الحدود المصنوعة … بالدم والرقابة

09:33 صباحًا الثلاثاء 17 نوفمبر 2015
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print
برعاية وحضور سعادة ياسر عاطف سفير جمهورية مصر العربية إلى دولة الكويت، أقام المكتب الثقافي المصري برئاسة الدكتور نبيل بهجت أمسية نقدية لكتاب الروائي إبراهيم فرغلي في أدب الرحلة "الحدود المصنوعة بالدم". الأمسية أدارتها الكاتبة الصحفية ليلاس سويدان، وتحدث فيها أشرف أبو اليزيد وعبد الوهاب الحمادي. الصورة بعدسة الكاتبة هايدي عبد اللطيف أثناء إلقاء ورقتي المدونة هنا.

برعاية وحضور سعادة ياسر عاطف سفير جمهورية مصر العربية إلى دولة الكويت، أقام المكتب الثقافي المصري برئاسة الدكتور نبيل بهجت أمسية نقدية لكتاب الروائي إبراهيم فرغلي في أدب الرحلة “الحدود المصنوعة بالدم”. الأمسية أدارتها الكاتبة الصحفية ليلاس سويدان، وتحدث فيها أشرف أبو اليزيد وعبد الوهاب الحمادي. الصورة بعدسة الكاتبة هايدي عبد اللطيف أثناء إلقاء ورقتي المدونة هنا.

تمتد رحلات كتاب الروائي إبراهيم فرغلي ” الحدود المصنوعة بالدم” على مساحة زمنية لأكثر من عقد، وأخرى جغرافية بأكثر من قارة. وبقدر ما تؤثر هاتان المساحتان على المحتوى؛ تجربة ورؤية ولغة، فإن مساحة ثالثة يمكن أن تضاف ربما نقرأ تأثيرها بين السطور.

فالقراءة الزمنية للكتاب يمكن أن تتماس مع أدب رحلات العرب التاريخي، حيث كانت تمتد الرحلة لعام أو أكثر مما يجعلنا لا نرى غريبا في أدب الرحلة المعاصر أن تتشابه في تجربته في هذا الأمر. فرحلات آباء هذا الأدب سواء كانت للحج طلبا لاكتمال أركان الدين، أو للهجرة أملا في الهرب من حاكم ظالم، أو للعلم الموجود في مكتبة هنا أو خزانة هناك، هذه الرحلات كانت تمتد سنواتٍ طويلة، وربما إلى عمر كامل.

أما القراءة الجغرافية في الحدود التي عبرها الكاتب بين شمال إفريقيا وقلب أوربا وشرق آسيا، فهي ـ بالنسبة للكاتب كذلك ـ أمر طبيعي، ارتبط بأسلوب وسيرة حياته، ومجال عمله ونشره، ونشاطه الثقافي والأدبي، ورغبته القديمة الواعية في أن يكون رحالة، كما أثبت في مقدمته في هذا الكتاب، حتى وإن لم يصل إلى طموحه، ومن منا يصل إلى الطموح الذي يبتغيه؟!

وإذ أترك هاتين القراءتين لمن رغب خوض غمارهما فلعلي أصل، هكذا، إلى القراءة الثالثة، والموازية أو المكملة لهاتين القراءتين، وهي أن فصول هذا الكتاب يمكن أن تُقسم إلى رحلاتٍ بدون رقيب، خارجي أو داخلي، وأخرى يمتلك فيها الرقيب الخفي أو الذاتي دورا في معالجة مشاهدها، وانتقاء موضوعاتها، وصياغة لغتها.

ولكي أقترب أكثر من شرح الأمر أحيلكم إلى فصلين كتبهما المؤلف يخص الأول العاصمة الفرنسية؛ باريس، ويسافر الثاني إلى العاصمة الثقافية لأوربا، جراتس، مدينة للثقافة والعلوم والحب. ولقد اخترت هذين النموذجين ليس للفارق الزمني بينهما، وإنما لكون الأول قرأته للمرة الأولى بالكتاب، بينما نشر الثاني في مجلة “العربي”، وكنت أسأل نفسي، وأنا أقرأ موضوع إبراهيم فرغلي؛ تحت سماء باريس، هل كان يمكنه أن ينشره في “العربي”؟

ليست فقط المساحة الكتابية الكبيرة الممنوحة للرحلة الباريسية هي الفارق، فالكتابة لا ترتبط بحدود الصفحات الممنوحة والمحددة بسقف لا تتخطاه، وحسب، وإنما أيضا حرية الحركة للكاتب واختيار أماكن جريئة، وهي إن بدت عادية، في سياقها الأوربي، إلا أنه لا يستطيع نشر هذا المقطع، مثالا في “العربي”:

“أتوقف عند بائع جائل يبيع الكريب ملفوفا على نوتيلا أو مربى، بسعر زهيد، ثم أمر أمام مكان خاص بالتعرض لأشعة لاكتساب لون برونزي فأدخل وألقي بنفسي داخل الجهاز. أو أصل إلى محل يبدو وكأنه يؤجر أفلاما إباحية فأسأل عما يتاح في هذا المكان؟ فيخبروني أن هناك كابينات للعرض في أسفل المحل، يمكن أن أحدد القاعة، بعد تحديد الفيلم الذي أرغب في مشاهدته. أحدد الفيلم وأدفع المبلغ وأنزل إلى القاعة، فأجدني في ساحة مظلمة مقسمة إلى كبائن لها أبواب زجاجية تشبه كبائن الاتصال في السنترالات. وبعد لحظات أخرى أدرك أن المكان مجرد تمثيلية توفر للمثليين الفرصة للقاء!  عندما أدركت ما أوقعت نفسي فيه بسذاجة، تسللت خارجا من الكابينة متجاهلا الابتسامات العاطفية لمن توقفوا بجوار الكابينة، حتى وصلت للدرج المعدني الذي يقودني للمحل، وفررت عدوا وأنا أكتم ضحكاتي قبل أن أطلقها صاخبة خارج باب المحل على ما فعلته بنفسي. … وبالصدفة أيضا وجدت  نفسي في شارع بيجال الشهير بالمنطقة الحمراء، الذي يضم مسارح ، ولاحظت أمام المنازل أو المحال فتيات شبه عاريات يدعون المارة مثلي لقضاء وقت للمتعة، كنت أتوقف وأتحدث معهن قليلا، لكني أفر مرة أخرى حينما لا أرى بينهن فتاة فرنسية فأغلبهن إفريقيات. في أحيان أخرى كنت لا أجد خطة محددة فأبحث سريعا عن دور السينما لأشاهد فيلما أعرف أنه يعرض لأول مرة، وكنت أختار بين الأفلام الأمريكية الجريئة، أو الأفلام المغاربية التي تعرض في بعض دور السينما”.(ص ص 26، 27)

من المصادفات التي عجبت لها أثناء قراءتي للرحلة الباريسية في “الحدود المصنوعة بالدم” هي حكاية فيلم “بومباي”.

فقد راجت مع صعود هذا الفيلم إعلاميا مشاهدته، ولكنني هنا، في الكويت، وحيث كان يستطيع إبراهيم أن يشاهده في قاعة عامة للسينما، بالعاصمة العُمانية مسقط حتى ولو كان هو المشاهد الوحيد للفيلم، فلم أستطع ذلك، حيث تعرض الفيلم للمنع، وللمصادفة، فقد كتبت عن الفيلم نفسه في رحلتي الهندية الأولى إلى كوجرات، حيث استطعت الحصول على نسخته من مدينة أحمد آباد:

” الفيلم الذي أنتجته بولي وود ـ مدينة الصناعة السينمائية في الهند ـ عام 1994 ليجسد إحدى صور هذه الاضطرابات (بين المسلمين والهندوس) على خلفية قصة حب بين فتاة مسلمة وصحفي هندوسي، لم يستطيعا الزواج في قريتهما بسبب الاختلاف في الدين، فجاءا إلى بومباي، التي يحمل الفيلم اسمها.  هذا الفيلم صورة نموذجية للعلاقات الإنسانية التي ذابت بين الأعراق والأديان في الهند، قبل أن تبعث السياسة نار الفتنة من تحت الرماد، وهذا الفيلم نفسه الذي أخرجه ـ ماني راتنام ـ يأتي ضمن كلاسيكيات السينما الهندية ويعد بين أفضل عشرة أفلام في تاريخها على الإطلاق، فهو لا يعكس الصورة الزائفة للحياة كما تقدمها آلاف الأفلام الهندية التجارية ومن أجمل عناصره ألحان الفيلم الشهيرة التي قدم موسيقاها الفنان إيه. آر. رحمان. هكذا ، الفيلم ممنوع هنا، ومتاح هناك، لكن الكتابة عنه تمر في سياق مناسب”.

أعود للمقابلة، أو المقارنة، وأرى كيف اعتمد الكاتب في رحلته الثانية، إلى جراتس، على عناصر تسبر التاريخ، وتتعمق في جماليات العمارة وخصوصيتها، وعناق الطبيعة بالعمارة:

“تمتلك جراتس خصوصية جمالية فريدة أظنها تتشكل من تضافر مظهرين أو سمتين جوهريتين في طابع المدينة؛ الأول هو الخصوصية المعمارية لمبانيها، التي يعود أغلبها إلى فترة العصور الوسطى، وأغلب المباني هنا يحمل سمات العمارة لعصر الباروك، ما يجعل منها مدينة عمارة أثرية لافتة، أما المظهر الثاني الذي يؤكد الطبيعة الخاصة لجراتس فهو أنها منطقة غابية، تفيض فيها وحولها الغابات والتلال أيضا حيث تحيط بها من ثلاث جهات.   وهكذا نجد تعانقا فاتنا وفريدا بين الطبيعة بتلالها وغاباتها مع المباني العريقة الجميلة. وهي ليست مجرد عمارة عريقة بل واحدة من أجمل مدن العصور الوسطى، ما دعا «اليونسكو» إلى اعتبار المدينة القديمة في جراتس واحدة من أفضل المناطق المحفوظة في أوربا الوسطى، وقامت المنظمة بإضافتها إلى قائمة مواقع التراث العالمي. تشير الدراسات التاريخية إلى أن اسم المدينة «جراتس» Graz يعود إلى أنها كانت موقعًا لقلعة رومانية في بدايات القرون الوسطى. وبعدها تم بناء قلعة صغيرة بواسطة السلوفينيين التي أصبحت بعد فترة حصنًا منيعًا. في اللغة السلوفينية، معنى كلمة «جراديتش» هو «القلعة الصغيرة». أما الاسم الألماني للمدينة؛ «جراتس»، فقد استخدم للمرة الأولى في العام 1128. وكانت المدينة مركزًا تجاريًا مهماً في ذلك الوقت. وبعد مرور نحو قرن آخر على ذلك التاريخ، أي في أواخر القرن الثالث عشر وتحديدا مع العام 1281، في عهد رودلف الأول، حظيت المدينة بالعديد من الامتيازات التي انعكست على مظهرها ووضعها السياسي والاجتماعي”.

سيمرر الكاتب، في غفلة من رقابة الآخر، مقولاتٍ مهمة وموحية، في رحلته الجراتسية:

  • “قبل هتلر وحتى العام 1938، كانت جامعة جراتس تحصل على جائزة نوبل في العلوم كل عامين، وبعد هتلر أصبحنا نحصل على نوبل كل 30 عاما». هذه الملاحظة المهمة تكشف كيف أن الدكتاتورية والعنصرية لا يمكن أن تحقق أي نهضة، بل على العكس، فهي لا تستطيع سوى أن تقتل أي نهضة، وفي القلب منها النهضة العلمية والبحثية، وصولا للنهضة الثقافية” (ص 72)
  • ” أحسست كيف أن هذه المدينة قد لا تبدو مدينة من تلك المدن التي تُذكّرك، حين تراها للمرة الأولى، بمارلين مونرو مثلًا، أو بالجمال المثير الصاخب بشكل عام، بل هي مدينة تستدعي ملامح امرأة جميلة هادئة الجمال، لكن جمالها الداخلي لا يظهر إلا بعد أكثر من نظرة، وحينها يبدو كيف أن التعلق بجمال كهذا قد يستمر للأبد، بالتالي فهو ليس ذلك النوع من الجمال الصارخ الفاتن الذي يلتهب به المرء وسرعان ما يتمنى أن يمتلك القدرة على نسيانه! (ص 74)

بعد هذه الإشارة السريعة إلى القراءة الثالثة والضرورية للكتاب، لا أنسى إشارات أخرى تقدم نفسها وتعبر عن الكاتب كروائي يضع مقاطع من كتبه في سياق الرحلة، واهتماماته بالفن على نحو خاص لا يُغفل الحديث عنه كلما تيسر، وصداقاته فلا يفوتنا كم الأسماء للأدباء المعاصرين الذين يظهرون بين سطور الكتاب.

تلك كانت رحلتي في الحدود المصنوعة بالدم.  وربما يبحث قراء آخرون عن حدود مغايرة، يجتازونها في أدب الرحلة، الذي استعاده أبناء الرحالة الأوائل، فقد كان أدبا عربيا بامتياز، أعادت إحياءه مجلة العربي، ومن هنا وجدنا ضالتنا في هذه المجلة، كعاشقين لهذا الأدب، وغامرنا، ولا نزال، بحثا خارج الحدود ؛ حدود الدم، والرقابة.

جانب من حضور الأمسية النقدية: (من اليسار) د. نبيل بهجت، د. إقبال العثيمين، أمل العبد الله، أشرف أبو اليزيد، إبراهيم فرغلي ، ليلاس سويدان، سعادة السفير المصري ياسر عاطف، عبد الوهاب الحمادي، ونزار العاني.

جانب من حضور الأمسية النقدية: (من اليسار) د. نبيل بهجت، د. إقبال العثيمين، أمل العبد الله، أشرف أبو اليزيد، إبراهيم فرغلي ، ليلاس سويدان، سعادة السفير المصري ياسر عاطف، عبد الوهاب الحمادي، ونزار العاني، عدسة : إبراهيم أبو شنب

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات