رائحة النفط

10:35 مساءً الإثنين 9 فبراير 2015
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

10378961_842350095829897_8605386841769070763_nأزعُمُ أن المسافرَ من مصر، يكادُ ينسخها كاملة ليحتفظ بها معه أينما حل. ربما لأنني حاولتُ لسنواتٍ طويلة أن أفعل ذلك.

في سفري الأول كانت شرائط الكاسيت في الأمسيات تعيدني لأيام سمر وبهجة، ومشاعر حب وحنين، وأنا أسمعُ ما تيسر مسجلا على هذه الشرائط، من أغنيات أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ ونجاة ومحمد منير، ورباعيات صلاح جاهين، والقرآن الكريم يتلوه الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، ودعاء الشيخ سيد النقشبندي، ورسائل الأهل، وذكريات أخرى طبعت على شريط قبل أن تشتتها الأيام.

ثم كانت الكتب والمجلات، في مرحلة سبقت اكتناز الحافظات الرقمية لها، وسبقت نشر الإنترنت لمحتواها، لتمثل صفحاتها المطبوعة الجسر الورقي بين الكاتب هناك والقاريء هنا. وكم كنت أسعى للحصول على دوريات مصر الثقافية الشهرية، ومؤلفات الأصدقاء، فإن تعذر وصولها حيث أسكن، أوصيت بها، فتأتي طرودا، أفتح صفحاتها لأجد نفسي في مصر وكأني أجلس على النيل، أشم رائحة عربات البطاطا والذرة المشوية، وأنا أتأمل المياه بجانبي، حتى وإن كانت مياه الخليج المالحة، فنحن نرى ما نحب أن نراه، ونشَبِّه الأماكن هنا، بمقاصد جغرافية مصرية، وكأننا ننزع عنها صفتها الخليجية، كأن ذلك الشارع هو الذي تركناه وراءنا، وتصعد الأفكار بنا للسماء، لنتأمل بها قمرا يطل متعجبا على المكانين معا.

بل سنذهب إلى حيث نشتري الطعام، فنجد مخبزا يبيع العيش المصري، وجزارا يحضر اللحوم المصرية، ولا ننسى في شم النسيم أن نبحث عن المتاجر التي تبيع بصلا أخضر، وفسيخا، وخسا، لنستعيد طقس أجدادنا الفراعنة وكأننا نبحث في كل لحظة عما يأخذنا خارج المكان، ليعيدنا إلى سيرتنا الأولى، إلى مسقط الرأس، ومرتقى القلب. مثلما نأتي من مصر بهدايا مصرية نوزعها في مناسبات مختلفة، تقول إن هذه أرضنا وثقافتنا وفنوننا.

لكن المعضلة الأكبر تبرز حين يعدُّنا أصحاب المكان الخليجي غريبين عنه، ويعاملنا في دوائره الرسمية وكأننا أعداء، لذلك لن تخرج من تحت سمائه إلا بتصريح، ولن تعيش على أرضه سوى بكفيل، حتى ولو كان الكفيل لدي ـ في سلطنة عُمان ودولة الكويت ـ وزارة الإعلام، فأنت رقمٌ لوافدٍ، يراك الخليجي تزاحمه هواءه، وتشاركه ماءه، وتقاسمه مورده، حتى ولو كان يراك تعمل، وهو يكتفي بالمراقبة.

وإذا كان ذلك مفهومًا، وربما يكون مقبولا، فليس الأمر على الجانب الآخر بمفهوم أو مقبول؛ وهو كيف يعاملك قرينك في الوطن.

فالكاتب المقيم في مصر، يرى أنه ليس من حقك أنت المسافر أن تشاركه النشر في مطبوعات الدولة، وليس من حقك أيضا أن تكون عضوا باللجان الموزعة على الجميع، كما توزع علب المناديل على الجالسين في القطار، علهم يشترون، ويرى، كذلك، أنه ليس من حقك الترشح لجائزة مصرية، إلا بسلطان، وليس من حقك أن تُكرَّم في بلدك، فأنت ـ ويا للعدل ـ أخذت نصيبك من الدنيا، فسافرت، لتملأ جرات الذهب، ولتغترف حقك حيث سافرت، وكأن ذلك التكريم وتلك الجوائز توزع على المصريين المقيمين كما توزع السلع على بطاقات التموين.

أذكر أنني عدت في إجازة إلى مصر قبل نحو عشرين عاما بعد صدور ديواني الثاني (الأصداف)، وكان غلافه ـ الذي رسمتُه بنفسي ـ ملونا، وأخبرتني شقيقتي أن زميلهم في العمل يعرفني لأنني كنت زميله بالجامعة، فليتني أهديه نسخة من ذلك الديوان الجديد.

المهم إنها نقلت لي جملته الشهيرة، بعد أن أخذ الديوان وأخذ يقلب في صفحاته، ويتأمل غلافه الملون: رائحة النفط!

هكذا، لم ير الصديق، الذي كان شاعرا متمطرنا (أي يقلد محمد عفيفي مطر) في أيام الجامعة، لم ير سوى الغلاف الملون، لم يقلب الصفحات ليقرأ الشعر، بل حكم على الديوان من عنوانه؛ رائحة النفط!

وقد طاردتنا رائحة النفط طويلا!

مثالا، في الأيام التي تحولت فيها سلسلة (روايات الهلال) إلى النشر لمن يدفع أكثر، باسم تبرع إلى المؤسسة الرائدة والخاسرة، كان التبرع يأتي دائما ممن لهم رائحة النفط، أو ممن ينتجون النفط أنفسهم، وهكذا تحولت النظرة السلبية أكثر إلى الروائيين، وتزامن ذلك مع النشر بمقابل لدى دور النشر الخاصة، وتكاثر الناشرون حتى كاد يكون هناك ناشر لكل خمسة مؤلفين.

وأصبحت القاعدة الشرطية سنة مؤكدة: أنت تؤلف، إذن، أنت تدفع!

في 2004 أصدرتُ نسخة محققة من رحلة شيخ الأزهر مصطفى عبد الرازق إلى فرنسا، بعنوان مذكرات مسافر، عن سلسلة ارتياد الآفاق، في دولة الإمارات العربية المتحدة، وقال لي صديقي في القاهرة إنهم لا يعطون سوى ألف دولار، فقلتُ له أحب أن أنشر الكتاب في مجال أوسع، والكتاب سيسافر إلى فرانكفورت. وإلى اليوم لم أتقاض دولارا واحدًا مقابل ذلك النشر، رغم صداقتي لمدير السلسلة الشاعر الرائع نوري الجراح، ويبدو أن إقامتي في الكويت، جعلت القائم على المشروع يعتقد إنني لست بحاجة إلى تلك النقود القليلة!

في العام نفسه، وبعد نجاح الكتاب، سألني الدكتور قاسم عبده قاسم أن يعيد نشره في دار النشر التي يملكها، ولكنه تأسى ـ كناشر مسكين ـ بأنه لن يستطيع أن يدفع فقط سوى ألف جنيه، فقلتُ على الرحب والسعة.

صممت غلافا جديدا، وأضفت جزءا ثانيا للكتاب، وصدر بعنوان الشيخ مصطفى عبد الرازق مسافرا ومقيما، وانتظرت أعواما قبل أن أطلب الألف جنيه، فكان طلبي نتيجته أن يقطع المؤرخ الكبير، والناشر الشهير، علاقته معي، وأرسل فاتورة بقيمة عدة نسخ طلبتها من صديق مشترك دفعها له.
لقد أحضرت النموذجين لكي أقول إن رائحة النفط تطارد هؤلاء الذين يعيشون في الخليج من أدباء ومثقفين، لكنني لا أنسى أن أشيد بتجارب النشر التي خضتها في الإمارات، سلسلة كتاب دبي الثقافية، وفي مصر، مكتبة الإسكندرية، اللتين نشرتا أربعة كتب من أهم كتبي المترجمة والبحثية، سيرة سلفادور دالي، وأشعار كو أون، في السلسلة الشهرية المرموقة، وتحقيق جريدة الشباب لمحمود بيرم التونسي التي أصدرها في منفاه، وطريق الحرير، الموسوعة الثقافية المصورة. مثلما أذكر بالخير والبهجة والفخر تجارب النشر لكتبي المترجمة التي صدرت لي في سيئول وسان خوسيه عاصمة كوستاريكا، وفي طهران، لترجمات من أعمالي بالكورية والإسبانية والفارسية.
بعد أكثر من 25 كتابا، في الشعر والرواية والترجمة وأدب السيرة والرحلات وأدب الطفل، كان لي هناك وهنا تكريم أحبه، وأجله، وترجمات أعتز بها وأفرح، مثل اختياري في تتارستان ، إحدى جمهوريات روسيا الاتحادية شخصية العام الثقافية، وتكريم اتحاد الكتاب لي هناك؛ لكن روايتي الأولى “شماوس” فتحت لي بابا للشرق الأقصى، حين ترجمت إلى اللغة الكورية، في 2008، أي بعد صدورها بعام واحد. وشجعتني على أن أقدم الشعر الكوري الحديث للقاريء العربي، عبر الإنجليزية، ثم بدأت إحياء مفهوم طريق الحرير الإعلامي، فأنشأنا تطوعيا شبكة أخبار المستقبل، آسيا إن، وبعد أن كنت ضيفا في جمعية الصحفيين الآسيويين، في سنواتها الأولى، يأتي هذا العام 2015 لأكون رئيسا لها.
هناك في العاصمة الكورية الجنوبية لم يشموا رائحة النفط، قرأوا الرواية التي تحكي عن ثورة أهل شماوس ضد ممارسات الشرطة، في 2007، وبدأ يتتبعون الجهد، وطلبوا باقي الأعمال حين رشحت لجائزتهم الدولية من قبل مؤسسة ثقافية وجامعة هناك، وراسلوني لكي أترجم ملخصات ـ بالإنجليزية ـ لروايتيَّ (31) و(حديقة خلفية)، وأعرف لهم بباقي المؤلفات التي لن يستطيعوا قراءتها بالعربية.
كنت في (حديقة خلفية) أحكي عن مصير أحد رجال ثورة يوليو، متكئا على علاقة أبطال الرواية بعالمين؛ دول الخليج العربية، والهند، وفي (31) أرصد الأيام الأخيرة في حياة شخص يعمل في إحدى الدول الخليجية، أخبرته مؤسسته أن أمامه 31 يوما ليغادر البلاد، بعد أن أنهوا عمله.
واكتشفت، أن ذلك المثلث الذي ربط الروايات الثلاثة هو المعادل الموضوعي لحياتي، ففيها سيرة العمل في الخليج، وفيها رحلة السفر التي قادتني لأكثر من 33 بلدا، وفيها كذلك روح مصر، وهمها، الذي نحمله أينما ذهبنا.
حينما صعدتُ إلى خشبة المسرح في كوريا الجنوبية لأتسلم جائزة (مانهي) المرموقة، التي نالها قبلي وول سوينكا، ومويان في الأدب، وشيرين عبادي ونيلسون مانديلا في السلام، تحدثت إلى الجمهور بلغتي العربية، وترجمت كلمتي إلى الكورية، أخبرتهم فيما قلتإنني جئت من بلد يكرم الأدب والثقافة، وأنني أدين بكل ما أبدعت لهذا البلد، مصر.
كنت ـ هناك ـ وأنا أول مصري يُكرم بهذه الجائزة، لا أشم سوى رائحة ورد مصر، لأنني لم أعتبر نفسي مغتربا، فقد ذهبت باسم مصر وذاكرتها معي، ولم تشغلني رائحة النفط، حتى لو شمها الآخرون، يكفيني أني قرأتُ مصر وكتبتها، وحاولت أن أقدم النموذج الذي أحب أن أكونه.
5………………………………..

تم تسجيل وتصوير هذه الشهادة للمشاركة في الجلسة التي أدارها الشاعر والمسرحي أحمد سراج، في معرض القاهرة الدولي للكتاب، عصر اليوم

سيصبح الفيديو مباشرًا في:http://youtu.be/972-O3csxmA

One Response to رائحة النفط

  1. nelly aly رد

    10 مارس, 2015 at 3:48 م

    جميل حبك وإنتماءك لمصر وأنك تحملها بداخلك إلى كل مكان تسافر إليه، وأنك تحمل رسالة تريد أن تصلها من خلال كتاباتك رغم كل ما يعانيه الكاتب سواء كان بعيدًا عن وطنه أو قريبًا منها. تحياتي لحضرتك

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات