شِعْرِيَّةُ الكِيمْيَاءِ فِي دِيوانِ “أكَلْتُ ثَلَاثَ سَمَكَاتٍ وَغَلَبَنِي الْنَّوْمُ للشَّاعِرِ عِصَامُ أبُوزِيدٍ

09:15 صباحًا الجمعة 1 أغسطس 2014
د. أحمد الصغير

د. أحمد الصغير

ناقد، أستاذ مساعد الأدب العربي بكلية الإلهيات ــ تركيا

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

صَدَرَ للشاعر المصري عصام أبوزيد ديوانه الجديد ” أكلت ثلاث سمكات وغلبني النوم ” عن دار روافد في القاهرة 2013 ، وهو الديوان الثالث للشاعر بعد غياب طويل عن الشعر اقترب من خمسة عشر عاما ؛ متأملا شعرية الحياة ، وكأن الحياة قصيدة لم تكتب بعد ، كان عصام أبوزيد يخلق أساطيره الشعرية الخاصة به التي تولد عنها ديوانه المخاتل ” أكلت ثلاث سمكات وغلبني النوم” لأن البنية العميقة للعنوان تخفي تحتها تأويلات حياتية مفتوحة ، ليس من بينها المباشرة الفنية التي توهمنا أن الشاعر يعشق الأسماك والنوم مثلا.

غلاف الديوان

وعليه فشعرية الكيمياء ، هي درجة من درجات التلقي تصنعها قصيدة النثر التي يكتبها عصام أبوزيد ( تحديدا) ، ولن تتحقق هذه الظاهرة لدى الشاعر إلا عندما يتخلص من وصفاته الشعرية ( التيك آوي) في نصوصه ، لأن النص الشعري لدى ” أبوزيد” في لحظة تكوينه ، يكون محاطا بمجموعة من العناصر العضوية التي تتحد فيما بينها من المواد الطبيعية والفلزات اللغوية محلية التكوين، وأكسجين وهيدروجين ،وثاني أكسيد الكربون الذي يغطى قصص الحب في قريتنا الصغيرة الأخيضر ؛ لينتج نصًا شعريا ممزوجا بكمياء اللغة ، فاللغة كيمياء الشعر ، وبعدها تأتي العناصر والمكونات الأخرى . برغم أهميتها، بحيث تصبح القصيدة ، كأنها كائن ينبض بالحياة ، متفاعلا مع أحاسيس المتلقي وهواجسه.، ثانيا، وهو الأهم في ظنِّي أن الشاعر( أبوزيد) يقبض على مُدْيَةً حادة ؛ لبتر الزوائد المشهدية في قصيدة النثر، كي يخرج أجمل ما في حياته من محبة لذات إنسانية تعيش فينا نحن القراء ، وهو ولايعنيه مَنْ أكون أنا، أو حتَّى أنت ؟؟ ، بل اهتم بها ، هي وحدها تلك السفينة المقيمة في الرحيل اللانهائي ، القصيدة ، ولاشيء يبقى سواها .
• الغلاف بوصفه نصا :
النص البصري الأول لدى عصام أبوزيد، وهو الغلاف ، وتضمن اسم الشاعر من اليمين وعنوان الديوان ، وكلمة شعر، وصورة لرجل يهم بتقبيل يد امرأة ، أظنها الحياة ، فتبدي خجلا لطيفا ، وتحت العنوان سمكة بلون أصفر باهت قليلا . هذا هو الغلاف الأمامي أما الخلفي فحمل صورة للشاعر وتحتها نص شعري قصير مجتزأ من نص طويل داخل الديوان .
يمثل الغلاف في نظري نصا محيطا بالنص الكلي ؛لأنه يخاطب حاسة البصر لدى الإنسان ، ويوجه آفاق التلقي لديه ، كما أنه يمعن في المراوغة وتشتت الدلالة المنطقية للديوان ، ويطرح أسئلة على المتلقي منها على سبيل المثال : ما العلاقة بين الديوان والعنوان ؟ ماذا يعني الشاعر في قوله : ” أكلت ثلاث سمكات وغلبني النوم ” ؟
يبدو لي الأمر غامضا ومراوغا أحيانا ، وفي ظني أن السمكات رمز لأسطورة مصرية فرعونية قديمة ، توميء إلى الخصوبة المتجددة في الشخصية المصرية الممزوجة بأبداننا المشوهة .
فالسمكة رمز مسيحي قديم ، وهي من الرموز التي كان يستخدمها المسيحييون الأوائل بوصفها شعارا سريا؛ ليتعرفوا على بعضهم دون التعرض للمضايقات من الوثنيين ، قبل اعتماد المسيحية ديانة للامبراطورية الرومانية ، كما تشير المصادر الفرعونية القديمة إلى أن السمكة كانت رمزا للبعث ، وإعادة الحياة كما في سمكة قرش البياض latesfish ، وهي من أنواع الأسماك النيلية المعروفة في مصر منذ قديم الزمان ، وقد وجدت هذه الأسماك محنطة في معبد “إسنا بصعيد مصر” حيث قُدِّسَتْ هناك ، وسميت إسنا باليونانية (أتوبوليس ) أي مدينة ، وكان الفراعنه يعبدون الأسماك الكبيرة , و هي عندهم رمز الحياة المتجددة , و كان الفسيخ المملح عندهم، رمز الموت والتحنيط المقدس ، ويمكن لنا الخروج بدلالة مهمة من خلال استقراء عنوان الديوان ، مفادها أن نص عصام من النصوص المتجددة التي تترجم همسات الإنسانية في تشكلها الأول ، ارتبط بوعي شديد بحياة المصريين القدامي بخاصة والإنسانية الخالصة ، هذه الحياة التى خلدها الحب في التاريخ الإنساني العميق . وهناك علاقة قوية بين الأسماك والنوم/ التجدد والخلود ، فالنوم خلود ناتج عن الخصوبة واستمرار الحياة .
• البناء الداخلي / النص الكلي .
يطرح الديوان ثلاثة وعشرين نصا شعريا متوازنا نسبيا من حيث المدى الزمني للقصيدة داخل الفضاء النصي ( البياض )، جاءت لغة عصام دافئة وبسيطة، كأنها جلباب للفقراء الحالمين دائما بمحبوبة لن تجيءأبدا، أشعر بها ، وهي تتجرد من مكياجاتها الاستعارية، والمجازية وزخرفتها اللفظية وزركشات الإيقاع ـ أشعر بها أيضا ،وهي تغمز لي من خلال مفرداتها التي تشبهني كثيرا ، وأصرخ فىَّ نعم نعم !! إنها هي إنها أنا !! هذا هو التوصيف الدقيق لحالى أثناء قراءة قصيدة النثر التي يكتبها عصام أبوزيد ، قصيدة عادية جدا ، وميزتها تكمن في براءتها التي تطل برأسها على أعين القاريء وجوانحه التي ترقص فرحا لحظة نظرة الحبيب ..

الشاعر عصام أبو زيد

على سبيل المثال يقول أبوزيد : ” أحبُ أن تكونَ في غرفتي صالةُ ديسكو
وأحبُ أن يكونَ في الغرفةِ سلمٌ كلما انفعلتُ رفعني إلى أعلى لأشقَ السقفَ وفي الفضاءِ أطير.. ثم أشتاقُ إلى الغرفةِ فأعودُ إليها.
وأحبُ أن تكونَ قربَ السريرِ ساقيةٌ حمراءُ تنثرُ قطراتِ ضوءٍ على شعري الأسودِ الفاحمِ الغزير.. الأفكارُ كلها مرتبطةٌ بخصيلاتِ شعري.. لا شئَ في رأسي.. رأسي فارغةٌ تماماً.. أفكرُ طوالَ الوقتِ خارجَ رأسي.. وفارقتني حبيبتي “
.
انشغل أبوزيد في نصه الفائت بنفسه ، فهو دائما، يحدثنا عن حبيبته وعن نفسه أيضا ، عن الأشياء التي يحبها ،عن أحلامه هو، تلك الأحلام التي ينزف قلبه دون أـن يبوح بكلمة واحدة ، جاء تكرار مفرد (أحب ) كثيرا داخل القصيدة ليمنحها ألفة غير طبيعية في بنية النص فالمفردة تصنع بينها وبين قريباتها علاقة محبة تسهم في إنتاج أحلام كثيرة يبحث عنها النص نفسه ، (أحبُ أن تكونَ في غرفتي صالةُ ديسكو) تقوم الجملة بوظيفتها الشعرية البسيطة ، تمنح معنى ، ودلالات كثيرة ، وتأويلات لا نهائية لها ، وكأن العالم كله في غرفة الذات الشاعرة تحول إلى صالة ديسكو ، لتعلن خلاصها من السكون ، ومعراجها في محراب الديسكو ،العالم الصاخب بالمحبة التائهة في قلوبنا التي نبحث عنها حين نتذكرها مساء ، لنمسح قهرنا النهاري على صدرها الساخن بالدموع ، يمتلك الشاعر عصام أبوزيد مشاهد عادية لينتج منها أروقة من الشعر العادي أيضا الذي تتلبسه الجنيات كثيرا ، معبرا عن طموحاتها البسيطة التي تبحث عنها من حين لآخر فيقول في قصيدة بعنوان أشياء صغيرة لأجلها أحبك :
أشياءٌ صغيرةٌ لأجلِها أحبُكِ
أحبُكِ وأنا أحملُ جيتاريَ المكسور
أحبُكِ لأني لا أجيدُ البرتغاليةَ مثلاً
أحبُكِ وأنا أرى شعرَ رأسي يتجعدُ

يسقط النص كل المجازات القديمة والحديثة معا ، يحدد لنفسه مسافة واسعة من الحياة أظنها أكبر من المجازات التقليدية التي تعلمناها في الشعر العربي القديم وحتى صلاح عبدالصبور ، فمعظم آلامنا تبدأ من تهميشنا للأشياء الصغيرة في حياتنا الشخصية مثلا ، هذه الأشياء التي نعلقها على جدران بيوتنا المغطاة بالغبار الضرير ، لنتركها مهملة لا هدف لها ، بل يمكن أن تجد مصيرها في صناديق القمامة يوما ما !! في ظني أن الشاعر عصام أبوزيد أدرك ماهيتها ، ليبحث عن طريقة جديدة للحب أو شكل من شكوله التي لم تطرحها ذاكرة الشعر من قبل ، من خلال العودة إلى الرحم الأولى التي خرج منها الحب ، وهي الذات الإنسانية الخالصة الملغزة التي تحمل الكثيرمن الجمال اللامرئي اللانهائي أيضا، متكئا على الجيتار المكسور الذي يغني للحبيبة رغم إعاقته عن العزف ، عن الحب داخل الأعين الذي لم ينهزم أمام جهل الذات باللغة البرتغالية مثلا ، عن محبة الذات الشاعرة لنفسها لحظة ميلاد رأسها المتجعدة ، جل هذه الأشياء كانت مبررا للحب وللكتابة .
كيمياء الهدم
مصطلح كيمياء الهدم من المصطلحات النقدية التي أحاول أن أجتهد في ترسيخها في النقد الشعري ، ولا أدعي أنني اخترعت سبقا نقديا ، بل هو سيظل محض اجتهاد نقدي يحتاج للنظر والتحرير البلاغي والنقدي ، وعليه ، فأعني بكمياء الهدم تحديدا انهيار درجات التلقي التي كانت قد ترسخت في وجدان المتلقي من قبل ، وفجأة ، أحس بانهيار ملامح المعنى بين يديه ، واختلطت أفكاره ومشاعره .
في النص الأول الذي كتبه الشاعرفي صدر الديوان ” أكلت ثلاث سمكات وغلبني النوم ”
لاحظتُ أن الذات الشاعرة تهدم قناعات قديمة كانت تعتقد في جدواها الحياتية ،وربما كان النص مراوغا أيضا فيقول أبوزيد :
” لا تحبها كثيراً.. لا تحبها
خُذْ من يديها عطرَ أيامِ السعادةِ
واهجرها سريعاً
لا وقتَ في الدنيا لانتظارِ سفينةٍ نصف ركابِها غرقى
. ”
استخدم الشاعر أسلوبا بلاغيا تقليديا ،( لا تحبها كثيرا ) ، و كان منذ قليل ( النص السابق ) يحدثنا عن الحب في صورته البكر الأولى ، داخل فضاء الديوان لاحظتُ ذلك من خلال المعايشة النصية التي أرتكز عليها في القراءة ، ومن ثم فيحمل النص السابق مفارقة مشهدية مفادها أن الذات الشاعرة تحمل الكثير من التناقض الإنساني ، وهذه طبيعة الشخوص الذين يحملون أكثر من وجه في الواقع ، فتنتقل الذات من عشقها للآخر في مفهومه العادي إلى العشق الأنوي( عشق الأنا للأنا ) ، الذي يمقته الواقع ، فقيمة الذات في عشقها للآخر الحي ( الأنا للأخر )، التي تدعي زيفا أنها تحبه ، ” فقط خذ من يديها عطر السعادة واهجرها سريعا ” ، هذه العبارة القصيرة هي مفتاح النص الكلي في حقيقة الأمر ، لأن العشق الأنوي ، سيطر على ملذات الذات وطروحاتها الدفينة . ينتهي النص ، بقوله : ” لاوقت في الدنيا لانتظار سفينة نصف ركابها غرقى ” هل كان النص يعني أن سفينة الحب نصف ركابها من العشاق غرقى ؟؟ !! أم هي محض صورة مغلفة بالتشاؤم المرير ، والرؤية السوداوية لحالات الحب في تراثنا الشعري القديم ، وواقعنا الراهن . تتجلى كيمياء الهدم في نصوص عصام أبوزيد بشكل كبير من خلال إقامة عوالمَ بسيطة تخاطب الحالمين من الفقراء والمهمشين في حيواتهم ، إلى الرغبة في هدم تلك العوالم في غمضة عين ، لحظة قيامه بجذب الخيط الرفيع الذي يتدلى من سقف غرفته في هذا العالم . فيقول : “
كنتُ أمتلكُ فندقاً في الشارعِ القريبِ من الصحراء، أو هكذا كنتُ أعتقد.. دخلتُ غرفتي وفوقَ السريرِ ارتميتُ.. كانَ السقفُ أبيض كما تركتُهُ، والخيطُ الرفيعُ الذي يطوحه الهواءُ يتدلي من السقف.. هذا الخيطُ لا يراه سواي، لكنه حقيقيٌّ وواقعي، وأحياناً كنتُ أسحبه بيدي وأهزه هزَّاً عنيفاً فيترنحُ الفندقُ بالكاملِ ويتناثرُ مع الريح.. كانَ مشهدُ نزلاء الفندق وهم يتطايرون الواحد تلو الآخر يجعلني أموت.. أموتُ بسببِ جرعةٍ زائدةٍ من الضحك.
” . يوميء النص نفسه من خلال كيمياء الهدم لحظة التلقي ،إلى لعبة قصيدة النثر من خلال إقامة العوالم وهدمها في الحظة نفسها ، كأن الشاعر أحب هذه اللعبة الحمقاء ، وواصل المسير فيها ، فمرة يحدثنا عن الحب ومرة يحدثنا عن اللاحب ، مرة مقيما عوالم فارغة من الأشياء الكبيرة ، ليحتفي النص بأقل الأشياء ، وأكثرها عمقا وغورا في النفس البشرية ، هذه هي لعبة قصيدة النثر المصرية التي أفلح عصام أبوزيد في اقتناصها والجلوس عليها ، ليخرج لنا ديوانه الجديد ( أكلت ثلاث سمكات وغلبني النوم ) .. شكرا لك ياعصام أبو زيد !! وتحياتي لشعراء قصيدة النثر في مصر.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات