طريق الحرير … من التاريخ إلى المستقبل

11:13 صباحًا الأربعاء 10 مايو 2017
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print
جيش من الطين، شيان، الصين

جيش من الطين، شيان، الصين

هناك فسحة من خيال حين يردُ إلى السمع أو يمر بالذهن اسم: طريق الحرير.

فهذا الجمع بين “الطريق”، وما يكتنفه من غموض، وما يفضي إليه من تشعّب، وما يخفيه من إثارة ، تقابله وتجاوره مفردة “الحرير” وما تشي به من سلاسة، وما تعني من فخامة، وما تشير إليه من ثراء، الأمر الذي يجعلنا نفكر كيف أن للسحر دورًا في هذه التركيبة الغريبة؛ “طريق الحرير”.

وقد جاءت قصص الرحالة والمغامرين؛ المدوَّنة على هذا الطريق، وفروعه، لتؤكد ذلك المعنى المزيج بين النقيضين.

ومثلما يشي الخيال بهذا المعنى، يأتي الواقع ليؤكده؛ فالطريق الذي كان ممرا لدعاة السلام، ورهبان الأديرة، ومتصوفة الشعر، وشيوخ التجارة، وأمراء الثقافة، وصناع الحضارة، كان أيضا معبرا للغزاة الفاتكين، وقطاع السبيل الشرسين، وأساطين الحرب المعروفين، ومحاولي من قوانين الأرض وأقدار السماء.

من هنا تختلف قراءة كتاب طريق الحرير وفق قارئه، لا أقصد بالكتاب ذلك الذي أصدرته لي مكتبة الإسكندرية، ضمن مشروع لتوثيق ذلك الدرب، ولكن أدبيات طريق الحرير بشكل أشمل.

لكن السؤال الأساس هو كيف أرسى ذلك الطريق قواعد العصر الحديث؟

تأتي الإجابة بمثل سهولة السؤال؛ وهي أنه بفضل طريق الحرير استطاعت الحضارات القديمة، أن تتواصل، وأن تتثاقف، وأن تتناقل أفكارها، وأن تثري تبعًا لذلك من منتجها المادي والروحي معًا، بالشكل الذي قدم لنا نقلة نوعية، بدلت وجه العالم القديم، ليغرس بذرة العالم الذي نحن عليه اليوم.

يقول أديب الصين الأشهر لو شيون ” لم تكن هناك طرق في البداية، وإنما نشأت الطرق بعد السير عليها مرّاتٍ”.

فالأقدام التي عبَّدَتْ المسالك البرية، وصادفت الدروب البكر، أراها صاحبة الفضل في نشأة طريق الحرير الذي يشبه شجرة وافرة الغصون، وهي الطرق الفرعية، والظلال، وهي المحطات التي استراحت بها القوافل، والثمار وهي الحضارات المزدهرة في كل زمان ومكان.

كتابي ثمرة سنوات من الأسفار، سَفَر الرحلة، وسِفر القراءة. بدأ حين كنت أمتع البصر بتلك الصور في المجلات المتخصصة بأدب الرحلة، أبدأ القراءة، وأتملى الصور، ثم أغمض العينين، لأكمل مع رحالتها دروبهم. وحدث أن التقيت برحالة حقيقيين، مثلت الرحلة زادهم الذي يعيشون به وله. ثم بدأت المغامرة، وكأنها الشعلة التي لا تخبو، بل تزيد جذوتها توهجا مع كل رحلة، ما أن تنتهي حتى يبدأ التفكير في المحطة التالية.

في بداية عهدي بالسفر كانت هناك ندرة فيما يُكتب بأدب الرحلة، وفي ذلك النوع الأدبي تزيد الندرة في أن يكون المحتوى جديرا بتمثيل ذلك الأدب. ثم رأيت أن الشذرات التي نسمعها من دليل هنا، أو نقرأها في مرجع هناك، بحاجة إلى تقويم مستمر،وتصحيح متجدد، ولكن بعد أن نضع مربعا للبداية، وهذا المؤلف يمثل ذلك المربع، البداية وحسب، التي ينطلق قارئه بعد ذلك للتوسع والاستزادة.

وقد اعتمدت قراءتي الخاصة لطريق الحرير وفق أعمدة ثلاثة رأيت أنها تشكل قوامه، وتصنع تاريخه، وتؤكد أهميته، وكذلك تظل مفتوحة للإضافة والمراجعة والتجويد.

فالقسم الأول، الذي تتناول مواده محطات الطريق من المدن التي سادت أو بادت على جانبيه، والمعالم التي صمدت أو زالت من عمارته، تقدم صورة للراقات الحضارية التي شكلته، وللرقاقات المتراصة التي تسجل قصصه  وحكاياته اللانهائية.

أما القسم الثاني، الذي خصص للآداب والفنون، فيؤكد اتساع الطريق اللامحدود لفنون العالم القديم والمعاصر على حد سواء، باعتباره كنزا متجدد العطاء لا يزال يشي بأسراره اللانهائية.

أما ممالك وأعلام القسم الثالث، فيوضح بجلاء أمرين؛ الأول أن الخريطة الممتدة لطريق الحرير عرفت حدودا متغيرة، وقد تعاقبت عليها امبراطوريات وسلطنات ودول وحكومات، مثلما يوضح الأمر الثاني أن الطريق عرف ما يسمى بالمواطن الكوني،  فالتاجر يأخذ بضاعته من مكان، ليبيعها في آخر، وهو بين المحطتين؛ الأولى والأخيرة، له أوطان كثيرة. مثله مثل العالم، والمترجم، والطبيب، والكاتب، الذين تقرأ في سيرهم ترحالا بين عاصمة وأخرى، وتحت أكثر من سماء، وبأكثر من لسان، على طريق الحرير.

هذا الانفتاح، كذلك، كان له دور في الازدهار الحضاري الذي أشرنا إليه، فلا يصنع التقدم انغلاق، ولا تمهد للتطور عزلة.

ولعلكم توافقونني أن الكتابة مرآة صاحبها، حتى ولو كنا في مدار الحديث عن موسوعة ثقافية مصورة، ذلك أنني أقدم بين غلافين ما أريد، وما أحب، وما أهتم به، ولعل أحدا يتناول طريق الحرير يسلك غير ما سلكت، لأنه قد يحب الأسواق، مثالا، فلا يرى في طريق الحرير سواها، وقد يحب الأزياء فلا يتوقف عند مسمياتها وإنما يستطرد في تفاصيل أكثر، وهكذا.

من المصادر الصينية يمكننا العثور على بداية ذلك الطريق عند عدة خطوط رئيسية، أولها الطريق الذي كان ينطلق من تشانغآن (شيآن حاليًّا) ليعبر ليانغتشو (ووي) الواقعة في ممر خشي، وقانتشو (تشانغيه) وسوتشو (جيوتشيوان) وآنسي حتى يصل إلى واحة دونهوانغ؛ حيث يتفرع إلى الخط الشمالي والخط الجنوبي.

كان طريق الحرير الشمالي يجتاز الصحراء بداية من واحة دونهوانغ، ويتقدم مع السفوح الجنوبية من جبال تيانشان، فيمر بما يقع على امتدادها من توربان ويانتشي وتشوتسي (كوتشار) حتى يصل إلى مدينة كاشغر في أقصى شمال غرب الصين، بمنطقة شينجيانغ، قرب الحدود مع باكستان وقرغيزيا وأوزبكستان وأفغانستان والهند.

 

أما الخط الجنوبي فكان مستهله واحة دونهوانغ، ثم يتقدم مع السفوح الشمالية من جبال ألتن وجبال كونلون فيمر من شانشان (روتشيانغ) ويويتيان (ختيان حاليًّا) وشاتشه حتى كاشغر أيضًا. وكانت واحة دونهوانغ التي تقع عند ملتقى خطوط المواصلات بين الصين والغرب، همزة مواصلات بين الصين وآسيا الوسطى وغربي آسيا وأوروبا، ومركزًا للتبادلات الحضارية بين الصين والغرب.

Kashgarحين زرتُ قشغر (كاشغر) للمرة الأولى صيف 2008 تبين لي أهمية موقعها الاستراتيجي على طريق الحرير، ولا عجب في أنها كانت – ولا تزال – تعتبر البوابة الغربية للصين، كما كانت تعرف بدُرة طريق الحرير لما فيها من واحات وارفة الظلال غنية بشتى الإنتاجات.

وبما أني في كاشغر، فلا بدوأن أتذكر علامتها محمود محمود بن حسين بن محمد القشغري، من مواليد عام 1008، ينتمي لقومية الأويغور في قشغر بمنطقة شينجيانغ الأويغورية الذاتية الحكم بجمهورية الصين الشعبية حاليا. درس في المدرسة الدينية الحميدة ثم في المدرسة الدينية الشاكية العليا، المواد التالية: تاريخ الإسلام وفلسفة الإسلام وعلم اللغة وعلم المنطق وعلم الجغرافيا وعلم الفلك، كما تعلم الفروسية والرماية. وقد أثنى القشغري على نفسه في ديوانه فقال: “أنا أبرع الترك في فنون الكلام، وأفضل من يعبر عن الفكرة، وأنا أكثر أبناء الأسرة القشغرية في الدولة القرخانية فطنة وذكاء، وأكثرهم شجاعة وإجادة لفنون الحرب.” وهو عالم لغة عظيم أجاد اللغتين العربية والفارسية. أدركه أجله عام 1105 في مسقط رأسه كاشغر ودفن فيها، وتقع مقبرته المبنية على شكل قبة إسلامية فوق قمة جبل وور على نهر ووبار في قرية ووبار من محافظة شوفو بمنطقة شينجيانغ.

وإنما أذكره لأن خريطته في كتابه (معجم لغات الترك) تكشف سقف معرفة العالم للجغرافيا والإنسان حولها وفيها، وفي المعجم سجل كيف زار جميع مدن الترك وقراهم وسجلت لهجات القبائل المختلفة مثل “القبائل التركية والتركمانية والووقسية والكيجرية واليانغمووية والخيقسية، كما راجعت واستعملت تلك اللغات فحفظتها عن ظهر قلب”.

كانت الألفاظ التركية الخاقانية تكتب بالأبجدية العربية. وهكذا فإن هذا الديوان ظهر ليكون جسرا هاما للتبادل الحضاري بين أبناء آسيا الوسطى والعرب، وليسد حاجة العرب إلى تعلم اللغة التركية الخاقانية.

يشتمل “ديوان لغات الترك” على اللغة والأدب والتاريخ والدين والعسكرية والفلك والجغرافيا والملامح الطوبوغرافية والنوادر والنقوش والأمثال والحكم والنباتات والحيوانات والطيور والحشرات والعادات والتقاليد والأزياء والأدوات، كموسوعة في 7500 مادة لغوية تعكس حياة أبناء الشعب في منطقة شينجيانغ في القرن الحادي عشر الميلادي، كما يشرح محمود الكاشغري مصادر المفردات وكيفية استعمالها ومزايا لغة الترك. ويتضمن الديوان معلومات تاريخية بلغات الترك الخاقانية، حيث يقدم الفلسفة الإسلامية ويقدم وصفا لحوادث تاريخية هامة، وفقا لما رآه بنفسه وما سمعه من الحكايات. وسجل الكاشغري في الديوان أماكن الأسرة القرخانية والقبائل التي تتكلم اللغة التركية، مرفقا بها خريطة لأماكن انتشار القبائل التركية في تلك المنطقة. ودون أيضا بعض القصص الأدبية والقصائد والأغاني والأمثال، حيث يتضمن الديوان 20 قصة و237 قصيدة و279 مثلا، مما يبرز أهميته الأدبية والفنية. ولا يخلو الديوان من إشارات إلى مستجدات الحياة وقتها من زراعة وطب وأشغال يدوية وملابس ومجوهرات وعادات، ولهذا يعد مرجعا هاما لدراسة الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الدولة القرخانية.

هذا كتاب واحد، وتلك خريطة واحدة، ولكن يعطيان مدى التأثير الذي قدمه الطريق للعلم والعلماء وللإنسانية.

الطريق الذي يبدأ في كاشغر كان ينطلق باتجاه الغرب متفرعًا إلى خطين آخرين يدخل أحدهما في وادي فرغانة عبر فجاج تيريك دافن، ثم يمر بسمرقند وبخارى حتى مرو (مدينة ماري بتركمانستان حاليًّا)، أما الآخر فكان يجتاز هضبة البامير ويخرج من قلعة البرج الحجري ويمر ببكترا حتى مرو أيضًا.

الأيام التي عشتُها في مدن طرق الحرير، هي التي أحيت فيَّ فكرة كنتُ أظنها مرهونة بالتاريخ وحسب. فقد كان الغالب أن طريق الحرير مرتبط بالماضي، وأردت، بالبحث في متونه، والقراءة عن فنونه، والتنقل بين مدنه، أن أثبت أنه لم يمت. هكذا رأيته في سمرقند وبخارى مثلما عايشته في كاشغر وأوبال.

وقد كنتُ أظن أن طريق الحرير يمر بعشرين أو ثلاثين مدينة، فإذا بي أتخطى في عد المدن إلى أكثر من 160 مقصدًا لطريق الحرير، سواء كانت تلك المقاصد مدنًا سادت ثم بادت، أو بقاعًا غيرت أسماءها ولغاتها، وتعاقب عليها الملوك مثلما تبدلت بها الأديان.

كانت مدينة شيان أول محطة على طريق الحرير القديم. اتخذتها أسرة تشين ـ أول أسرة إقطاعية بالصين ـ عاصمة لها عام 221 ق.م  ثم أقامت عواصمها فيها أو في أماكن أخرى قريبة منها اثنا عشرة أسرة تبعت أسرة تشين منها أسرتا هان وتانغ. المقابر الإمبراطورية في هذه المدينة العتيقة تضم قبورا  بها رفات ثمانية وعشرين ملكا وإمبراطورا، وأكثر من 250 من أقاربهم ووزرائهم وجنرالاتهم. التماثيل الحجرية الضخمة لجياد ستة تحرس بوابة مقبرة تشاو وهناك تماثيل لجنود وخيول موزعة بالطريق إلى مقبرة تشيان لينغ، للإمبراطورة وو تسي تيان؛ والإمبراطور لي تشي مع زوجته والمقابر الأخرى. توصف شيانيانغ بأنها (متحف مقابر الأباطرة التاريخية)، حيث يوجد بها ما يزيد على 800 قبر ما بين كبير وصغير، منها 18 قبرا للأباطرة في أسرتي هان وتانغ، وبفضل بناياتها الضخمة والفخمة يطلق عليها “الأهرامات الصينية” و”متحف التاريخ الطبيعي”.

هذا المثال الحي يمكننا أن أن نعول عليه بالقول إن كل مادة في ها الكتاب، هي نواة لكتاب مستقل، لذلك أزعم أن لدينا بذورا لأكثر من أربعمائة كتاب، على هذا النحو.

حين دخلت الصين في عهد أسرة هان الغربية (206ق.م-25م)، بدأت الاتصالات بينها وبين المناطق الغربية تنشط أكثر فأكثر، حيث كانت القوافل تتتابع وتتعاقب على مدى الأنظار. ويعود جُلُّ هذا النشاط إلى تشانغ تشيان الذي شق الطريق إلى المناطق الغربية، إذ رحل إلى المناطق الغربية بصفته مبعوثًا إمبراطوريًّا مرتين، الأولى في العام الثاني من فترة جيان يوان (139ق.م)- في عهد الإمبراطور وودي من أسرة هان، والثانية في فترة شوسي (119ق.م) من عهد الإمبراطور نفسه، وخط سفره هو ما سبق ذكره على الوجه التقريبي من الخطوط الممتدة بين تشانغآن ومرو، فكان هو ومرافقوه أول من رحلوا عن الصين بصفة رسمية إلى تلك المناطق حيث قاموا بالاستطلاع الميداني وربطوا بين خطوط المواصلات بجهودهم المستمرة، مما مكنهم من إقامة الخط الرئيسي للمواصلات بين شينجيانغ وغربي آسيا عبر أواسطها والتعرف بعمق على أحوال البلدان التي تقع على امتداد طريق الحرير، فأقاموا وعززوا روابط الصداقة بين أسرة هان وأبناء آسيا الوسطى ومن بينهم العرب، ودفعوا عجلة التبادلات الاقتصادية والثقافية بين الشرق والغرب إلى الأمام، بينما وثقوا الصلات بين أبناء أواسط بلاد الصين وأبناء أقليات المناطق الغربية. وتحمل رحلة تشانغ تشيان مغزى بالغ الأهمية في تاريخ المواصلات بين الصين والغرب من جهة، وفي تاريخ العلاقات الصينية العربية من جهة أخرى.

على طرق الحرير المختلفة سافر التجارُ مع الرحالة، وانتقل النساك مع المغامرين، وعبرت جيوش الغزاة وفلول المهاجرين، فأقاموا في مدينة، أو أنشأوها من العدم، وربما أعادوا بناء أخرى فوق قديمة دالت. فكانت لهم مدن، ارتبطت بهم، وارتبطوا بها.

كانت الرحلة تبدأ – كما قلنا – على ذلك الطريق من تشانغآن، العاصمة المزدهرة لإمبراطورية تانغ (الصين)، إلى وسط وغربي آسيا والدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط عبر هذا الطريق مع قوافل الإبل المحملة بأفضل المنتجات لكل برٍّ تعبره القوافل. فمن الصين جاء الحرير والمخترعات الأربعة (البوصلة والبارود والورق والطباعة)، حيث ستعود بالعنب والجوز.

وكان العرب – حتى قبل ظهور الإسلام – وسيطًا تجاريًّا مهمًّا بين الشرق والغرب؛ حيث كانت التجارة القادمة من الشرق (بخاصة الهند والصين) تمر ببلاد العرب عبر طريقين رئيسين؛ الأول يمر بعدن في جنوب غرب اليمن بالبحر الأحمر، حيث تأتي السفن، بعضها يواصل سيره في البحر الأحمر إلى ميناء القلزم (السويس) في مصر، ثم تفرغ حمولتها، وتنقل البضائع بالقوافل إلى الموانئ المصرية على البحر المتوسط، وبخاصة ميناء الإسكندرية، ثم تشحن في السفن بحرًا مرة أخرى إلى أوروبا، وبعضها الآخر يفرغ حمولته في عدن، ثم تحملها القوافل برًّا عبر الساحل الغربي لشبه الجزيرة العربية، المطل على البحر الأحمر، وتمر بمكة المكرمة، التي كانت مركزًا تجاريًّا مهمًّا، وبعضها يواصل سيره إلى ميناء غزة في فلسطين.

أما الطريق الآخر فكان يمر عبر الخليج العربي، حيث تواصل السفن سيرها وتفرغ حمولتها في أقصى شماله، بميناء الأيلة غربي البصرة (العراق)، ثم تنقل البضائع على القوافل برًّا عابرة العراق إلى الشام؛ حيث تفرغ حمولتها في موانئ عكا وصور وصيدا وبيروت واللاذقية وأنطاكية، ثم تشحن بحرًا إلى أوروبا.

قامت التجارة في أغلبها على جلب الحرير من الصين، والتوابل والبخور من الهند. كانت هذه البضائع مطلوبة على نطاق واسع في أوروبا، وكان العرب يقومون بدور فعال ونشط في عملية التجارة هذه، وقامت حياة عرب الحجاز – مثالاً – وبصفة خاصة قريش، على التجارة.

في العصر الأموي لم يعد العرب وسيطًا تجاريًّا لنقل البضائع بين الشرق والغرب، وإنما أصبحوا سادة الموقف كله، بعد امتلاكهم الطرق التجارية البحرية والبرية، من الصين إلى الأندلس. فبالإضافة إلى ما سبق الحديث عنه بسط المسلمون سيادتهم على الطريق الذي يبدأ من شمال الصين، ثم يجتاز هضاب وسط آسيا وسهولها (بلاد ما وراء النهر) ثم يتفرع إلى عدة طرق، تنتهي كلها إلى موانئ البحر الأسود والبحر المتوسط، ويمر معظمها في الأراضي الإسلامية، ثم تنقل التجارة إلى أوروبا الشرقية والجنوبية، أمَّا أوروبا الغربية وشمال إفريقيا والأندلس، فكانت معظم تجارتها تأتي من الطريق الأول عبر الموانئ المصرية.

سيطر المسلمون على النشاط التجاري في تلك الرقعة الواسعة من الأرض وأصبحت بلادهم تصدِّر البضائع والمنتجات إلى بلاد الشرق والغرب. فتصدر إلى (الصين) المنسوجات الصوفية والقطنية والكتانية، والبُسُط، والمصنوعات المعدنية، وخام الحديد، وسبائك الذهب والفضة، كما كانت تستورد منها الحرير. وقد ساعد على ازدهار تلك الحركة التجارية العالمية اهتمام الدول الإسلامية المتعاقبة على حكم تلك البلاد بإنشاء الطرق، وتعبيدها وتأمينها، فكانت القوافل تسير في طرق آمنة، تنتشر على جوانبها الفنادق والاستراحات والأسواق.

كما كانت التجارة أعظم مصادر الثروة في العهد المملوكي؛ إذ قاموا بتشجيعها، وعقدوا المحالفات والاتفاقات التجارية مع سلاجقة آسيا الصغرى، وإمبراطور القسطنطينية، وملوك إسبانيا، وأمراء نابلس، وجنوة، والبندقية وكاد المماليك أن يحتكروا تجارة الهند، وخاصة التوابل، بالاتفاق مع أمراء الموانئ الإيطالية.

قد يكون طريق الحرير مسلكًا فوق الرمال، وممرًّا بين الجبال، ودربًا يقطع الفيافي، وجسرًا يعبر الأنهار، وحياة كاملة فوق قافلة تمضي شهورًامن مكان إلى آخر، لكنه قبل ذلك كله صنيعة الإنسان.

في القرن الخامس الميلادي، عرفت شعوب الأرض، للمرة الأولى في تاريخها، مدينة يبلغ عدد سكانها المليون نسمة، تلك كانت تشانغآن، في زمن لم يكن أحد يدري عن قرية لوتيتا شيئًا؛ وهي التي ستصبح لاحقًا عاصمة فرنسا؛ باريس، وفي زمن كان صيادو السمك قد بدأوا يتجمعون عند نهر التايمز فيما سيكون لندرة، وعصر كانت فيه موسكو تحت المعاول تنشأ، ولم يكن كريستوفر كولومبس قد تحرك نحو عالمه الجديد بعد. لذلك كان طريق الحرير ابن هذه المدينة وأخواتها من المدن الزاهرة في عصرها والعصور اللاحقة، والتي واصلت تألقها حتى ظهر طريق الحرير البحري بعد الاكتشافات البحرية لخطوط الملاحة حول رأس الرجاء الصالح.

ربما تمر اليوم بمدينة عتيقة عرفت مكانها، ومكانها على طريق الحرير لمئات السنين فتتناهى للسمع أصوات جلبة السوق، وضوضاء الباعة، ونداءات المعلنين. حين يتميز النهار بضوء واهن يدفع الليل من أجل يوم جديد، يغني لحياة متجددة. يعلو صوت المؤذن فوق المنارة العالية بالمسجد القريب من السوق، داعيًا المؤمنين للصلاة الأولى، بينما يحمل باعة الفحم بضاعتهم مشتعلة نحو زبائنهم المعتادين. تبدأ رائحة الخبز الساخن تفوح فتغطي على ما عداها من روائح، وكأنها تطعم الأنوف قبل أن تغذي البطون، وتتحرك مع جوع القادمين لميدان السوق. يتوقفون وهم يطالعون مقدم قافلة على موعدٍ لها مع القائمين على التجارة. يعجل رجل عامل من إنهاء فطوره ليلحق بدوره أمام القافلة، لم يكن الفطور سوى رغيف خبز ساخن شهي وزيت سمسم، ومقدار لبن رائب، وبعض البقول المطحونة، والعجين المخلوط. يعبر وهو يهرول بمطعم يفطر عنده القادرون؛ يبسط صاحبه على موائده صحافًا ستمتلئ بعد قليل بالعجائن المحشوة باللحم، والكعك الساخن بوجناته المتوردة. غير بعيد، هناك قوارير زجاجية يحتوي كل منها على شراب له طعم وله ورائحة ليست لسواه. وهناك أيضا الفواكه المجففة والأرز متعدد الألوان والخضروات الطازجة. يهرول الرجل الذي يعمل حمالاً وهو يتفادى – في الطرق الملتوية كحية داهية – أن يكسر مزهريات خزفية، أو يوقع صفًّا من العمائم المتراصة، وعيناه تصافح وجوهًا قدمت من كل أنحاء الأرض؛ إنه صباح متكرر كل يوم، وبأي شهر، وعلى مدار العام، ولقرون طويلة.

ماذا كان يجذب الناس، باعة ومشترين، في السوق الكبيرة؟ ما هي البضائع التي حملتها قوافل طريق الحرير؟ ستجد الروس أرسلوا بضاعتهم من فراء الثعالب والدببة القطبية، ومن مدربي القنص ستجد باعة الصقور المدربة على الصيد، ومن كل مكان ستأتي الأقمشة المرغوبة في كل سوق، مثلما ستباع البخور التي تتوق إليها المعابد البوذية. هنا سيباع العسل والشاي، والفضة والذهب، والدمى الخشبية والسهام المعدنية والدروع الحربية والسجاد والحلي، والأرز مع كافة الأطعمة المجففة. هنا سيباع كل شيء، قادم من كل مكان. وهنا سيباع الحرير.

لكن مع التجارة جاءت ثقافات، وألسنة ولهجات، وفنون وآداب، وهاجر أعلام، وتنقل رحالة، وهنا ظهرت أهمية طريق الحرير كشريان عبر نبضه عن حياة العالم.

 

في القسم الثاني بالآداب والفنون التي اشتهرت في أرجاء طريق الحرير جمعتُ بعضًا من أشهر المؤلفات التي صنفها رحالته، ولم تقتصر الفنون على الشائع منها، ولكنها شملت فنون الحياة اليومية بما فيها من فنون الطعام بما يوضح الفكرة التي أؤمن بها بأن البشرية تأكل فوق منضدة واحدة، ونحن نمد يدنا في الجزء الذي نأمن إليه، وربما لو غيرنا مكاننا على المائدة، بالسفر أو الهجرة مثلاً، لاستطعنا أن نتذوق مما على الطرف الآخر من المائدة.

في مادة بعنوان سبعة أقداح من الشاي، تحكي عن لو تونغ (790- 835م)، وهو  شاعر من أسرة تانغ لم يكن مشهورًا بقصائده فحسب وإنما بولعه بالشاي.

كتب لو تونغ أكثر من مائة قصيدة ولكن “سبعة أقداح من الشاي” فقط هي التي بقيت حتى يومنا هذا.

كان احتساء الشاي هوايته الأولى ولهذا كانت هدايا أصدقائه من المناطق الأخرى إليه بعض الشاي. ذات مرة، شعر لو تونغ بإحساس جميل بعد ارتشاف قطرات من شاي جديد قدمه صديقه له. واصل الشاعر الشرب حتى احتسى سبعة أقداح ثم كتب القصيدة:

“بعد قَدَحٍ ترطّبَ الحلقُ/ وبعد اثنين تخفّفَ الهمُّ/ وبعد ثلاثةٍ توقّدَ الذّهْنُ/ وبعد أربعةٍ ذهبَ الكَدَرُ وظهرَ عرقٌ خفيفٌ/ وبعد خمسةٍ ارتاح البدَنُ/ وبعد ستةٍ شعرتُ بأني خفيفٌ مثل الملائكةِ/ بعدَ السَّابع بدا أن الريح تهب تحت إبطيّ”.

وقد درج الناس على قول ريح تحت الإبط تلخيصًا للشعور الجميل باحتساء الشاي.

وجعلت الجزء الأخير للممالك والأعلام التي عرفها طريق الحرير خلال نحو 16 قرنًا. وإذا كنتُ قد حاولت أن تكون الممالك حصرية، فقد كان من الصعب أن يكون الأعلام بالمثل، وإنما أحضرت من قد تكون أسماؤهم قد وردت في متون المدن أو شروح الفنون أو مسارد الآداب.

من بين السطور يمكننا رسم خرائط موازية، طبقة فوق أخرى، للممالك وهي تنتقل من عهد لآخر، ومن أسرة لسواها، ومن امبراطور لغيره، لنؤمن أن حكمة التغيير هي التي تحكم هذا العالم، وأن الأمم التي حافظت على كياناتها هي التي استطاعت أن تستجيب لنداء الزمن.

اليوم نتحدث عن عصر ما بعد هذا الإصدار، حيث أصبح “طريق الحرير” صنو الأخبار اليومية، ليس بسبب النوستالجيا، أو الرومانسية، أو الآداب والفنون، وإنما لأنه عصب الاقتصاد بين آسيا والعالم.

والمتابع للاقتصاد العالمي سيطلع على أكثر من مبادرة لإحياء طريق الحرير اقتصاديا، عبر سلسلة عصرية من الشبكات المرورية للتبادلات التجارية، برا وبحرا، لتعيد مجد طريق الحرير مع أحفاد الذين أنشأوه وعاصروه وازدهرت حضاراتهم بين ربوعه. ولينتقل الطريق من التاريخ إلى المستقبل.

 

*

محاضرة ضمن برنامج “الملتقى” – معرض أبو ظبي الدولي للكتاب| 27 أبريل 2017

 

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات