقرون حتي أغارت عليها أطماع الغرب الاستعماري ونجحت في محو الهوية العربية الإسلامية من شرق أفريقيا،‮ ‬ودفعتها إلي التراجع إلي شواطئ الجزيرة العربية‮. ‬

الكتاب ترجمه وقدم له د. طلعت شاهين وفيه يحكي كيف بدأت الحكايات كمغامرة قام بها استيفا عام‮ ‬1977‮ ‬ لاستعادة أحلام عاشها طفلا مع‮ “‬مغامرات السندباد‮” ‬الأسطورية‮: ‬سواكن ومخا أو قلهات علي شواطئ البحر الأحمر،‮ ‬لتجذبه بعد ربع قرن إلي موانئ أسطورية أخري في اليمن وعُمان،‮ ‬ومنها إلي مومباسا ولامو وزنجبار علي الشواطئ الشرقية لأفريقيا التي كانت جزءا من إمبراطورية عربية إسلامية مركزها عُمان استمرت لقرون،‮ ‬وشكلت مشاهد من حكايات رحالة سابقين مثل ابن بطوطة في القرن الرابع عشر،‮ ‬أو وليفريد ثيزنجر بعده بستة قرون‮.‬
‮ “‬عرب البحر‮” ‬يشكل نموذجا لأدب الرحلة بكل ما يعنيه هذا التعبير،‮ ‬اندمج خلاله الكاتب في واقع مختلف عاد به إلي قرون عديدة مضت،‮ ‬ورغم ما طرأ علي هذا الواقع من تغييرات مأساوية فإن الكاتب قدم وصفا رائعا لعرب أسطوريين محاولا استعادتهم قبل أن تختفي آخر آثارهم تحت وقع الحداثة‮.‬
يكشف عن مأساة اقتلاع الثقافة العربية الإسلامية من شرق أفريقيا في الستينيات من القرن العشرين بتخطيط من الاستعمار البريطاني تحت مسمي ثوري،‮ ‬مأساة وقعت ولا يذكرها أحد حصدت مئات الآلاف من البشر،‮ ‬وكانت سابقة لا مثيل لها تكتم عليها الإعلام الغربي والمؤسسات الدولية التابعة،‮ ‬وإن كانت ذاكرة البعض من أحفاد العرب هناك لا تزال تحتفظ بصورها وتجترها وكأنها وقعت بالأمس‮.

غلاف الكتاب الذي ترجمه وقدم له د. طلعت شاهين وصدر عن (سنابل) في القاهرة

عاد عبد العزيز إلي سواكن وبعدها بأيام قليلة ودعت ديمتري وصعدت علي ظهر شاحنة بدفورد أخذتني إلي مدينة المُعلم العجوز،‮ ‬لقد أصبحت مدينة سواكن القديمة مهجورة،‮ ‬وليس بعيداً‮ ‬عنها علي هضبة مسطحة قاحلة أُقيمت مجموعة من المكعبات الإسمنتية‮: ‬سواكن الجديدة،‮ ‬كانت مكاناً‮ ‬مهجوراً‮ ‬ولم يتغير كثيراً،‮ ‬بحثت عن صديقي،‮ ‬في بيته،‮ ‬قالوا لي مؤكد إنه ذهب إلي المسجد لأداء صلاة الظهر،‮ ‬فتوجهت إلي هناك،‮ ‬كان اليوم جمعة،‮ ‬اليوم المقدس لدي المسلمين،‮ ‬وبالتالي كان المسجد مزدحماً‮ ‬بخلاف الأوقات العادية،‮ ‬وكانت أمام المسجد ساحة متسعة مكشوفة تحت الشمس الحارقة،‮ ‬بحثت عن ظل أنتظر فيه انتهاء أداء الصلاة،‮ ‬توجهت نحو عشة يقدمون فيها الشاي،‮ ‬وكان هناك طفل يقلي قطعاً‮ ‬من السمك في زيت رغوي أحمر،‮ ‬ومن حوله كتيبة صغيرة من القطط،‮ ‬الرمادية والسوداء والمرقطة،‮ ‬ذات رؤوس صغيرة وأقدام قصيرة تقف مترقبة أن يلقي لها أحدهم بسلسلة فقرية،‮ ‬ولكن لم يكن هناك سوي زبون واحد شيخ مسن،‮ ‬والطفل لا يبدو إنه علي استعداد لمنحها أي شيء‮.‬
‮-‬بس،‮ ‬بسبس،‮ ‬بسبس‮.‬
كان يهمس الشيخ‮.‬
فهجمت عليه كل القطط بنظرة قلقة عدا واحداً‮ ‬أسود اللون،‮ ‬كان عصبياً‮ ‬كالآلهة المصرية القديمة‮ “‬بيستيت‮”‬،‮ ‬عيناه باردتان وشفافتان كحبات مسبحة من الجليد‮.‬
‮-‬هذا ليس قطاً‮ ‬إنه جني‮.‬
حكي الزبون المسن إنه بالطبع جني عند نطقه بالإشارة الثالثة،‮ ‬إن لم يتحرك القط لا يكون حيواناً،‮ ‬بل جني‮. ‬فاجأتني رقة المسلمين تجاه القطط،‮ ‬يتركونها تحتل البيوت عندهم كما تريد،‮ ‬وفي المقاهي والمطاعم الشعبية حيث تنتظر دائماً‮ ‬أن يلقي إليها أي زبون أي بقايا،‮ ‬وليس‮ ‬غريباً‮ ‬أن نراها في داخل المساجد،‮ ‬فهي هناك ملوك المكان وتنام علي الأبسطة حيث تريد،‮ ‬وتترك أيدي المؤمنين تداعبها برقة،‮ ‬حيث يتحدثون عن حياتهم،‮ ‬وليس بالضرورة أن تكون أحاديثهم دينية،‮ ‬أو ينعسون القيلولة لأن المسجد ليس مكاناً‮ ‬مخصصاً‮ ‬للصلاة فقط،‮ ‬بل هو مكان مفتوح ومفروش بالأبسطة يمكن للغرباء أن يستريحوا فيه،‮ ‬بل ويمكنهم أن يقضوا ليلتهم فيه،‮ ‬إنها أماكن مضيئة،‮ ‬بعيدة الشبه تماماً‮ ‬عن كنائسنا التي تحيط بها الرهبنة،‮ ‬والأماكن المغلقة سيئة التهوية التي تفوح برائحة الشموع المحترقة،‮ ‬والعرق والمعاناة المتراكمة طوال قرون،‮ ‬وبطلعات قديسيها المعذبين ومسيحها المحتضر المسمر إلي الصليب،‮ ‬وتاج الشوك مغروس في جبهته وجرحه الرهيب في جنبه نتيجة ضربة حربة‮.‬
حكي لي بعدها بسنوات صديقي المصري مرسي سلطان،‮ ‬المولود في بورسعيد المدينة التي تضم مسلمين ومسيحيين ويهوداً‮ ‬كانوا يتعايشون معاً‮ ‬بلا أي مشاكل‮:‬
‮-‬في أول مرة دخلت فيها كنيسة كنت طفلاً‮ ‬فأصابني الرعب‮. ‬وبعدها كنتُ‮ ‬أصاب بكوابيس ليلية‮.‬
لنعد إلي القطط،‮ ‬التي يقدرها العرب كثيراً،‮ ‬علي العكس تماماً‮ ‬من الكلاب،‮ ‬التي يكرهونها ويطردونها دون رحمة،‮ ‬بصرخات عنيفة‮ “‬بره‮”‬،‮ ‬بل وحتي يقذفونها بالطوب عندما تقترب منهم كثيراً،‮ ‬ربما يكون مفهوماً‮: ‬الكلاب ليست نظيفة كالقطط،‮ ‬ويصيبها الحر بكل أنواع الأمراض،‮ ‬وتسير عادة في مجموعات عائلية،‮ ‬تملؤها الجروح،‮ ‬وتهاجم الآخرين،‮ ‬ولا أحد يريدها أن تقترب منه،‮ ‬وجود كلب في داخل مسجد أمر‮ ‬غير متخيل علي الإطلاق‮.‬
‮-‬ما الذي جاء بك إلي هنا يا خواجه؟
ذلك الرجل الشيخ الذي وجه إليّ‮ ‬هذا السؤال كان الزبون الوحيد في المقهي،‮ ‬لأنه يبدو أن باقي أهل المدينة كانوا بالمسجد،‮ ‬أو يتجهون نحوه،‮ ‬كان المؤمنون يرتدون أحذية أو شباشب يكومونها أمام المسجد بينما مكبر الصوت ينادي بقوة،‮ ‬وكأنه عازم علي تفريغ‮ ‬سواكن من المسلمين‮.‬
في اللحظة التي كنت أوشك فيها أن أجيب علي السؤال،‮ ‬قطع حديثنا الصوت الخشن المتقطع لمكبر الصوت الصادر عن المسجد،‮ ‬انتبه الشيخ فجأة إلي إنه يجب أن يكون هناك،‮ ‬انتفض وتمطي كما تفعل تلك القطط وبصوت لا رغبة فيه‮: ‬
‮-‬وأنا أيضاً‮ ‬يجب أن أذهب إلي المسجد‮. ‬اليوم جمعة وإن لم يروني هناك،‮ ‬سيقولون إن الشيخ أبو بسبوسة عاد إلي شرب العرقي‮.‬
لكنه ما إن قال ذلك حتي عاد إلي الجلوس من جديد،‮ ‬جذبتني ضحكته الواضحة الصريحة وعيناه الذكيتان والسريعتان،‮ ‬أشرت إلي دكتي أن يشاركني إياها،‮ ‬وبعد أن ألقي نظرة مترددة علي المسجد،‮ ‬كما لو كان يريد أن يقول‮: “‬لينتظروا ماذا لو مر اليوم دون صلاة،‮ ‬إن العالم لن ينتهي‮”‬،‮ ‬زجر الخادم الصغير بفحيح مفاجئ‮:‬
‮-‬يا ولد،‮ ‬هل هذا شاي أم ماء قذر من‮ ‬غسيل الأقدام؟ له طعم السمك،‮ ‬ألا تعرف أن هناك شيئاً‮ ‬اسمه الصابون؟‮ ‬
‮ ‬نظر إلي وقال‮:‬
‮- ‬ما في فايده‮.‬
كما لو كان يملك مئة طبقة من الأصوات واصل حديثه بصوت مختلف‮:‬
‮-‬أنا أحب الشباب الأوروبيين مثلك،‮ ‬لديكم فضول في الحياة،‮ ‬تتركون بيوتكم المريحة لتتعرفوا علي بلاد أخري،‮ ‬وتأتون إلي فرن تغطيه الذباب في آخر الدنيا،‮ ‬الفضول هو الذي يجعل مجتمعاتكم تتقدم،‮ ‬لأنكم تحبون التعلم،‮ ‬بينما هنا‮- ‬خفض من طبقة صوته،‮ ‬ملس ذقنه كما لو كانت لديه لحية متخيلة في الوقت نفسه أشار إلي المسجد‮- ‬هؤلاء،‮ ‬شيئاً‮ ‬فشيئاً‮ ‬بدأوا يدخلون في كل مكان‮.‬
عاد إلي رفع رنة صوته‮:‬
‮-‬آه،‮ ‬لو إن المسكين عبد الناصر تركهم،‮ ‬هو نعم كان لديه مشروع عربي،‮ ‬لقد أعاد الكرامة المفقودة،‮ ‬كان يريد أن يوحدنا،‮ ‬ولكن الغربيين وضعوا أمامه كل العراقيل‮. ‬وفي النهاية قتلوه بالسم،‮ ‬أنا متأكد من ذلك‮…‬
قاطعته‮:‬
‮-‬معذرة،‮ ‬هل يمكنك أن تتحدث ببطء؟ لأنني لا أستطيع متابعتك‮.‬
أجاب‮:‬
‮-‬لكن حضرتك تحدثت باللغة العربية‮.‬
‮-‬إنني أحلم بأن أفهمها بشكل جيد،‮ ‬التحقت بدروس عربية بالجامعة والآن أدرسها في السودان،‮ ‬أتعلم بعض اللهجات التقليدية،‮ ‬ولكن في الحوار تتعقد الأمور قليلاً،‮ ‬أتوه فيها تماماً‮.‬
ابتسم أبو بسبوسة وواصل حديثه بالعربية،‮ ‬محاولاً‮ ‬العثور علي كلمات إنجليزية كانت تهرب مني‮. ‬واصل حديثه ببطء‮:‬
‮-‬يقولون إن قلب الريس لم يحتمل مرارة حرب الأيام الستة،‮ ‬ولكني أعرف إن هذا ليس حقيقياً‮. ‬لقد قتلوه لأنه كان يمثل الحداثة،‮ ‬والآن‮… ‬هؤلاء أصحاب اللحي يطالبوننا بأن نبحث عن حل جميع مشاكلنا في المسجد‮.‬

جوردي إستيفا على غلاف أخبار الأدب

عاد إلي خفض صوته‮:‬
‮-‬اليوم الذي زار فيه السادات القدس،‮ ‬قاضياً‮ ‬علي كل إرث عبد الناصر،‮ ‬عرفت أن كل شيء بالنسبة للعرب قد انتهي،‮ ‬لأن الإسرائيليين لم يؤمنوا بالسلام أبداً،‮ ‬إنهم فقط يريدون كسب الوقت لتنفيذ خططهم التوسعية‮. ‬إن مدينة القاهرة‮- ‬أم الدنيا،‮ ‬بسنيمائييها وكتابها وشعرائها تم تحييدهم إلي الأبد،‮ ‬والآن تجد هؤلاء السعوديين‮- ‬قال مشيراً‮ ‬إلي الأفق،‮ ‬فمدينة جدة تكاد لا تبعد عن مكاننا بمائتي كيلومتر‮- ‬هم من يدمرون كل شيء بدولاراتهم البترولية،‮ ‬يعتقدون إنهم يستطيعون شراء كل شيء،‮ ‬لقد شاهدتهم في الخرطوم يبحثون عن فتيات الجنوب والإثيوبيات‮. ‬شاهدتهم أيضاً‮ ‬في القاهرة يغطون بالجنيهات أجساد الراقصات في كباريهات شارع الهرم،‮ ‬وبينما يقضون أوقاتهم مع النساء ويمرغون كرامتهم بجريهم خلف فتيات أصغر من أولادهم،‮ ‬يقولون لبقية العرب إن هذا يأمر به القرآن وهذا يحرمه القرآن،‮ ‬وينشرون تطرف ابن عبد الوهاب،‮ ‬ذلك البدوي مدعي النبوة الذي يأمر بتدمير الأماكن الشعبية المقدسة،‮ ‬ويعلن عداءه للمتصوفة،‮ ‬لا أمل يا خواجه‮.‬
أخذ رشفة،‮ ‬وزعق في الطفل‮:‬
‮-‬هذا شاي بالفعل‮.‬
واستدار نحوي واعترف لي‮:‬
‮-‬أنا أيضاً‮ ‬كان لديّ‮ ‬فضولي،‮ ‬أعرف القاهرة،‮ ‬ودمشق،‮ ‬وبيروت‮… ‬كنت في الجيش السوداني،‮ ‬أرسلوني إلي الجنوب،‮ ‬الزنوج تمردوا ضد الخرطوم وكانت الحرب بلا رحمة،‮ ‬لقد شاهدت هناك أشياء رهيبة،‮ ‬فالحياة هناك ليست لها قيمة الحياة هنا،‮ ‬كانوا يفرضون علينا ارتكاب أشياء أخجل منها وأندم الآن علي ارتكابها،‮ ‬وتسهدني في بعض الليالي،‮ ‬والصلوات يا خواجه‮- ‬أضاف بابتسامة‮- ‬لا يمكن أن تعيد إليّ‮ ‬الطمأنينة أبداً،‮ ‬فقط العرقي يكون صديقي الوحيد،‮ ‬واستغفر الله العظيم‮.‬
‮ ‬وأنهي حديثه بتنهيدة عميقة‮.‬
طرأ علي ذهني خروجي المتعجل من قرية الدنكا بين المراكب‮. ‬
قال‮:‬
‮-‬حقيقة،‮ ‬هل أنت وحدك؟
‮ ‬لم يكن أي تطفل منه ولكنها كانت طريقة ليعرض علي الاستضافة‮.‬
‮-‬أنا أبحث عن الأستاذ عبد العزيز‮.‬
‮-‬آه،‮ ‬نعم أنت مهتم بهذا العالم،‮ ‬وفي هذه الحالة لن تعثر علي من هو أفضل منه في هذا المجال،‮ ‬إنه أستاذ بجد،‮ ‬إنه دكتور،‮ ‬ينتمي إلي واحدة من كبريات العوائل من تجار سواكن،‮ ‬جاءوا من اليمن منذ أجيال،‮ ‬ولكن أنت تعرف الحال الآن،‮ ‬لقد انتهت تلك الحقبة‮: ‬وهو آخر من تبقي من عائلته،‮ ‬من لم يمت منهم عادوا إلي اليمن أو بحثوا عن حياة أفضل في عُمان،‮ ‬والعربية السعودية وبلاد الخليج‮. ‬ولكن عبد العزيز أقسم إنه لن يغادر سواكن‮.‬
فكرت ساعتها أن‮ “‬البركة‮” ‬تقف إلي جواري،‮ ‬تري إلي أين سوف يأخذني عبد العزيز؟
‮-‬إذن أنا لا أستطيع أن أقدم لك إي شيء‮- ‬أضاف متأسفاً‮ ‬لأن العرب لديهم إحساس عال من حب الاستحواذ مع الضيوف‮- ‬من الأفضل أن أبحث عن حالي،‮ ‬فاليوم يوم جمعة خاص جداً‮ ‬بالنسبة لنا والصلاة سوف تمتد لبعض الوقت‮.‬
مد لي يده‮.‬
‮-‬وأخيرا يا خواجه،‮ ‬أنا سوف أذهب الآن لأري ماذا يقولون لنا هؤلاء الأئمة‮.‬
وقف بتباطؤ وخطا عدة خطوات،‮ ‬وقبل أن يخرج إلي الشمس استدار‮:‬
‮-‬أرجو أن يرافقك حسن الحظ أيها الأجنبي،‮ ‬وإن الله ورسوله يحميانك ويقودان خطواتك‮.‬
تقوم المدينة المتهالكة علي جزيرة مرتبطة باليابسة عبر لسان رملي‮. ‬تركت نفسي أتوه عبر متاهة الحارات متحاشياً‮ ‬الحجارة والأعمدة المتساقطة هنا وهناك،‮ ‬وجدران القصور والبيوت القديمة شبه متهالكة وتبرز من داخلها النقوش العربية والتعريجات الجصية‮. ‬تجولت في المدينة النائمة حتي وصلت إلي المسجد،‮ ‬الشيء الوحيد الذي يكاد يتمالك بين تلك الأطلال،‮ ‬أعجبني المحراب‮- ‬المتوجه إلي مكه،‮ ‬والذي يقف الإمام أمامه لقيادة الصلاة،‮ ‬كان مزيناً‮ ‬ويبدو أن أحدهم علق فيه جفنة عليها أكواب ملونة وبعض القطع النقدية‮. ‬لم أكن أعرف حينها،‮ ‬ولكني اكتشفت فيما بعد إنه أمر متعلق بنوع من أنواع السحر،‮ ‬واصلت فحصي لذلك المكان الرائع،‮ ‬واكتشفت أرففاً‮ ‬يبدو أنها تحوي نسخاً‮ ‬من القرآن،‮ ‬وكذلك الجُب القديم والذي كان في زمن قديم يحتوي علي ماء لوضوء المصلين،‮ ‬وفجأة سمعت من يناديني باسمي،‮ ‬لقد كان عبد العزيز،‮ ‬كان يتابعني منذ بعض الوقت،‮ ‬حاملاً‮ ‬مظلته السوداء ليستظل بها في يد وعصاه في اليد الأخري،‮ ‬ولكن صوته كانت تبعثره الريح التي تهب،‮ ‬ونظراً‮ ‬لتعب ساقه لم يتمكن من اللحاق بي في تلك الحارات،‮ ‬عرض عليّ‮ ‬أن أصعد إلي المئذنة،‮ ‬صعدنا نتحسس كل درجة نظراً‮ ‬لتهالكها،‮ ‬وكنا نتحاشي لسعات الزنابير السوداء التي تعشش في الأعمدة الخشبية والتي كما تحكي الحكايات الشرقية،‮ ‬لقد تحولت إلي حامي حمي المكان،‮ ‬وعندما وصلنا في النهاية إلي الشرفة العلوية،‮ ‬نظر عبد العزيز من حوله وهتف‮:‬
‮-‬ماشاء الله‮.‬
وقفتُ‮ ‬مندهشاً،‮ ‬كانت تحت ترقد أقدامنا المدينة الحجرية التي تمتد تحت الشمس الحارقة كما لو كانت مدينة تنبع من الرماد والدخان،‮ ‬وكان البحر هادئاً‮ ‬وثقيلاً،‮ ‬كما لو كان معدناً‮ ‬منصهراً‮ ‬تطفو علي سطحه هياكل السفن الصدئة المتوقفه الي جوار الرصيف‮.‬
حينها،‮ ‬وبصوت جاد وعميق لم يستطع أن يخفي تهدجه اعترف لي عبد العزيز بخليط من العربية والإنجليزية‮:‬
‮-‬كانت هذه المدينة شيء عجيب،‮ ‬بقصورها وبيوتها الرئيسية التي كانت مدهونة بالأبيض وتحيط بها الأعمدة الخشبية التي كانت تأتي بها السفن الشراعية من جاوا‮. ‬فسكان سواكن كانوا حريصين علي إخفاء حياتهم المنزلية،‮ ‬ويحمون نساءهم خلف المشربيات،‮ ‬والوصول من البحر كان هدية كبري،‮ ‬ومن الشاطئ وبعد ساعات من العمل كانت رؤية سواكن كمدينة تنبع من السراب،‮ ‬ببيوتها ومساجدها ومآذنها الحجرية البيضاء التي تعكس صورة البحر التركوازية‮. ‬كانت السفن الشراعية تأتي من البعيد عبر المحيط الهندي،‮ ‬وكانت مخازن التجار تمتلئ بالجلود والعاج والأخشاب العطرية والذهب الأفريقي،‮ ‬والأخشاب والبهارات الإندونيسية والعطور والجواهر والحرير الهندي،‮ ‬ولحم القرش من اليمن،‮ ‬والبخور والعنبر من عُمان‮… ‬ولكن في يوم ما قرر الإنجليز نقل الميناء إلي الشمال،‮ ‬إلي بورتسودان،‮ ‬وانتقلت العائلات الكبيرة معهم،‮ ‬وكثيرون‮ ‬غيرهم انتقلوا إلي السعودية وقليلون من قرروا البقاء في سواكن والموت مع المدينة القديمة،‮ ‬قبل عشرين سنة كان ممكناً‮ ‬مشاهدة العمارة القديمة،‮ ‬أما اليوم لم يعد باقياً‮ ‬منها سوي القليل من الجدران التي تقف بحالتها‮. ‬لأن سواكن يا خواجه انهارت ومعها انهارت حقبة مهمة من تاريخنا‮.‬
طارت جماعة كبيرة من طيور البشاروش بإتجاه الشمال،‮ ‬ربما بإتجاه دلتا الدانوب،‮ ‬علي هيئة طيرانها التي تشبه حرف اليو،‮ ‬نظرت إلي عبد العزيز فرأيت عينيه مغرورقتين بالدموع،‮ ‬ظللنا لبعض الوقت في سكون،‮ ‬وفجأة استعاد حيويته وضحك‮:‬
‮-‬هل قصّ‮ ‬عليك ديمتري أسطورة سواكن؟
‮-‬لا‮.‬
قال‮:‬
‮-‬لنهبط أولاً،‮ ‬إن هذه الشمس لحارقة‮.‬
جلسنا في الظل علي كرسي حجري إلي جوار المسجد وبدأ عبد العزيز حكايته‮:‬
‮-‬كان زمان،‮ ‬سيّرت ملكة سبأ أسطولاً‮ ‬يحمل هدايا عظيمة إلي الملك سليمان،‮ ‬شق مياه البحر الأحمر بإتجاه خليج العقبة،‮ ‬وكانت الهدايا تضم سبع أميرات صغيرات عذراوات جمالهن يفوق جمال الشمس،‮ ‬ظلت الرحلة تسير بشكل عادي،‮ ‬ولكن في إحدي الأمسيات هبت الريح بقوة وانطلقت أمواج عاتية كالجبال،‮ ‬وبدأت تتلاعب بالسفن الخفيفة،‮ ‬ومن حسن الحظ أن أحد البحارة المخضرمين كان يعرف مكاناً‮ ‬آمناً‮ ‬كمحمية طبيعية،‮ ‬وكان المكان الوحيد الذي يمكن اللجوء إليه‮. ‬وبعد صعوبة شديدة وصلوا إلي ذلك الميناء،‮ ‬وظلوا هناك لسبعة أيام بلياليهم إلي أن هدأت المياه‮. ‬وبعدها واصلوا الرحلة ووصلت الهدايا العظيمة إلي القدس‮. ‬ولكن اليهود اكتشفوا‮- ‬توقف للحظات‮- ‬أن الفتيات العذراوات كن حوامل،‮ ‬واعترفت الفتيات بالذنب ولكنهن عللن حملهن بإنه في ذلك المكان كان هناك جني رهيب اسمه سواكن،‮ ‬أجبرهن علي مضاجعته،‮ ‬ومنذ ذلك الوقت أصبح هذا اسم المكان‮.‬
استضافني عبد العزيز في بيته،‮ ‬كان يحب إعداد القهوة القوية،‮ ‬علي الطريقة التركية،‮ “‬قهوة مظبوط‮”‬،‮ ‬قليلة السكر،‮ ‬مختلطة بالهيل،‮ ‬بعد أن استعدنا قوتنا بعد النزهة القاسية تحت الشمس الحارقة،‮ ‬وبينما كنا ننتظر مائدة الطعام،‮ ‬عرض عليّ‮ ‬صوراً‮ ‬قديمة لسواكن،‮ ‬وفجأة انزلقت لوحة،‮ ‬وقعت علي الأرض‮. ‬هممت بالتقاطها وفعل عبد العزيز الأمر نفسه،‮ ‬ولسوء الحظ تصادمت رؤوسنا،‮ ‬وبعد بضع ثوان من الدوار،‮ ‬ورغم بشرته المحترقة أمكنني أن أري بوضوح كيف كان يبتسم،‮ ‬كانت تلك اللوحة مرسوما عليها أعمدة متوجة،‮ ‬وفي أعماقها صورة للقاهرة بقبابها ومآذنها في لحظة‮ ‬غروب الشمس،‮ ‬لمحت في إشاراته علامة علي المكر وهو يرفع إصبعه إلي شفتيه ويهمس هس،‮ ‬حتي لا يلفت نظر ابن أخيه الذي دخل في تلك اللحظة،‮ ‬يحمل جفنة وإبريق ماء ورد لنغسل أيدينا قبل أن نقبل علي المائدة العامرة‮.‬
جلسنا علي الأرض علي حصير حول الطبلية التي وضع عليها ابن أخيه سلطانية وصينية معدنية كبيرة مزينة بالزهور وعندما كشفها بشكل مسرحي ليبين لنا طبيخاً‮ ‬من لحم الضأن والبامية‮. ‬وفي طبق آخر منفصل كان يتصاعد دخان عن أرز مثير للشهية،‮ ‬ووضع أيضاً‮ ‬عدة أرغفة ساخنة وطبقاً‮ ‬صغيراً‮ ‬من الشطة المصنوعة علي هيئة صلصة،‮ ‬إضافة إلي طبق من التمر‮.‬
بعد أداء الطقس الديني المبدئي والبسملة بدأت كما تشير العادات والتقاليد أن ألتقط الأرز لأضعه في فمي مخلوطاً‮ ‬بالخضر المطبوخة،‮ ‬بعدها،‮ ‬بعد أن أشار لي عبد العزيز هجمت علي ذلك الطعام الرائع،‮ ‬وأطلقت صيحات إعجاب وكما اعتادوا في الشرق أكلنا بسرعة وفي صمت،‮ ‬لأن ساعة تبادل الحديث تأتي في النهاية،‮ ‬عندما يقدمون الشاي‮.‬
بعد أن انتهت ساعة الطعام،‮ ‬فالعرب لا يشربون أبداً‮ ‬أثناء الأكل،‮ ‬قدم لنا ابن أخيه الماء البارد من الإبريق الفخاري في أكواب من الألومنيوم وحينها نطق عبد العزيز‮:‬
‮-‬الحمد لله‮.‬
بحلول المساء،‮ ‬بحثنا عن نسمة هواء،‮ ‬ذهبنا عبد العزيز وأنا للتنزه بقرب الشاطئ‮. ‬حدثني عن مدينة مكة المكرمة،‮ ‬حيث حج إليها مرتين ولا يزال يأمل في الحج للمرة الثالثة،‮ ‬لأنه يملك القدرة علي ذلك،‮ ‬رغم عمره المتقدم،‮ ‬فإنه لا يزال يشعر أنه قوي وبصحة جيدة،‮ ‬حكي لي إنه خلال زياراته المقدسة طلبوا منه أن يأتي بزجاجة مليئة بماء زمزم،‮ ‬لأنها تمنح البركة،‮ ‬شرح لي إنه خلال رحلات الحج السنوية،‮ ‬يذهب إلي هناك أناس من جميع أنحاء العالم،‮ ‬من البلاد العربية والهند وإندونيسيا والصين وحتي مسلمي أوروبا وأمريكا،‮ ‬وسألني عن عدد المسلمين في إسبانيا،‮ ‬ولم تكن هذه المرة الأولي التي يسألونني فيه هذا السؤال،‮ ‬وكانت دائماً‮ ‬مفاجأة محدثي عندما أقول لهم إنهم ليسوا بالكثير،‮ ‬لا يتعدون عدة آلاف معظمهم من المغرب وبعض المتحولين إلي الإسلام،‮ ‬وحتي عبد العزيز لم يكن مصدقاً‮ ‬ما أقول،‮ ‬كيف أن البلد الوريث للأندلس وبلد ابن رشد وابن عربي وابن حزم وبلد‮ ‬غرناطة وقرطبة به هذا العدد القليل من المسلمين؟
قال عبد العزيز‮:‬
‮-‬بلد تعايش فيه الإسلام واليهودية والمسيحية ديانات أهل الكتاب بأمان تحت رايته دائماً،‮ ‬وكانت لهم مكانة خاصة وإن كانوا يدفعون الذمية،‮ ‬عشر ما يكسبون تماماً‮ ‬كالمسلمين الذين كان يجب عليهم دفع العشرية مما يكسبون إلي المحتاجين‮.‬
ظللنا لبضع لحظات أمام البحر،‮ ‬إلي أن هبت علينا نسمة فجائية مختلطة بدقات طبول وزغاريد نساء،‮ ‬علامة علي إنهم يقيمون عرساً‮ ‬في مكان ما،‮ ‬تبادلنا النظرات دون أن تكون هناك حاجة إلي تبادل الحديث،‮ ‬قررنا الاقتراب من مكان الفرح‮.‬
كان العرس في ساحة خالية خارج المدينة،‮ ‬وعلي نغمات الطبول والسمسمية،‮ ‬آلة وترية من خمسة أوتار،‮ ‬كما لو كانت آلة فرعونية،‮ ‬كان هناك مطرب بصوت يترنم مبحوح،‮ ‬وبعض الفتيات في سن الزواج مغطاة أجسادهن بملابس مزركشة متعددة الألوان من الرأس حتي أخمص القدمين‮. ‬يرقصن بإبراز النهدين باهتزازات عنيفة من عند الكتفين ويلقين الجسد إلي الخلف،‮ ‬وبينما أردافهن تهتز كمؤخرة الحمامات‮. ‬وفجأة دخل حلبة الرقص مجموعة من الشباب بجلابيبهم وعمائمهم البيضاء وأحاطوا بهن مشيرين إليهن بأصابعهم،‮ ‬بينما يصدرون عن أفواههم نصف المفتوحة أصواتاً‮ ‬تشبه‮ “‬تستس‮”‬،‮ ‬وكل فتي يختار شريكته وتتحرك كل فتاة مع فتاها في خطوات قصيرة،‮ ‬يبحث كل منهما عن الآخرين،‮ ‬يقتربون ويتباعدون في وقت واحد،‮ ‬مقلدين تناغي الحمام،‮ ‬كنا عبد العزيز وأنا نراقب تلك الرقصة المدهشة دون أن نفرض حضورنا عليهم،‮ ‬ولكنهم انتبهوا في النهاية لوجودنا،‮ ‬وإن تجاهلنا بعضهم،‮ ‬وكان علينا أن نقبل بالجلوس علي بعض الكراسي في الصف الأمامي،‮ ‬فقد كان هو سلطة حقيقية هناك،‮ ‬وكان الناس يحيونه ويقتربون لتقبيل يده‮.‬
النسيم،‮ ‬الذي بدأ يهب،‮ ‬كان يجعل الحر الرهيب القاسي محتملاً‮ ‬علي ذلك الشاطئ،‮ ‬والذي يعتبر الأكثر حرارة في العالم،‮ ‬ويأتي الهواء من وقت لآخر بنسمات محمّلة بالبخور،‮ ‬الممزوج برائحة الشيش كباب الضأن،‮ ‬المتبل بمزيج من البهارات الحريفة التي تتحول علي الشواية إلي سحابة من الدخان‮.‬
اقترب رجل أعور صغير الحجم وفضولي،‮ ‬يحمل نارجيلة وجلس تحت أقدامنا،‮ ‬رفض عبد العزيز النارجيلة بحزم رقيق،‮ ‬أما أنا فقد قبلت الدعوة،‮ ‬وضع القادم الجديد علي حجر النارجيلة بعض قطع الفحم النارية،‮ ‬الذي كان يحمل مزيجاً‮ ‬من المعسل وبعض الروائح المعطرة،‮ ‬سحب نفساً‮ ‬من مبسم الخرطوم حتي بدأ وكأن النارجيلة قد كتمت أنفاسه ومر الدخان عبر الماء محدثاً‮ ‬ضجيجاً‮ ‬وفقاعات،‮ ‬بعد لحظات،‮ ‬أخرج من فمه حلقتين من الدخان الكثيف اللذيذ،‮ ‬تاهتا في عتمة المساء،‮ ‬ثم حدّق فيّ‮ ‬بتركيز قبل أن يطلق قهقهة متحدية،‮ ‬كما لو كان يقول لي‮: “‬والآن الدور عليك‮”‬،‮ ‬ولكن قبل أن يقدم لي المبسم أخرج من جيب جلبابه قطعة بلاستيكية ووضعها في أعلي فم المبسم،‮ ‬الذي كان مكوناً‮ ‬من ماسورة معدنية مفتوحة الجوانب حتي تترك مجالاً‮ ‬للهواء للخروج ولا تنطفئ قطع الفحم المشتعلة‮. ‬بعدها‮ ‬غمز لي بعينه الوحيدة ثم ابتعد هارباً‮:‬
‮-‬فرصة سعيدة‮.‬
كانت تحية‮ ‬غير دينية يقولها بعض المسلمين عندما يريدون التلطف مع نصراني أو متنصرين‮.‬

من أعمال جوردي إستيفا المصورة

سحبت نفسين فانتشرت في جسدي حالة من الراحة الساخنة،‮ ‬انتهزت الفرصة حينها لأسحب نفسا طويلاً‮ ‬من النارجيلة فهاجمتني نوبة كحة متواصلة،‮ ‬وبدأت رأسي تدور،‮ ‬أمر عبد العزيز بأن يأتوني بكوب ماء،‮ ‬وطلب مني أن أشربه في رشفات صغيرة‮. ‬عاد النسيم إلي الهبوب فيما كانت في وسط الحلقة تتراقص الفتيات مجدداً‮ ‬رقصتهن القديمة‮. ‬أمسكت بالنارجيلة من جديد وسحبت نفساً‮ ‬بقوة،‮ ‬شعرت كيف أن ذلك الدخان المعسل يخنق رئتي‮. ‬سحبت ثلاثة أو أربعة أنفاس أخري،‮ ‬وفجأة‮ ‬غابت الدنيا ودون أن أعرف كيف،‮ ‬وجدت نفسي أسبح في نفق من الضوء الأبيض المائل إلي الزرقة،‮ ‬وشيئاً‮ ‬فشيئاً‮ ‬بدأت أسمع أصواتاً‮ ‬تتباين شيئاً‮ ‬فشيئاً‮ ‬إلي أن تبينت من بينها صوت صديقي،‮ ‬حينها اختفي ذلك الضوء ووجدت في مواجهتي وجه صديقي عبد العزيز المنزعج،‮ ‬الذي كان يرش الماء علي جبهتي،‮ ‬بعدها بثوان صرخت بين زغاريد النساء‮:‬
‮-‬عبد العزيز؟ ما الذي حدث؟
‮-‬هل تريدنا أن نذهب؟
‮-‬أوه،‮ ‬لا،‮ ‬أشعر الآن بتحسن،‮ ‬هذه قوية أكثر مما يجب‮- ‬قلت مشيرا إلي النارجيلة‮- ‬أردت أن أتبرد قليلاً،‮ ‬ولكن حقيقة لا تنزعج،‮ ‬سوف أستعيد حالتي خلال دقائق‮.‬
جاء إلينا مجموعة من الصبية بطبق من الأحشاء المُتبلة بالشطة والليمون،‮ ‬إنها أكلة معتبرة من أطايب الطعام ولا تقدم إلا للضيوف ذوي المقام الرفيع،‮ ‬بعدها،‮ ‬دعتني إحدي النساء للرقص،‮ ‬مما أثار ضحكات الفتيات،‮ ‬وتلك السودانيات بملابسهن الواسعة المزركشة الألوان،‮ ‬يبدو إنهن أكثر تحرراً‮ ‬وسعادة عن‮ ‬غيرهن من نساء العرب،‮ ‬في كل حركة لهن يطلقن نسمة من العطور الفواحة،‮ ‬وشرح لي عبد العزيز إنه بعد الحمّام،‮ ‬وبعد ليلة الحنة ونتف شعر الجسد بالحلاوة،‮ ‬المكونة من مزيج من العسل والليمون،‮ ‬يجلسن عاريات في وسط‮ ‬غيمة من البخور الناتج عن احتراق مزيج من البخور والأخشاب العطرية قبل تغطيتهن ببطانية حتي تتداخل الروائح بجميع أجزاء أجسادهن‮.‬
كنت سعيداً‮ ‬رغم إنني كنت أعاني من تطرفي والدوار لا يزال يلعب برأسي،‮ ‬وأصابتني الموسيقي بالصمم‮. ‬وشعرت بالحنين إلي مكان هادئ فعرضت علي صديقي العودة إلي بيته في جولة نمر خلالها بالقرب من البحر
في البعيد،‮ ‬في ليلة بلا قمر،‮ ‬كانت ترتفع بقايا المدينة القديمة كعملاق منحوت في النسيان،‮ ‬بدا عبد العزيز كما لو كان يهمهم بشيء،‮ ‬لاحظت إنه يريد أن يقول لي شيئاً‮ ‬لكنه كان متردداً،‮ ‬كما لو كان لا يجرؤ،‮ ‬وأخيراً‮ ‬انطلق‮:‬
‮-‬قلت لك إنني أود أن أحج للمرة الأخيرة،‮ ‬ولكني أود أيضاً‮ ‬أن أعانق شقيقي في طريقي،‮ ‬فهو يعيش بالقرب من مكة،‮ ‬في اليمن،‮ ‬عرفت أخباره من خلال حسين شقيقنا الأصغر،‮ ‬الذي يعيش في دبي،‮ ‬يا خواجه،‮ ‬لديّ‮ ‬رغبة للسفر إلي هناك،‮ ‬ولكني لست قادراً‮ ‬علي أن أسافر وحدي،‮ ‬هل تريد الذهاب إلي اليمن؟ هل تقبل أن تكون رفيقاً‮ ‬لهذا الهرم لبضعة أيام؟ بعدها أسافر أنا إلي السعودية وأنت تواصل طريقك،‮ ‬وأيضاً‮ ‬يمكنني أن أقدمك للشيخ عباس،‮ ‬قريب لي متخصص في دراسة موضوعات تهمك أنت،‮ ‬وُلِد في ميناء المكلا،‮ ‬في اليمن الجنوبي،‮ ‬وإن كان يسكن اليوم في صنعاء،‮ ‬إنني هرم وإن لم أذهب الآن لرؤية شقيقي،‮ ‬ربما يكون الوقت قد فات،‮ ‬فكر في الأمر‮.‬
رفع عبد العزيز عينيه نحو الأفق ليستطلع الوقت من خلال مواضع النجوم،‮ ‬وساعة اقتراب موعد الصلاة،‮ ‬استأذن قبل أن يبتعد لبضعة أمتار ليتيمم بالرمال،‮ ‬لأن ماء البحر يعتبر‮ ‬غير طاهر،‮ ‬سار باتجاه بعض الصخور،‮ ‬استدرت لأري كيف يولي صديقي وجهه نحو مكة واضطجعت علي الشاطئ‮.‬
كنت حسن الحظ حتي الآن،‮ ‬فتطلعاتي لم تبتعد كثيراً‮ ‬عن تلك الشواطئ البعيدة،‮ ‬وبشكل خاص في وقت مثل نهاية السبعينيات،‮ ‬عندما لم تكن هناك أطباق لالتقاط الفضائيات،‮ ‬ولا الانترنت،‮ ‬ولا بالطبع الحواسب الشخصية،‮ ‬ولا حتي الفاكسات التي تبدو لنا اليوم أداة متخلفة،‮ ‬ولم يكن التليفزيون قد وصل بعد،‮ ‬كان كل شيء يواصل إيقاعه البطيء والتقليدي والذي يجعل هضم التقدم التكنولوجي يتم بشكل طبيعي ودون قطيعة مع الماضي،‮ ‬يتجمع الناس ليلاً‮ ‬حول براد شاي ليستمعوا إلي الحكايات‮. ‬وأيضاً‮ ‬للاستماع إلي أجهزة الراديو كاسيت وبعيداً‮ ‬عن الإيقاعات الغريبة،‮ ‬فكانوا لا يفعلون أكثر من نشر موسيقاهم الخاصة‮: ‬عندما يكون هناك عرس أو مناسبة تتطلب العزف والغناء،‮ ‬كانت تظهر الأجهزة الكبيرة الملفوفة في قماش ذي ألوان مبهرجة،‮ ‬لتسجيل الموضوعات التي سرعان ما تصبح شعبية بعد ذلك‮.‬
كان يُسمع في الأفق عواء كلاب،‮ ‬إلي أن انتهي بعواء وحيد وطويل،‮ ‬كما لو كانوا يرفضون الخضوع لصمت طويل،‮ ‬يعرفون إنه لا بد قادم،‮ ‬وهكذا كان،‮ ‬وحتي موسيقي العرس صمتت ولم يعد هناك سوي سماع صوت الماء المقترب من رمال الشاطئ،‮ ‬ليسمع منه صوت مياه البحر الهادئة بدون أمواج‮. ‬السفر مع عبد العزيز،‮ ‬كان يبدو تجربة فريدة لا يمكن أن تنسي أبداً‮.‬
اعتدلت،‮ ‬وبدا في البعيد،‮ ‬صديقي مستمراً‮ ‬في ركوعه وسجوده بإتجاه مكة المدينة المقدسة،‮ ‬خلعت ملابسي وغمرت جسدي في الماء الدافئ القاتم،‮ ‬لأكتشف بعدها إنني محاط بنقاط فسفورية لامعة ومدهشة،‮ ‬بقيت ساكناً،‮ ‬كنت أسبح ووجهي إلي أعلي إلي أن مر بجانبي شيء بارد احتك بساقي،‮ ‬خرجت من الماء وتمددت علي الرمال لأتأمل سماء مليئة بالنجوم البعيدة،‮ ‬ولكن سرعان ما اكتشفت أن بعضها هي نجوم البحر المتوسط،‮ ‬ولكنها كانت في مواضع أخري،‮ ‬وكانت الزهرة في الأفق واضحة جداً،‮ ‬والنجوم ترسم شكل العقرب من المقدمة إلي الجسد وحتي الذنب‮.‬
تركت نفسي تسبح مع النجوم،‮ ‬داهمني إحساس بإنني تحت قبة ضخمة‮. ‬وبدأ كل شيء يدور وشعرت بحالة من الدوار العكسي،‮ ‬كما لو كانت قوة الجاذبية،‮ ‬بدلاً‮ ‬من جذبي نحو الأرض،‮ ‬كانت تدفعني باتجاه اللانهائي،‮ ‬أغلقت عيني‮. ‬وفجأة،‮ ‬عَبَرت نجمة الأفق البعيد،‮ ‬وتركت أثراً‮ ‬من النار‮ ‬لبضع ثوان‮. ‬تري ما الذي ينتظرني علي الشاطئ الآخر من البحر الأحمر؟

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات