لغة الأشياء / أروى ومصباح الأمنيات

10:52 صباحًا الثلاثاء 25 نوفمبر 2014
باسمة العنزي

باسمة العنزي

روائية وقاصة من الكويت، فازت بجائزة الدولة التشجيعية، لها عمود أسبوعي في جريدة (الراي) الكويتية.

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

أروى تلك الفتاة الهادئة الرسمية التي لا يمكنك معرفتها من اللقاء الأول، ولا حتى الثاني، كل ما يمكنك تكوينه عنها لا يعدو الملامح الأولى لشخصية غير معتادة مع الكثير من التكهنات والافتراضات. زاملتها لفترة قصيرة منذ سنوات طويلة، ولم أعرفها جيداً سوى عندما أصبحتُ واحدة من قرّائها الدائمين.

أروى الوقيان وغلاف كتابها

صحيفة الصباح لم تكن تحلو سوى بعمود أروى الإنساني القادر على نزعك من رفاهية فطورك الصباحي وقذفك في لجّة الطفولة المعذبة وغول الفقر وجوع الملايين.

تجيد مباغتتك بصور الجزء الآخر من العالم الذي نظن أنفسنا دائماً بمنأى عنه، تسحب بساط طمأنينتنا، وتخبرنا بأن الله وحده جعلنا ننجو من مآسي التشرد وسوداوية الجهل وصقيع الحاجة. يروق لها في كتاباتها – كلما كشفتْ لنا جزءاً من مرارة العالم – أن تعود بعدها لتنفض الغبار عن مجتمعنا الذي أتخمته الاستهلاكية والاتكالية، وتسربت إليه دمامل الخمول والفساد الإداري والتراجع على جميع المستويات. تكتب لنا عن مجاعة اليمن، وبعدها تخبرنا عن مآسي دور الرعاية الاجتماعية لدينا، ترحل بنا لقرى تشجع زواج القاصرات، ثم تعود لتنبهنا إلى أن عنصريتنا زاد منسوبها، وفي الحالتين لا تبتعد مقالاتها عن قضيتها الأولى؛ الإنسان أينما كان.

لم أستغرب عندما أخبرتْ متابعيها عبر (الأنستغرام)- وأنا منهم – بأنها بصدد رحلة ستنقطع فيها عن التواصل، كنت أترقب تفاصيل مهمتها التطوعية، وعندما نشرت جزءاً من تقريرها عن الهند – حيث ثلث فقراء العالم – شعرتُ كقارئة بأنني كنتُ معها هي وفريقها خطوة بخطوة.

أروى الرائعة بإنسانيتها وشغفها بالعمل التطوعي أمسكت بأيدينا وعبرت بنا للهند، قدمتْ لنا الحالة في صورتها القاتمة، عقدت المقارنات، رصدتْ بدقة، نكأت الجرح وأجبرتنا على مواجهة الأمر، (العالم يئنّ من الفقر والجهل) لم تكن تلك رسالتها الوحيدة، كانت تكتشف ذاتها وهي تسرد التفاصيل، بشفافية وتجرد تنتقد الذات والآخر، تمرر لنا أمنياتها في عالم بلا فقر ولا جهل ولا مرض، بأطفال لا يمرضون ولا يتشردون في الشوارع المرعبة، بمدن نظيفة يسيرها نظام كالساعة، ومشاريع تطوعية ضخمة يديرها شباب لربما استطاعوا مسح آلام الساقطين في هوة الفقر العميقة.

على حسابها في الانستجرام نشرت أروى الوقيان هذه الصورة، وكتبت تعليقها: هناك نساء بمرتبة أبطال، يعملن ويمارسن أمومتهن دون كلل أو ملل، تحية لكل امرأة تعطي، ومازالت، فقط لأنها خلقت معطاءة

ستقرأ كتابها (في الهند التقيت ذاتي)* لتجد كل ما فيه خارج من القلب من دون رتوش ولا محاولات تلميع كما يحدث غالباً في الكتب التي تتناول جزءاً من سيرة ذاتية. هي الرحلة الباعثة على المعرفة عن قرب بقلم كاتبة ذات خط إنساني واضح. ستحزن وأنت تقرأ، وتصدمك وجوه الفقر، لكنك بالتأكيد ما إن تقلب الصفحة الأخيرة باتجاه اليمين حتى تشعر بأنك خجل من أشياء كثيرة؛ دلالنا ومزاجيتنا وتطلّبنا.

كتاب يستحق التدريس في مناهجنا لأجيال مغيبة عن واقعها الإنساني، تائهة في مدار الاستهلاك، لم تسنح لها فرصة الاقتراب من دائرة الأنين ومناطق الوجع، لم تخبر معاناة الجوعى، ولم تلمس جروح الضحايا.

في كل حكاية فقر هناك وحش شرير يلتهم الأبرياء ويزيد من بشاعة العالم، وهناك جنّيةُ رحمة تنثر حلولها السريعة ولمساتها الساحرة جالبةً معها مصباح الأمنيات الطيبة، ولولا هذه اللمسات لما بات العالم يطاق.

*المقال جاء كمقدمة لكتاب أروى الوقيان (في الهند التقيت ذاتي) 2014 عن دار بلاتينيوم.

One Response to لغة الأشياء / أروى ومصباح الأمنيات

  1. د. إيمان بقاعي رد

    1 يناير, 2021 at 12:04 م

    شكرا

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات