عشاء “هيرمان كوخ” النفسي

05:23 صباحًا الأربعاء 7 مايو 2014
رضوى أشرف

رضوى أشرف

كاتبة ومترجمة من مصر، مدير تحرير (آسيا إن) العربية.

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print
غلاف الرواية

غلاف الرواية

قد لا تكون وجبة العشاء هي الوقت الأمثل لمناقشة كارثة عائلية، لكن في رواية الهولندي هيرمان كوخ “العشاء”، يختلف الأمر تماماً. تدور الرواية خلال عشاء في أحد المطاعم الهولندية الفاخرة بين أخين وزوجاتهم وهم يتناقشون في مشكلة تسبب بها أولادهم. خلال تلك الوجبة المشئومة، يقوم الراوي وأحد الأخين، بتذكر أحداث هامة وذات دلالة عميقة من حياتهم، وحياة أخيه، لنستشف منها الطابع الغريب الذي يسود هذه العائلة.

“العشاء” هي رواية كوخ السادسة والتي تم إصدارها عام 2009، كما سبقتها ست مجموعات قصصية أخرى، ولكنها كانت الطفرة في أعماله. فبجانب ترجمتها إلى أكثر من 21 لغة، فقد أصبحت من أكثر الكتب مبيعاً على قائمة نيويورك، وبعد قرائتها أمكنني معرفة السبب. لا يقدم كوخ رواية مسلية، أو رواية يمكنك أن تتعاطف مع شخصياتها، فقد يحدث العكس تماماً، ينتهي بك الأمر وأنت تمقت كل شخصيات الرواية. هو يقدم رواية نفسية، تغوص في نفسية شخصية تدعي أشياء كثيرة، منها الصحة والسعادة، وتجعلك تتعرف على الكثير مما قد يكمن وراء تلك الأقنعة.

تبدأ الرواية بذهاب بول لومان وزوجته كلير إلى أحد المطاعم الراقية بأمستردام، حيث اتفقا أن يلتقيا بأخيه سيرجي لومان وزوجته بابيت، من أجل تناول العشاء. ويأخذنا بول في جولة تفصيلية منذ لحظة خروجه وكلير من المنزل، ومرورهم بمقهاهم المفضل، حتى النادل الذي يستخدم خنصره في الإشارة إلى أجزاء الأطباق الموضوعة أمامهم. من الواضح أن بول، الذي كان مدرساً سابقاً وتقاعد لأسباب صحية، يرى أنه ليس من هؤلاء الأوروبيين التقليديين البرجوازيين، وبالتأكيد لا يشبه أخيه سيرجي، السياسي الناجح، في شئ.

الجدير بالذكر أن الرواية يتم سرد أحداثها من وجهة نظر بول، وهذا يدفعنا إلى التفكير هل كانت ستختلف إن تم سردها من وجهة نظر أخيه سيرجي، أو من وجهة نظر زوجاتهم بابيت أو كلير؟ فالأحداث تبدأ بالتعقد، عندما يكتشف بول أن هذا ليس عشاءاً عادياً، فها هم قد تجمعوا من أجل مناقشة ما فعله أولادهم، ميشيل وريك. ميشيل، ابن بول، وريك، ابن سيرجي، تورطا في مقتل متشردة في أحد الشوارع وقد تم تصويرهم ليوضع الفيديو على اليوتيوب ليشاهده الملايين من الأشخاص. ورغم أنه أحداً لم يتعرف عليهم، فقد أدرك أهلهم تورطهم بتلك الكارثة.

نعود إلى “وجبة العشاء” فهي المحور الأساسي في هذه الرواية، فيتم تقسيم فصول الرواية حسب مراحل تناول الوجبة التي تبدأ بالمقبلات فالأطباق الرئيسية مروراً بالحلوى وإنتهاءاً بالمهضم. الجدير بالإنتباه هي طريقة بول في إحتقار كل ما قام المطعم بتقديمه ومقارنته على الدوام بطبقه المفضل في ذلك المقهى والذي لا يتجاوز ثمنه ربع ثمن البقشيش في هذا المطعم الفاخر.

أما بالنسبة للقضية الرئيسية في هذه الرواية هي، ما أقصى شئ قد يفعله الأهل من أجل أولادهم، بدافع الحب والخوف؟ هل بإمكانك التعاطف، كقارئ، مع شخص ما يقوم بتبرير فعلة شنيعة قام بها ابنه، كالقتل، بدافع الحب؟ بالطبع لا، وهذا ما يُكسب هذه الرواية تميزها، فها هي تتحدث عن أباء، عدا سيرجي، كلهم يرون أن ذلك كان تهوراً من أطفالهم ولا يجب محاسبتهم على أشياء يراها “الكبار” كجرائم. بالطبع هؤلاء “الأطفال” في السادسة عشر من عمرهم، فهم ليسوا أطفالاً كذلك.

الروائي الهولندي "هيرمان كوخ"

الروائي الهولندي “هيرمان كوخ”

هناك روايات عديدة تناولت هذه الفكرة مثل “We Need to Talk about Kevin” لـ ليونيل شرايفر والتي تتناول صبي شرير وأمه الهادئة، وانعدام وجود شخصية عقلانية أو محبوبة في هذا العمل، وكيف يؤثر العنف على حياة تلك العائلات البرجوازية. روايات أخرى مثل “The Slap” لـ كريستوفر تسولكاس ورواية “What I Did” لـ كريستوفر واكلينغ، وجميعها تتناول إنكشاف كذبة العائلات المتحضرة وما يكمن وراء تلك الأقنعة من وحوش.

قد يبدو من طريقة الراوي بول أن، ميشيل وريك، يمثلان جيل بأكمله وما فعلاه ليس بذلك الفعلة الشنيعة. وإن كان قد توصل لتلك “الفكرة” بضغط من زوجته، فها هو ينتظر ما سوف تقوله ليؤمن عليه، لمجرد رغبته في الإحتفاظ بتلك الصورة التي توهمها لعائلتهم “السعيدة” التي لا تشكو من شئ. ولكن العامل ذا التأثير الأكبر هنا قد يكون: كراهية بول لأخيه سيرجي. فقد كان على إستعداد أن يعارض أي شئ يقوله سيرجي أو يفعله، حتى وإن كان على غير المعتاد، صواباً.

تعود تلك الكراهية لصغرهم على ما يبدو، وبعد إن إتجه بول للتدريس، وتدرج سيرجي في الحياة السياسية حتى أصبح المرشح الأول لنيل رئاسة الوزراء، أصبح بول يكن لسيرجي ضغينة عميقة، يحاول أن يخفيها تحت ستار كراهية أسلوب حياته المتصنع.

تنتهي الرواية بعدم توصلنا إلى شئ مجدي يخص مقتل تلك المتشردة، من المخطئ؟ هل كان خطأها أنها تنام في الشارع كما تقول كلير؟ وكما يدعي بول الإنسانية والرغبة في تحقيق العدالة، هل تحققت العدالة بالنسبة له عند مقتلها؟ فها هو يسخر من أسلوب حياة أخيه الذي يمتلك منزلاً صيفياً في فرنسا ويقوم بتبني طفل من بوركينا فاسو ويصف ذلك “بحركة إعلامية” لكن لا يرى أي غضاضة في أن يقوم ابنه بقتل متشردة تنام في الشارع وحرقها، ووصفه بأنه “حادث”؟ هل كان الأمر سيختلف إن كانت أحداث هذه الرواية تجري في دولة مثل الولايات المتحدة مثلاً؟ أو دولة أوروبية أخرى غير هولندا؟

نرى في هذه الرواية إختلافات وتناقضات كثيرة، ولكنها تؤول في النهاية إلى طابع أراد أن يسم الراوي به الأوروبيين عامة، والهولنديين خاصة، ولكن هل يمكننا أن نثق في كلمات بول تلك؟ فهو رجل كل ما كان يشغل باله بعد أن إكتشف فعلة ابنه، أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه ويسمع ابنه يقول “بابا حبيبي”

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات