“لير” الصعيدي.. إبداع النص والأداء والرؤية … عبقرية يحيى الفخراني تتجلى في مشهد واحد

07:24 مساءً الأربعاء 6 أغسطس 2014
شريف صالح

شريف صالح

قاص وروائي وكاتب صحفي، مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print
مونولوج يحيى الفخراني

مشهد العاصفة كما يؤديه يحيى الفخراني في “دهشة”

في “التتر” أخبرنا صنّاع مسلسل “دهشة” تأليف عبد الرحيم كمال، وإخراج شادي الفخراني، أنه مأخوذ عن رائعة شكسبير “الملك لير”، إحدى تراجيدياته الذهبية، وأكثرها كآبة حيث يموت كل من فيها تقريباً، ولا ينتصر أحد.

لا شك أنها مغامرة بالغة الصعوبة، أن يُقيَد النص التلفزيوني بروح وعناصر نص مسرحي معروف للجميع، ما يقلل من الحلول الدرامية، يُضاف إلى ذلك أن النص المستعار ليس من بيئتنا ولا من عصرنا، فهو يتحدث عن ملك بريطاني قبل أكثر من أربعة قرون، فكيف سنخلق منه “لير” صعيدي، تراجيدي وملحمي؟ وثمة صعوبة ثالثة تتعلق بمدى قبول الجمهور لدراما يموت فيها كل أبطالها من مخطئين وطيبين وأشرار! أما الصعوبة الرابعة فتتمثل في تباين الوسيطين، ما بين مسرحية قابلة للأداء والتجسيد في ثلاث ساعات، ومسلسل يتطلب عشرين ساعة تمثيل.

الملك لير … نص كلاسيكي وأداء عالمي بأكثر من عمل

وإن كنا لن ندخل في تفاصيل المقارنة بين النصين: الشكسبيري، والصعيدي، وسنكتفي بتحليل مشهد واحد فقط يلخص كفاءة صناع العمل في تجاوز الصعوبات الأربع.

يعد المشهد الوحدة الأساسية في الدراما التلفزيونية وعادة ما تتوزع مشاهد أي مسلسل على محورين: رئيسية/ثانوية، عالية/منخفضة الطاقة. طبعاً مشاهد الحشو والمط لا علاقة لها بالدراما، حتى لو شكلت نصف حجمالعمل.

ويفترض في المشهد “الدرامي” أن يخضع لقواعد ومعايير البناء الدرامي التي يخضع لها العمل ككل، فحسب أرسطو يكون هناك: “بداية، وسط، نهاية”، بينما وضع غوستاف فريتاغ بناء هرمياً للمشهد، ينقسم إلى  خمسة أطوار، وهي: المقدمة، الحدث الصاعد، الذروة، الحدث النازل،والخاتمة.

وحتى لا يبدو الكلام نظرياً سنقوم بتحليل مشهد طرد ” يحيىالفخراني ـ الباسل حمد الباشا” على يد ابنتيه “سماح السعيد ـ نوال” و”حنان مطاوع ـ رابحة”، فهذا المشهد تحديداً يستحق التدريس في أكاديميات الفنون، فهو نموذج مثالي في كتابة النص، وأداء الممثل، ورؤية المخرج.

الفخراني في المسرحية التي قدمها قبل سنوات على خشبة المسرح القومي

 

ويُطلق عليه في المسرحية “مشهد العاصفة”، وقد رأيت أداء الفخراني له في المسرحية التي قدمها قبل سنوات على خشبة المسرح القومي، وأخرجها أحمد عبد الحليم، ويمكن القول باطمئنان إن أداء الفخراني تلفزيونياً، أكثر عبقرية من أدائه للمشهد مسرحياً، وإن كان العكس هو المعتاد، لأنه لا شيء يطلق طاقة الممثل مثل خشبة المسرح.

ووفقاً للتصنيف الذي أشرنا إليه فإن مشهد “الطرد/العاصفة” هو مشهد رئيسي بامتياز Master Scene وعالي الطاقة إلى درجة تفجير ما يسميه أرسطو التطهر عبر الخوف والشفقة. وقد يعجز الممثل عن أداء أي مشهد آخر قبله أو بعده، بسبب عملية التماهي والتقمص، والجهد الروحي الذي يتطلبه. وربما لن نعثر في المسلسل كله على ثلاثة مشاهد أخرى،تعادله.

بالتأكيد أي مسلسل، لا يتكون فقط من مشاهد رئيسية عالية الطاقة، لأن التناغم الدرامي يأتي من ذلك التوتر والتباين، ما بين الرئيسي والثانوي، عالي ومنخفض الطاقة، مثلما يتكون إيقاع الشعر من الحركة والساكن، والموسيقى من القرار والجواب.

البداية

مدة المشهد قرابة ست دقائق، وبدايته من لقطة مقربة لقدمي يحيى الفخراني وهي تدخل حافية في جلباب أسود إلى فضاء المشهد الممسرح، من اليسار باتجاه اليمين، بمصاحبة موسيقى وترية غليظة ومتوترة (تقودها آلة التشيللو على الأرجح)، ودون أي كلام.

أهم علامات بداية المشهد: الحفاء، فالرجل الذي ملك النفوذ والمال والأولاد، فقد كل شيء، فحتى أشد الناس فقراً يملك حذاء، وهي مفارقة تكشف أن الدنيا لا تدوم لأحد، ندخلها حفاة ونخرج منها حفاة. ولا ننسى الدلالة الروحية للحفاء كما في القصة التوراتية عندما طلب الله تعالى من نبيه موسى أن يخلع نعليه قبل أن يكلمه ويتجلى له، وكأن الأمر هنا أشبه بالخلاص من ماديات الدنيا ورجسها، للانتقال إلى مستوى روحي أعظم. مع الفارق أن موسى خلع نعليه محبة واختياراً، و”الباسل حمد الباشا” خلعهما كرهاً واضطراراً.

العلامة الثانية هي السير في صحراء مفتوحة وشاسعة، وكأنها مرآة قاسية يرى فيها مأساته. أفضل مرآة لرجل أسطوري فقد كل شيء. وتأتي خطواته ثقيلة وبطيئة تعبيراً عن حركة الزمن والعمر ورحلة الحياة وهي تجر خطواتها الأخيرة وتترك آثاراً هشة على الرمال، وظلاً بائساً.

أما العلامة الثالثة فهي غلظة وتوتر وشجن الآلات الوترية وكأنها صوت النائحات الجنائزي، وكأن الباسل يمشي وحده في جنازة روحه، بعدما أضاع عمره هباء، بسبب غلطة تراجيدية واحدة، وسؤال أحمق، جعله يكتشف أن من أحبهم وأعطاهم عمره وماله، لا يكنون له أي مشاعر.

بعد مرور خمس ثوان، يقترب “الباسل” من حافة الطرف الآخر للفضاء البصري وبدلاً من الرمل الأصفر وحده، تظهر زرقة السماء شاحبة في الأعلى، وهو يمشي في مسار منحرف يخلق عمقاً للكادر، مع انفتاح زاوية الكاميرا بنعومة وسلاسة، دون قطع. فبعد التركيز على خطوة قدميه، يظهرشيئاً فشيئاً جسده كاملاً مهزوماً تحت السماء، وهو يعطينا ظهراً منكسراً.. بل يعطي الدنيا كلها ظهراً مثقلاً بكل ما شاهده من مجد وهوان. في اللحظة ذاتها تظهر يد خادمه الأمين ” فتوح أحمد ـ  جاد الله” وهو يتحرك وراءه ـ بظهره أيضاً ـ حاملاً حذاء في يده.

أكثر تألقا في المشهد التلفزيوني عنه على خشبة المسرح

بعد الصمت التام طيلة هذه الثواني تحت وطأة الصدمة والهزيمة يسمع الباسل أول جملة طيبة من خادمه:

“رجلك والقيلة (حرارة الرمل) يا عم الحاج”!

أصبح “السيد” و”خادمه” وراء بعضهما، وسط ظلال رمادية معتمة لأشجار في العمق على يسار البطل. وكأن جملة الخادم المتعاطفة ردته إلى الحياة بعد الذهول والصدمة. وهنا يحدث أول قطع للقطة الطويلة نسبياً.

الحدث الصاعد

ندخل إلى الطور الثاني “الحدث الصاعد”، في الثانية ال15، حيثيسير “الباسل” خطوتين بعدما سمع صوت خادمه ثم التفت إليه حزيناً مهزوزاً، مع الاحتفاظ بمسافة بينهما وتوسط الاثنين في الكادر على نفس الخط في لقطة بعيدة. يليها قطع للقطة متوسطة للبطل وهو يحدق في خادمه مذهولاً مذعوراً كأنه لا يعرفه ولا يعرف اسمه:

“ماشي ورايا ليه يا ابن المركوب؟!

هنا، لا علاقة بين جملة الخادم المشفقة، وسؤال السيد الوجودي، الذي يكشف عن بداية اغترابه العميق. ثم تظهر لقطة للخادم واثنين آخرين من رجال الباسل، صحيح أن هذا العدد القليل يوحي بضياع هيبة السيد ونفوذه وحراسه، لكن التكوين يكشف أيضاً أن ثلاثتهم في جانب من الحياة، وسيدهم في الجانب الآخر منها.

لا يجيب الخادم على سؤال سيده بل يواصل استعطافه:

“البس المداس يا عم الحاج”

بما يعنيه لبس الحذاء هنا من استرداد القيمة والاعتبار واستعادة الباسل لذاته، والمفارقة أن سؤاله الاستنكاري لخادمه استعمل فيه لفظة “المركوب” على سبيل الاستعلاء والإهانة والاحتقار، وهي تعني أيضاً “الحذاء”، فالشيء الذي يعتبره الباسل رمزاً للاحتقار والإهانة، هو ذاته الوسيلة الوحيدة المتاحة له في تلك اللحظة لاسترداد كرامته واعتباره.

وتستمر فجوة الحوار بين الطرفين:

“القيلة واعرة!”

“هاتطل عليّ ليه كدا؟! اسمع.. نوال بتي ما طلعتنيش بره بيتها.. ما طلعتنيش نوال ولا رابحة.. أنا اللي مشيت”.

تتباين نبرة البطل انكساراً وارتفاعاً، كأن روحه تتمزق وهو يحكي عما فعلته بنتاه به، وتظهر هشاشته أكثر في حركة إصبعه، مع تكوم طبقات الحزن والغضب والذهول في تعبيرات وجهه، ثم تنتهي مؤقتاً مواجهته لخادمه عن هذا الحد، والتي هي في حقيقتها مواجهة عميقة مع الذات، محاولة أخيرة لاستعادتها، بالإدعاء كذباً أن ابنتيه لم تقوما بطرده.

لا يرد الحارس، ولا يعرف “الباسل” هو الصادق مع نفسه، كيف يمرر كذبته على نفسه، أو حتى كيف يمرر هذا الصدق المفجع؟ كلا الأمرين أشد وطأة على ذاته، لذلك يستدير ويرفرف بيديه كالطائر الذبيح معطياً ظهره للخادم، مع تنهيدة حسرة عميقة.. مواصلاً رحلته إلى لا مستقر. ونسمع لهاثه وصوت أنفاسه المتعبة الجريحة. ونحن نشاهد تداعيه من منظور عين خادمه الذي يقف وراءه والحذاء في يده. يزداد جسده تقوساً ويشكو الباسل:

“الأرض سخنة تحت رجلي ولا أنا اللي ماشي في جهنم..”

مع القطع نراه في لقطة قريبة للوجه: “متى جهنم في الآخرة بس؟! جهنم في الدنيا كمان؟ خلفة البنات جهنم”

ثم يحدث قطع على لقطة بعيدة يظهر فيها السيد وخادمه وسط الكادر على صيحته الجريحة المدوية:

“جاد الله”،  فيقفز نحوه: “نعم يا عم الحاج!”.

“الباسل” يفقد روحه الآن، وليس وعيه فحسب، لذلك يتلفت كالمسوس، ويضع يديه على أذنيه، قبل أن يشهق:

“سايبني حافي يا ابني المركوب!”

وكأن الخادم لا يلح عليه منذ بداية المشهد بارتداء الحذاء! إنه مازال يستوعب بؤس لحظته، بينما ينحني الخادم على الأرض كي يلبسه الحذاء، يعود فيصيح بنبرة أقل حدة وغضباً:

“اسمع.. بسادة يجي دي الوقت.. يجي وكل حاجة ترجع زي ما كانت.. الأرض والفلوس.. ما خليلهومش حاجة أبداً بنات الكلب.. بنات” ينقطع منه الكلام ويشيح مبتعداً ثم يلتفت نحو الخادم ثانية:

“مين قال على بناتي بنات كلب يا واطي؟!”

بين توجهه للسماء ومواجهته للأرض تيار لافح من المشاعر والمفردات الساخنة كصعيد الأرض التي يطأها حافيا

يسأل الخادم ويشتمه بينما يشير بإصبعه نحو نفسه، وهي تفصيلة على بساطتها، عبقرية في توقيتها، لأنه في حقيقة الأمر لا يعنيه أمر الخادم، بل يدير حواراً مع ذاته، يشتم بناته ثم يشتم نفسه لأنه يشتمهم. ثم ينقض على كتفي الخادم ويرفعه:

“أنت؟! بناتي بنات ناس.. أنت اللي ابن كلب.. واطي.. ما عندكش أصل.. حافي.. جعان.. أبوك ما وكلكش.. ولا كساك ولا خاف عليك”

وتتراجع حدة النبرة إلى الحنان والرهافة:

“أنا خفت على بناتي.. وكلتهم وكستهم” وتتدلى رأسه في هوان إلى أسفل: “عشان كدا.. هما شالوني من ع الأرض شيل”!

لقد لخص “الباسل” صراعه كاملاً، وعرض قضيته على خادمه، وعلينابالضرورة. تحدث عن كل ما فعله من أجل بناته، وما فعلنه هن في المقابل، ما كان وما تمنى أن يكون. في جمل زمنية مكثفة ومدوخة ومؤلمة، حول معنى الأبوة وخيانة المعنى.

بعدها يفلت خادمه ويكمل سيره مع تصاعد الثيمة الموسيقية النائحة التي تصاحبه في دربه.

يترك “الباسل” خادمه ـ آخر جدار حماية له ـ ثم قطع مرة أخرى للقطة مقربة على رجليه وسيره حافياً:

“الأرض ملهلبة.. سخنة” ثم يعود كأنه يستجمع أفكاره أثناء الحركة:

“ما عنديش أنا بنات يقولوا لأبوهم أطلع بره بيتي.. ولا تسكت عشان جوزها.. بتك أنت.. ومرتك أنت.. وأختك أنت.. اللي يعملوا كدا.. عشان أنتوا من غير أصل.. أنتو مالكومش عازه”

وبعد التماسك اللحظي الموحي بالكبرياء ينهار الباسل ويوشك على البكاء أمام خادمه المرئي/واللامرئي بالنسبة له:

“الأب عندكو زي قلته.. مالهوش لا وقار.. ولا احترام”

يلقي نظرات مرتابه على يده وهو يقلبها:

“بناتي يحبوا على يدي..  بناتي يحبوا الباسل.. لكن أنت واطي.. قليل الأصل.. (ينفتح الكادر في لقطة بعيدة لهما لتأكيد المسافة والنظرة الطبقية).. بعّد عني بعّد.. عشان قلة أصلك ما تبهتش على أصلي”

ثم يواصل لهاثه وسيره وانحناء جسده. يلتفت ثانية مزمجراً غاضباً:

“عندك بنات.. هايمسحوا بك الأرض.. (لقطة متوسطة) هايدوك بالمركوب.. هايخلوك ولا تسوى.. (لقطة بعيدة مع استنئناف السير والخادم يسير خلفه لكن المسافة بينهما تتباعد).. “ماشي ورايا ليه؟ أنت بجم؟ بعّد.. بعّد دي الوقت”.. (يزداد الصوت حدة وانجراحاً وتعاود الموسيقى ثم قطع على لقطة متوسطة له)  ..” بناتي أحسن بنات.. بناتي يا واطي.. بناتي (لقطة بعيدة للاثنين) أحسن بنات”.. (يزداد انحناء ويبتعد بينما تتابعه الكاميرا من ظهره وهو يتداعى بجسده على الأرض ويسقط ويبكي فيما يكون الخادم قد خرج من الكادر)

الذروة

ندخل إلى الطور الثالث “الذروة” في الدقيقة الثالثة و 43 ثانية تقريباً،فبمجرد خروج الخادم من الكادر، انتقلنا من طور “الديالوج” إلى طور “المونولوج”، صحيح أن الخادم كان مستمعاً صامتاً لهذيان الباسل وفوران مشاعره المتضاربة، لكنه على الأقل بحضوره العاجز، جعل الجزء السابق من المشهد “حواراً من طرف واحد”.

أما طور “الذروة” فهو “مولونوج” طويل، مأساوي وشاعري ووجودي في الوقت ذاته، قاله “الباسل” حافياً محنياً على الأرض، عاجزاً، باكياً:

“يا رب.. يا رب

عاوز أبكي

عاوز أبكي كيف المرة”

وتتطلع عيناه إلى السماء وتدور:

“شوفت؟ شوفت بناتي عملوا في إيه؟

اديتهم كل حاجة

وادوني بالمركوب

ربيتهم .. وكبرتهم

وطلعوني حافي في عز القيلة

حرقة قلبي منهم

أوعر من حرقة رجلي من القيلة

يا رب أنا بقيت قليل الحيلة

انت بس اللي حيلتي

محدش ياخذ لي حقي غيرك

أنا أهو.. أنا قدامك أهو

الباسل ولد بركة أبو

الباسل أبو

أبو .. أبو

أبو ومتهان

وزعلان

زعلان قوي

زعلهم زي ما زعلوني

سود عيشتهم

اجعل دنيتهم لعنتهم

أنا أبو ..

أبو

والأبو رب

الأبو رب يا رب

وانت فوق الكل

خلي القيلة اللي في رجلي

في عقلهم وفي قلبهم وفي مصارينهم

اطردهم من رحمتك وارحمني

اطردهم زي ما طردوني وارحمني

ارحمني يا رب”

ما قاله الباسل مفككاً في هذيانه أمام خادمه، تحول خلال ذروة المشهدإلى “مونولوج” بالغ القسوة والشاعرية، مع تقطيع الكاميرا حول جسد الباسل وروحه المهزومة وهي تتطلع إلى السماء. لغة مكتوبة وبصرية تكاد أن تكون قصيدة وجودية بالغة القوة والرهافة في آن، وأداء يحبس الأنفاس ويفجر الدمع في القلب قبل العين.

الحدث النازل

هكذا ندخل إلى طور “الحدث النازل” في الدقيقة الخامسة و37 ثانية مع انقطاع الكلام، ديالوجاً ومونولوجاً، وارتماء الباسل منهاراً على الأرض وسخونة الرمل.

إن مفردات السخونة والنار، وجهنم، التي تكررت، وإن لم نلمسها بأيدينا، كانت عميقة في التعبير عن تلك النيران التي تأكل عقل وقلب وروحالباسل حمد الباشا، وفداحة ما حل به على يد بناته.

وبعد أن عرض شكايته المؤلمة في “ديالوج هذياني” أمام خادمه، تفاوت فيه إحساسه ما بين الكبرياء والضعف، العقل والجنون، أعاد عرض شكايته في “ذروة” المشهد في “مونولوج” ماجياً الله تعالى، وهو في قمة الهوان والإذلال، منتيهاً بالبكاء والارتماء وكأنها محاولة للعودة إلى الأرض، إلى رحم أمنا الكبرى، لعلها تجلب له قليلاً من السكينة.

في تلك اللحظة يظهر الخادم مندفعاً:

“عم الحاج.. عم الحاج”

وينحني عليه باكياً ومشفقاً:

“قوم يا عم الحاج.. قوم”

في تلك اللحظة فقط توحد جسد السيد المنهك المهان مع جسد خادمه تحت سماء رمادية محايدة، وهو يحاول أن يرفعه أرضاً.

خاتمة

نصل إلى الطور الأخير ” خاتمة” المشهد، التي منحته نفساً ملحمياً، وتعبيرياً، ووجودياً، لا يمت للطابع الواقعي العام للعمل، عندما تظهر في الثواني الخمس الأخيرة بناته الثلاث في ثياب سوداء قاتمة، واقفات على الخط الفاصل بين السماء والأرض، يتصدرن عمق المشهد، كأنهن ثلاثة أشباح، أتين إليه من الجحيم، وحجبن عنه الرؤية والمعنى والحب. صامتات ومرعبات وسط صحراء خشنة التضاريس، وموسيقى النائحات الغليظة.

هكذا اكتمل مشهد واحد، ملخصاً المأساة كلها.. مشهد واحد يثبت بقوة تأثيره أنه أفضل من عشرة مسلسلات تتم تبعئتها وتسويقها بوصفها “دراما”. ومثلما كانت الصحراء التي شهدت مجد الباسل، مرآة لوجوده وهو يتفكك أمامه.. ومثلما كانت السماء أيضاً مرآة لضعفه وانهياره.. كان المشهدذاته مرآة لنا نحن المشاهدين، نقرأ فيها مصائرنا، وما قد نؤول إليه، مهما بلغت قوتنا. فلا شيء يعادل خسارة أن تكون محباً ومحبوباً.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات