مقابلة شخصية مع رامبرانت

08:22 مساءً الأربعاء 30 مارس 2016
علاء حجازي

علاء حجازي

فنان تشكيلي من مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

imageهذه اللوحة رسمها رامبرانت عام ١٦٦٠ بألوان زيتية على توال بطول ٧٨.٧٤ سنتيمتر وعرض ٦٠.٩٦ ، كان يبلغ من العمر ٥٤ عاماً أي قبل تسعة أعوام من وفاته.

جعل المشاهد يواجه الرسام بشكل فجائي وحيداً مما يوحي بالخصوصية اللازمة لمحادثة خاصة في بيئتة الداخلية غاية في الهدوء مُظهراً الظل الملقى على الحائط في تلك المساحة الشحيحة التي بين الحائط والرسام مما يوحي بأن هناك مجالا يتسع لرامبرانت وحامله فقط وبذلك يؤكد على عدم وجود أحد غيره في المكان كما يؤكد ذلك الضوء الشحيح الذي – بالكاد – يكشف أجزاء تبدو قليلة العمق وبذلك تتقلص المسافات بين المشاهد والرسام وتصنع نوعا من الحميمية ويوجه إنتباهنا بضوء مسلط قوي يأتي من أعلى الزاوية اليسرى موجه مباشرةً للقبعة البيضاء (قبعة الرسامين البيضاء في ذلك العصر) التي تبين فيما بعد في هذا العصر (عن طريق أشعة إكس) انه كان يرسم نفسه بهذه القبعات كي يضع مكانها قبعة أخرى لكنه في هذه اللوحة أبقى عليها بيضاء وقد سلط عليها الإضاءة أكثر من أي مكان أخر باللوحة حتى أصبحت مغمورة بالضوء فباتت تفاصيلها مختصرة بدرجة كبيرة لترمز إلى “حرفنته” الشديدة كرسام (يعتز بمهنته) وتتحول لمصدر للضوء ذي بعد روحي وتشع مثل الهالة المقدسة ليقول أن الرسم مصدر نور حياته ، وأن قيامه بهذه الخدع البصرية جاء ليطرح من خلال الرسم أنه قد حقق وجوده ويطمح للسمو من خلال فنه.

والنقطة الثانية الأكثر إضاءة هي جبهته وهو المكان الثاني والأخير الذي تقل فيه التفاصيل وكان ذلك ضرورياً ليربط آدميته (اللحم والدم) بعملية الفن (القبعة) إرتباطاً عضوياً وكأنه يريد توضيح دور المجهود الإنساني والتخيل في العملية الفنية.

من بعد ذلك يبدأ الضوء في التخافت بشكل سريع بأسلوب رامبرانت، بينما يتحرك الضوء لأسفل يضرب الجفن العلوي لعينه اليمنى ثم يعود ليضئ إنتفاخ أسفل العين ويضرب الأنف ليسطع على ثنايا لحم الرقبة مركزاً على تضاريس وجهه ليوصل لمن يشاهده إحساسه الصادق بعمره الحقيقي ويثبت بالعلامات الفيزيائية البحته كونه إنسانا يكبر ويشيخ وليس مخلداً وهو يعرف ذلك تماماً وكان من الممكن أن يمحو مثل هذه التفاصيل بأن يجعل الضوء أخفت وبتنعيم ضربات الفرشاة لكنه أصر على إظهارها بوضوح حفاظاً على المصداقية المدهشة والتي تحتوي على نوع من الإذلال النفسي (بتذكير نفسه أنه فان ويتجه للموت فليكن متواضعا على الدوام) وبالفعل هذا الوجه صدى لإحساسه بالصدق والإذلال وهذا أيضاً مرتبط بظروف حياته أنذاك حيث كان الدائنون يطاردونه وهذه العضلة المرتخية للفم تدل على عدم الإنتباه وهذا من ضروريات تأكيد الواقع وأيضاً يجعل الشفة العليا تفتح مسافة بسيطة عن الشفة السفلى.

الطريقة المضاء بها الوجه من الجانب الأيمن توحي بالإنفتاح على المشاهد وطريقة رفع حاجبه توسع المساحة بين محجر العين والعين ليؤكد أنه واضح للغاية وهو أكثر قرب ولا شئ يخفيه عن المشاهد وقد وضع عينه في مكان قريب للمشاهد ليفتح نافذة روحه (العين نافذة الروح) ومع قصر المسافة ومع كل هذا القرب إلا أن العين تبدو هادئة وفيها وضوح لدرجة أنك تشاهد ظل الجفن على العين ونظرته مركزة لتظهر عدم خوفه من المشاهد حتى لو رأي روحه من الداخل وهدوءه قوي بتفاصيله التي توحي بصفاء ذهنه وبصيرته والإشعاع الذي ينبعث من عينه يرمز لروحه المرحة وجبينه المجعد بسبب رفع حاجبه وكأنه متقبل الحياة الدنيا كما هي بلا مشاكل مع نفسه … هذه هي الحياة.

وقد رسم هذا الوجه قبل أزمته المادية بفترة وجيزة قبل أن يبيع كل ما يملك بسبب ديونه وهذا جعله مهموماً وفي هذا البورتريه بالتحديد بدا عليه انه أنحف عن باقي الوجوه التي رسمها لنفسه قبل وبعد هذا الوجه وعلى الرغم من هذه المعاناة فلا شئ يدل على خنوع أو خضوع فأكتافه موضوعة بشكل سليم وذقنه ليس مرتفعا تكبراً وليس خانعاً في نفس الوقت والجزء الأخر من الوجه بالرغم من وجوده في الظل إلا انه يبدو بتفاصيله وبرغم وجود العين في الظل ولكنها تراقب المشاهد وهي غير مفتوحه مثل العين الأخرى لكنها تراقبنا في الخفاء وهذا مناسب للغاية حيث أن المراقبة تكون من شئ مخفي عادة

وانتفاخ أسفل العين يبدو أسود وكأنه كدمة وهذه العين لا تفصح عن الكثير.

زاوية الرأس وكتلة الأنف تتجهان بك نحو الجانب المظلم من الوجه ويظهر ذلك بعضاً من الشدة أو القسوة الفيزيائية وهو لا يستخدم هذه القسوة ولكنه يستطيع إرتدائها لدائنيه ومنتقديه وللناس التي تطلب منه تعديل لوحاته لأنه لم يكن يقبل التعديل فيها وعلى أي حال لا يفصح هذا الجانب المظلم عن الكثير ولكنه يزيد الجانب المضئ إضاءة ويعطيه مصداقيتة الكبيرة التي يبدو عليها.

ومن الناحية التصميمية تعتبر هذه اللوحة مشبعة مع أن الصورة ساكنة إلا أن الضوء الذي يستخدمة رامبرانت بشكل علوي منحرف يكسبها طاقة وقوة وحركة كذلك يلعب الضوء كالعادة دور البطولة حيث يتحرك من القبعة للجبهة للثياب لسطح اليد اليمنى ويضئ البالته على يده اليسرى المبسوطة ببقع ضوئية ويختفي هذا الضوء بلمعة موجودة بزاوية الإطار وهذا الضوء المسلط بشكل منحرف يزداد قوة وحيوية بوقوعه على حافة الحامل وكأنه يستعير من الحامل إستقامته.

والحركة من الضوء للعتمة متناغمة وتعطي وحدة اللوحة حيث أن اللوحة متوحدة مع نفسها، وهذا ناتج عن استخدامه الأصفر الغازي المضئ والأوكر المحمر والبني الغامق وجعل الظلال وتدرجاتها من نفس البالتة، وعناصره التكوينية تعطيك الإحساس بوحدة الموضوع من حيث الترتيب وإحياء المشهد الراكد بالضوء المتحرك …

هذا البورتريه يتركك مندهشاً أمام رهافة حس رامبرانت والأكيد أنه يعطيك الإحساس بأنك قابلته مقابلة شخصية.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات