رواية “آلام ظهر حادة” للكاتب عبدالغني كرم الله/ الفصل الأول … رحم زجاجي

09:33 صباحًا الثلاثاء 5 أغسطس 2014
عبدالغني كرم الله

عبدالغني كرم الله

كاتب وروائي سوداني

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

(الفصل الأول)

رحم زجاجي

أنا زوج حذاء رجالي، مقاس 42. مشكلتي بدأت مساء الأحد الموافق الأول من ابريل1987 أي قبل ثلاثة أعوام، كنت قبل هذا التاريخ، ممتلئ الوجنات، ولين البطن والظهر، وتمشط شعري سيور جميلة، واقطن فترينة هادئة، في شارع الجمهورية، يحرسني زجاج قوي مصقول من فضول بني آدم وتوقهم لاسترقاقي، ولمس جسمي الناعم.

لا يعكر صفوي، في هذا السجن الزجاجي، سوى ضوء كاشف قوي مسلط نحو وجهي، وورقة سميكة كُتب عليها أنني حديث الوصول إلى هذه الفترينة، إلى هذه الزنزانة، وبحرف  أسود عريض خط سعري، 210 ألف جنيه سوداني، سوق نخاسة، في قلب المدينة، لم يرضي السعر  غروري، لكنه لا يسمح لأصحاب الأرجل الخشنة المتسخة من شرائي، وامتطائي في أعمالهم الشاقة وسعيهم اليومي، الشاق، في سبيل القوت، واستغراقهم أثناء سيرهم في مشاكلهم وكبد العيش، مما يعرضني للانغمار حتى سيوري في البرك والاصطدام بالحصى والبعر وعلب الصلصة، فتلكم الأقدام الكريهة الرائحة لا تقطن إلا هذه الإحياء ذات الأزقة الضيقة المتسخة بالوحل والطلاق والمشاجرات، والحفر، تخلو من التعبيد والتخطيط، لا محال ستنتهك حقي الطبيعي في الأمن والسلامة والحياة.

كل هذا، وأكثر، ناهيك عن الرطوبة التي ستتغلغل في عظامي بفضل عرق أرجلهم المتشققة والتي تحشر بداخلي بلا رحمة أو جوارب، مما يعرضني للترهل والشيخوخة المبكرة، ولن تفلح معها كل محاولات أطباء التجميل، من ماسحي الأحذية في صبغ تجاعيدي، وإبراز مواطن فتنتي، وتزييني لمواعيد غرامية، مع أرجل تمتطي زوج أحذية نسائية، طويلة وضامرة الذيل، وكعب عال، له وقع خاص على الإسفلت يثيرني، كما يثير الأرجل التي تمتطيني.

          طافوا حولي، أكثر من خمس مرات، نمور وفريسة مسالمة، فيهم الأسمر، والأسود، والقمحي، والقبطي والمسلم، والوثني، تعجبت لحاجتهم لي، تفرق سبلهم،  لكن ألم شوكة ، يغشي بني آدم أجمعين، كي أحميهم منه، ما أقرب صفاتهم الفطرية، ما أبعد تصوراتهم.

          لأول مرة أرى مرارة الحزن في عيونهم، بين رغبة في امتطائي، وخلو جيوبهم من سعري الغالي، شعرت بأن بعض قلوب الأمنيات، تناش بسهام الفقر، والعجز، لو جرى روح المسيح في عروقي، لقلت لهم (خذو دمي خمرا، وجسمي لحما، وظهري دابة)، ولكن!، حتى هذا الاستسلام، وتضحيته حرمت منه، فكيف تصل أيديهم إلي، وأنا أسير قلعة زجاجية، ملك رجل أعمال في مدينة الخرطوم، لا اعرفه، ولم أراه من قبل، يقال له رجل أعمال، مالك مصنع المنتجات الجلدية، فأي بؤس هذا، أن لا ترى عدوك، بل لا تعرف سماته وملامحه، فكيف أنال منه؟ وقد لا أراه  حياتي كلها، بل قد أراه ولا أعرفه.

أحدق في سيوري الجميلة، كي أشغل نفسي، عن الحال والمآل، سيور متينة، ملونة، حسبتها شعرا جميلا، مرسلا، اتبختر به في الطرقات والمناسبات، لم اتخيل أبدا،  أنها ستكون حبال شدي، كالوتد لقدم بني آدم، حتى أنت يا سيوري؟ تشدي وثاقي نحو ألد أعدائي، قدم بني آدم؟.

 

          لا أقدر على فتح عيوني على سعتها، نور الكاشفة يجهر عيناي،  زحمة حولي، الحبس الزجاجي، جعلني لا أسمع، ولا أشم، ولا أتذوق، ولا أحس،  فقط أبصر،  فالضوء رغم هوانه، يجتاز قفصي الزجاجي بسهولة فطرية، لص ماهر، لا أثر لثقب في الزجاج، كيف دخل لي؟ بينما توقفت الروائح والأصوات عاجزة عن اقتحام قلعتي، تلف كالجرو حولها، حرمت من الشم، والسمع،  اكتفيت بحاسة وحيدة لتمثل ما يجري حولي!! هي حاسة بصري العزيز، فارس أعزل، يتحسس حالي، ومآلي، شعرت بأن ألف حاسة لا تكفيني، كما يبدو لي من سعة ما أرى،  فأنى لي معرفة نفسي؟، وقدراتي!، وعدوي!، بهذه الحاسة اليتيمة؟، خمس حواس لم تحرس بني آدم، فهو لا يرى وجه ملاك الموت الذي سيستل روحه، ولا الجراثيم التي تفتك به، كما لا يرى الطلقة التي تسرع نحوه رغم أنها أكبر من ثمرة البلح، ولا يملك القدرة على الفرار منها، حتى تغرس في صدره وترديه صريعا، خمس حراس ضعاف على بوابه قلعته، يؤخذ كل حين ومع هذا يحن للخلود!!، وينشده، ويحلم بقضم عشبة جلجامش، والفرار من الموت، لا أدري لم اختارت حواسه هذا الهوان، عن حفظ ذاتها، ديدبان أعمى يجلس على مدخل مملكته، عين وأذن، وأنف وجلد، ولسان, وأنا في حبسي هذا أتوكأ على عصى وحيدة هي بصري.

          نظرت حولي بأسى، عدة مساجين مثلي، عشرات الأحذية تستكين راقدة، ذليلة، في أقبية وزنازين زجاجية، أحذية نسائية، وأحذية رجالية، وأحذية صغيرة للأطفال، ألوان الأحذية الرجالية لا تعدو ثلاث ألوان، أكثرها أسود وبني، وألوان الأحذية النسائية تطال كل لون، حتى الغروب، وزحمة ألوان الفراش، يمكن أن تكون لون حذاء نسائي، سعة شاعرية، لا أدري لم قلصت للأحذية الرجالية، لنا.

أسرني طول كعب الحذاء النسائي، يعلو عند الكعب، ثم ينزلق رشيقا للأمام، كأنه ضفة نهر،  ويجعل من يمتطيه يرقص ويمشي في آن، أنى سار، شعرت بأن  حياتي مشبوبة بالخير، والشر، غموض يلفها، بين وعيد الشوك، ووعد الكعب العالي.

***

 

قبل أن أسمعكم أنين آلامي المبرح، وذلك القدر الذي هوى فيه مصيري، أحب أن أرجع بكم إلى قهقهة طفولتي السعيدة، أيام الحلم، أي قبل أن تنغرس في بطني الأسود القوي أي شوكة حادة أو مسمار، وقبل أن تحشر بداخلي رجل بني آدم وتحطم أسطورة أيماني العميق بذاتي، وبأني غاية في ذاتها، وليس وسيلة قذرة، تحمى وتحرس أرجل بني آدم، بلا مقابل، أو حتى كلمة شكر، بل حين يذكر أسمي عندهم، يعتذر للسامع، وكأنه سمع كلمة نابية، وليس أسمي، وفصلي..

أية طفولة هي!!، إن أعظم كاهن في قبيلة الأحذية يعجز عن تصورها، كنا جلودا حية،  نغطي صفحة الغزال، وبطن البقر وجسم الماعز، جلود تجري وتلعب وتنام وتحس، نلتف حولها كفساتين عرس، ملونة بفطرة ساحرة، رسام عظيم، يخفي أنامله الماهرة دوما،  كنا نرحل ونركض، دون أن نداس، أو نسترق، غاية كنا، وموطن فرح، فقد كنت أغطي صفحة بطن بقرة جميلة، من أبقار الأنقسنا،  فستان احمر، بنقاط بيضاء، أجوب مع الرأس والساق والضرع الفيافي، والسهول الطيبة، تحرسنا كجوارح ثمنية،  قرون متينة، تتوج رأس البقرة، يداعبني النسيم، وتمشط صوفي الرياح، ونركض في الادغال، ونسمع خوار جميل، دليل رضى، وتوق.

كنت اشبه حقل نضر، مفتون بالورد على صدره، فستان صوف جميل، ملون، يلف رشاقة البقرة، تسري فيني قشعريرة لطيفة، ساحرة، حين يقترب الثور، ويداعب، أمي، تنتفش الشعيرات فيني، وتقف خاشعة كلها، من سحر وسر اللذة، خدر لطيف، عصي الشرح، آه من زمان الوصل، تغسل القشعريرة صفحة وجهي، تتركه نقيا، صافيا، يحس بلمس الضوء، وانامل النسيم، كنت حيا، أدثر البقرة بحنو عظيم، وهي تملأ قلبي بعاطفة، وشعور، وحس نبيل، كما كنت أتألم حين يسخن الجو، أو تنام أمي على شوك حاد، ولكن مجرد أن تسمع أنيني ترفع امي رجليها، وتمضي بي لمكان آمن، تئن لشكواي، وأسعد لطربها، ولكني الآن، أشاك الشوكة وصاحبي الذي يعتليني يغني، ويبسم، ويضحك.

من يصدق، بعد هذ الحال، بؤس المآل، وأن جلدا جميلا، على صفحة بطن بقرة أصيلة، كريمة، تجوب حرة قرى سهول النيل الأزرق، والأنقسنا، وامضبان وابودليق ونهر اتبره، وصيفا في سهول العسيلات، وتبرك حينا في تخوم الفاو، يقسو عليها الزمن، وتباع بسوق امضبان، لتاجر مواشئ، فتذبح، ويستقر لحمها في معدة بني آدم، ويدبغ جلدها الجميل، فأي تمثيل هذا، لهذه الشهيدة البتول، التي سقت اطفاله لبن الفطرة،  وقرت عيون الشعراء، بسعيها الماهل، الحنون في فجاج الأرض، هاهي تتفرق أيدي سبأ، ثلاث ظلل، لحم في المعدة، قرون معلقة على الابواب كزخارف، وجلد يباع كأحذية تجوب الفجاج، تقضي وطر بني آدم، ثلاث لمصائر، لبقرة حزينة، بعض من جلدها الآن، يشق غبار الأرض كأحذية، أنا احداها، ولا يزال في ضميري المغيب حنين لأخوتي، من ذلك الجلد الجميل لأمنا البقرة، أين أخوتي الآن؟ هل سأعرفهم لو ألتقيت بهم؟ ألذاكرتي قدرة في تميزيهم، ولخيالي تصور عنهم؟ أم مضى الأمر، أكثر تعقيدا من خيالي، وذاكرتي؟.

ما أتعس حال حواسي. ضباب يفصلني عن الماضي، الماضي الذي يخصني، قد يمر قربي أخي، ولا أعرفه، ما أتعس خرفي، بل قد أناصبه العداء، النسيان، صوغ لبني آدم قتل أخوتهم، الأب آدم، والأم حواء، تعجبت عن هويتي التي سأدافع عنها، أفصيلة البقرة التي كنت؟ أم الجلد المدبوغ الناعم، أم الأحذية؟..

من أنا؟ هويات مؤقتة، عشتها في عمري، كنت جلد، وببسالة دافعت عن أمي، ضد الحرارة، والجراثيم، والمرض والبرد والحر!!

أتعجب من حالي، لو دارت حرب بين الأبقار والأحذية؟ أو بين الأحذية نفسها، في أي خندق استميت؟ فما أكثر الابقار، وكيف أعرف أخوتي؟ في كل وقت لي هوية، ومزاج، أأسفك الدماء، بصدق من أجل ظل فان، لم يكن، ثم كان، ثم يفنى؟، من أنا الآن؟ بقرة؟ أم جلد مدبوغ،؟ أم حذاء؟، أي هوية ألبس، كي استل سيفي، أو أحد حجتي، مقاتلا في سبيل عرفها،وعاداتها، وحلمها؟ كنت، وكان سلاحي الأول هو قرون، ادافع بها عن وطني، جلد البقرة، والآن بأي سلاح أدافع؟.

بالأمس كنت أدافع عن هويتي وحياتي وخواري بقرون قوية، وذيل رشيق يطرد كل الهوام، واليوم لا قرن أو ذيل لي، تبدلت حياتي، ومشاعري، وجوارحي، وشكلي، ولوني.  ملامحي، وعواطفي، وهويتي، تنسخ وتبدل كل حين، ضربة لازب، أتستحق قطرة دم؟، أو قطرة عرق تسيل بسببها؟ أتطورت هويتي أم انحدرت، كنت جلدا، فستان بقرة كريمة، جميلة، حلوب، والآن، مداس بشري، أأقاتل في سبيل هويتي الآن!!، وغدا في خضم قدرية هذه التحولات القسرية، التي تسوقني إليها، أتكون لي هوية أخرى، بحس ومشاعر وشكل مختلف؟ ألف خاطرة تحوم في بالي، وأنا سجين زنزانة زجاجية، خلوة تقسرني  على تدبر حالي،، وتأملها، قبل أن تجرفني دوامة الحياة، تحتها كمداس، فالحصة والفراغ، أعظم النعم!.

بلى، أعيش فراغ عريض، حبيس زنزانتي الزجاجية، تثور خواطري، عن كل شئ أهذه فلسفة؟ لست أدري، مرغم على التفكير، في بحر من فراغ، وغد مجهول، وماض أبحث عن حوائي الأولى، وأدمي، مثل سهم، من أن نبلة أنطلق، وإلى أين هدف يسعى، وأنا الآن في الوسط، لا اعرف من أين أنطلقت، ولا أدري إلى أين، ولكن هناك قوى، كالزمن، تدفعني، دفعا.

شعرت كأني مجرد شمعة،  يحترق رأسها الغالي حتى يعد بني آدم على ضوئها المحتضر طعامه ويتصفح جريدته ويتأمل وجه زوجته المتعب ويتحسس موقع نعاله الحزين، وهي عاجزة تتفرج على جسدها الفاني، كما تتفرج الشجرة على أغصانها الأليفة وهي تتهاوى صرعى بفأس بني آدم، كي يتدفأ بها، أو يطهي طعامه، وليس في أغصانها الخضراء غصة الثأر، وإلا لاحتوته كما تحتوي أذرع الإخطبوط أضحيتها، فتعصره كالليمون بأحشائها، فيغدو كتلة عجين من لحم وعظم ودم، بلا يد تحمل الفأس، أو أرجل دميمة الأصابع والرائحة تحشر بداخلي، كما تحشر إبرة حقنة البنسلين في صلب طفل.

 كم كنت أكره حبس الفترينة، ولكني أخاف الإمتطاء، ولا سير بدونه خيارين، أحلاهما مر!، فكيف السبيل، أن أسعي دون إمتطاء!. أبمقدوري ذلك؟.

يسرح طرفي في الليل حين يغلق المتجر، وتطفأ الأنوار، ويعم الظلام، وأفقد آخر لغة أو جسر، بيني وبين الآخرين، لم أعد أرى، سوى ظلام دامس، رغم عيوني المفتحة،  لم تعد هناك أحذية مسجونة قربي، شعرت بوحدتي، سرحت في ذاتي،   هل الشوك ذو الطرف الحاد، هو سبب خلقي؟، ألم أخلق كغاية في ذاتي، شوكة حقيرة، تؤذي بطن قدم بني آدم هي سبب خلقي، يالها من علة خلق حقيرة..!!.

أي رجل ستحشر فيني؟، ومتى؟ أثقيل صاحبها، أم نحيف؟، وما على سوى الإستسلام لقدري، راض، وببسالة، وإلا فلم الشكوى؟، والصمم يلف المغيث، “ألقاه في اليم مكتوفا من الأيدي، وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء”.

سيبتل بالماء، كما ابتليت قسرا بماء البرك، والترع، أو تحدث معجزة، ولم لا، فهذه الزنزانة الزجاجية، أحس بها، في قمة نشوتي، كأنها رحم زجاجي جميل.

***

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات