مجلة العربي تحتفل بعيد ميلادها الستين: وراء كلِّ غلافٍ رحلة

06:23 مساءً الأربعاء 9 يناير 2019
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

كعهد كل من أمسك قلما ليكتب، من جيلي على الأقل، كنتُ أمتلك عالمي الخاص والملون مع “العربي”؛ المجلة التي ولدت في ديسمبر 1958، وتحتفل هذا العام بعيدها الستين. ففي رحلتها الطويلة طافت المجلة بكل بيت عربي عاشق للثقافة، ورسخت في العربية مادة الاستطلاع، أو أدب الرحلة المعاصرة المصورة.

وقد ارتبط غلاف “العربي” على الأغلب بوجه حسن، لفتاةٍ أو سيدة ترتدي زي بلادها، وتقف بين أحد معالمه التاريخية الأثرية، فأصبح الغلاف مثل عملة ورقية من بنك الذاكرة المركزي،  لأنك حين ترى الغلاف ستقرأ ما وراء الصورة؛ في التفاصيل التي يبوح بها المكان، وتنطق بها تفاصيل الأزياء وتكشفها حُليُّ النساء.

في بواكير الستينيات كانت البلدان العربية تشهد موجة من التحرر الوطني، واكبتها “العربي”، حين قدمت المرأة العربية ليس كموديل أنثوي استشراقي، وإنما كفاعلة في مجتمعها الجديد، ولذلك كثيرا ما رأينا الطالبة والقارئة والطبيبة والفنانة، مثلما طالعنا المقاوِمة والمُزارِعة والأيقونة. ويذكر القراء فريق مستطلعي “العربي”، جيلا بعد آخر، لعل أولهم على الإطلاق الكاتب سليم زبَّال، والمصور أوسكار متري.

في معية رئيس تحريرها الأول؛ الدكتور أحمد زكي، كان سليم وأوسكار يجلسان لاختيار صور الاستطلاع، وصورة الغلاف، من بين مئات الصور التي عادا بها من كل رحلة. وكانت الرحلة الواحدة ـ عادة ـ تطوف طويلا، ليرجع الرائدان بحصيلة تكفي أعدادا، وتغطي مدنا وبلدانا. وفي عهد الصحافة الثقافية المبكر هذا، ظلت “العربي” نافذة العرب على وطنهم العربي الكبير، كما كانت تدعو في أول سطر قراءها لمعرفته.

2005-FEBRUARYالغلاف الأول

ذات سفر، لم يستطع المصور أن يرافقني، وأبديتُ لرئيس التحرير آنذاك ـ الدكتور سليمان العسكري ـ رغبتي بأن أصوّر، وطمأنته بأن لدي خبرة وشغفا بالصورة والتصوير، فاتصل بقسم التصوير لآخذ كاميرا من ستوديو المجلة، وكانت خطوة توجّس منها الزملاء المصورون، فأعطوني آلة لم أعرف أنها معطوبة إلا حين وصلت الشام في رحلتي الأولى، فكانت تلتقط صورة وتنام بعدها يوما، ولم تسعفني إلا كاميرتي الاحتياطية! كانت تجربة علمتني أن تكون لي معداتي الخاصة، والإحترافية خلال سني عملي في “العربي” (2002 – 2016)، وهو ما حدث في الرحلة التالية إلى قرطبة.

هناك وبعد أن عبرتُ القنطرةَ الرومانية، التي يقف في وسطِها تمثال القديس رافائيل وتحت قدميه شموع المتبتلين، محاطة بالشرائط الحمراء، وبقايا الدموع والدعوات والبركات، وصلت إلى الطرف المقابل لرصيف منتزه مسجد قرطبة الجامع حيث ينتصب برجٌ أصبح متحفا، لا يزال يحمل اسمه العربي: برج القلعة الحرة أو Torre Calahorra بالإسبانية. دخلت «متحف الحياة الأندلسية» أو متحف الثلاث ثقافات، الذي تشرف عليه مؤسسة روجيه جارودي، بعد إعلانه أثرا في 1931، والذي بدأ دوره كمتحف عام 1987 ميلادية، وهو متحف يعبر عن السماحة التي غمرت المدينة حين تعايش المسلمون واليهود والمسيحيون فيها.

عند المدخل تسلمت سماعةَ رأس، تختارُ بواسطتها بين أربع لغات ـ الألمانية، الإنجليزية، الفرنسية، الإسبانية ـ تعليقا يصاحبُك كلما دخلت غرفة من غرف المتحف. تدخل المكان، وتضغط الزر، فينساب التعليق الشارح بالموسيقى والمؤثرات السمعية والبصرية لما تراه أمامك من مجسمات تحكي لك نظام الري الذي ابتدعه المسلمون في أوج ازدهار الحضارة الأندلسية، وصور الحياة في قصور الخلفاء، ومدينة الزهراء، ومجالس الحريم، ومسامر الأمراء، ورحلات القوافل، ومعمار البساتين والمنازل، حتى قصور الحمراء في غرناطة، يضم «متحف الحياة الأندلسية» نموذجًا كاملا لها، تستطيع أن تلقي عليه نظرة طائر.

كان معي المصور المخضرم فهد الكوح، وعند الخروج جاءتني فكرة أول صورة تنشر لي على غلاف “العربي” (قرطبة، القلعة الحرة، فبراير 2005). وكانت للفتاة التي تسلمنا السماعات في المتحف، فاستأذنتها أن تترك مكانها بالداخل، لألتقط لها صورة مع الجسر الأشهر فوق نهر الوادي الكبير، فلم أكن أحب أن ألتقط الصورة ثم أقصها لأركِّبها على خلفية أخرى … كما صارت الصحافة تتخذ من الفوتوشوب أداة ترتكب من جرائم الكذب الفني أكثر مما تضيف.

2005-NOVEMBERوطالتني هذه الجريمة نفسها، في غلاف صوَّرتُه خصيصا لاستطلاعي “نيل القاهرة”، حيث سألت زميلة إعلامية في القاهرة أن تجد فتاة تسمح بأن تكون صورة غلاف للنيل على مجلة “العربي”، ورغم أن الموعد المحدد صادف يوما خماسينيّ الغبار، إلا أن الفتاة جاءت، وذهبنا كفريق مع زميلتي؛ وهي خالتها، وكان أنسب مكان يطل على نيل القاهرة ويحمل طابعا شرقيا هو حديقة الأندلس.

بعد تسليم الأغلفة والصور، كنت على سفر حين نشر العدد، وفوجئت أن الغلاف لم ينشر بالصورة التي صممتها، بل وضعوا صورة تمثل فلاحة من فرقة شعبية فوق صورة الغلاف الأصلية، ولا تمثل نيل القاهرة على الإطلاق (العربي، نوفمبر 2005)، ولم أستطع الاعتذار للفتاة وزميلتي.  ولكن شاءت الأقدار أن تخصص “العربي” عددا عن أمير الشعراء؛ أحمد شوقي، وهنا تذكرت أن من بين الصور التي التقطتها لفتاة نيل القاهرة كانت لها صورة أمام تمثال شوقي في الحديقة نفسها، فجاء الغلاف بعد سنوات تعويضا لمن ظلمهم الفوتوشوب (العربي، أكتوبر 2012) .

October 2012

موسم الهجرة إلى الصور

2005-JUNEوتوالت الأغلفة من مصر إلى الهند، ومن تونس إلى تتارستان، ومن فيتنام إلى كوريا الجنوبية، بالقلم والعدسة معا، ورغم أنني صوَّرت استطلاع “موسم الهجرة إلى السودان”، إلا أن اسمي وُضع فقط على صورة الغلاف (العربي، يونيو 2005)، وكان لفتاة من الجنوب، أيام السودان الموحَّد، تدرُس في كلية العلوم بالعاصمة، وكانت صورتها من بين الأغلفة المختارة لندعو صاحباتهن إلى الاحتفال باليوبيل الذهبي، ولكن التعذر اللوجستي للتنفيذ جعلنا نستقر على أن تحضر السيدة التي ظهرت على أول غلاف لمجلة  “العربي” وهي تحتفل بعيدها الخمسين فتاة الغلاف الأول، وهي تمسك ذلك العدد النادر الذي حمل صورتها.

Goldenكنت أعرف أنني أتجاوز خطوطا حمراء حين أضع صوري _ في اختيارات الأغلفة _ أمام صور الزملاء المحترفين، خاصة في الاستطلاعات التي يصحبني بها مصور، وهو حرجٌ لم أصادفه حين كنت أكتب الاستطلاع وأصوره بالمثل، في نهج بدأتُه في “العربي”، وأصبح بعدي أمرا مقبولا واعتياديا. مثلما سافرت وحيدا إلى ألمانيا ربيع استعداداتها لاستضافة كأس العالم 2006، وزرت تسعة ستادات في تسعة مدن استقبلت آنذاك أهم المباريات، وقادتني المصادفة إلى حضور جلسة تصوير في برلين لقناة تلفزيونية، فكان أن جعلت المذيعة غلافا لاستطلاعي “كأس قياصرة العالم”، يونيو 2006، تظهر فيه حاملة كرة المونديال.

لكنني لجأت مضطرا ـ في اليمن ـ لأن أستعمل الفوتوشوب، حيث كان استدعاء فتاة وتصويرها أمام مسجد في مدينة تريم عاصمة الثقافة الإسلامية من المستحيلات السبعة في تلك المدينة المحافظة، وكان أن ساعدني الدكتور الباحث والمبدع نزار غانم في أن يستأذن إحدى جاراته في صنعاء أن تسمح لابنتها بالتصوير من أجل عيون “العربي”، وظهرت العدنية المقيمة في صنعاء وخلفها أشهر مساجد حضرموت.

ولم يكن الأمر مختلفا في واحة سيوة، لأن الفتاة التي دعاها دليلُنا، التقطتُ صورتها داخل البيت، وهي ترتدي ملابس العروس الأثقل منها، واستبدلت الجدار خلفها بحارة ظهرت على الغلاف المطبوع تبين كيف تسير النساء بعباءاتهن السوداء.

DSCF3914 SalimZabbal smallوحين حاورت المستطلع الأول للعربي، في لقاء نشر بعدد اليوبيل الذهبي، رأى الأغلفة، وحكى لي إنهما، هو وأوسكار، كانا يؤديان دور المخرج، في تركيب الكادر، بين الفتاة بزيها، والمكان بآيته المعمارية، وأنهما كانا يتظران العودة وتحميض الأفلام وطباعة الصور ليروا نتيجة ما فعلوه، عكس ما يستطيع المصور اليوم من مراجعة الصور الملتقطة في موقع الحدث.

في رحلتي إلى كوجرات، شمال غربي الهند، حيث أحمد آباد وسورات وغيرهما، مضت الأيام سريعا، ولم يظهر غلاف، حتى دبر الدليل دعوة لحضور حفل زفاف ليلة السفر، فكانت صورة استطلاعي للعروس في قلب الطقوس “تحت سماء كوجرات” (مارس 2006). ولكن قد تمر أيام الاستطلاع نترقب فيها فرصة ظهور فتاة الغلاف، كما ينتظر قناص هدفه، وأجمل الصور هي الطبيعية، ولكن كيف يمكن أن تصور مثلا وجها نسويا في طهران؟

2006-MARCH august-2013

اتجهت للعاصمة الإيرانية لأحتفل بصدور أشعاري المترجمة في معرض الكتاب، وهالني أن الشارع الإيراني سحنات أهله لا تبتسم، كأن مسحة من الألم في الصدور تعبر عنها الوجوه. تتجول الكلمات والصور بين العمائر والبساتين، تتأمل الوجوه، في الخلاء والزحام، تقارب بين الليل والنهار، تتعرف على ثقافة الشهداء، وتتأمل حضارة الأحياء، تتنقل ما بين قصر الشاه، وبيت الإمام، أستكين لدليل يقودنا، أو أهرب لأرى ما يفاجيء، لأقدم صورًا ووثائق تنشر للمرة الأولى،كيف سأجد وجها نسويا وباسما، كان هو سؤالي. وأمام المكتبة المركزية كانت الإجابة حيث جلست جامعية زميلتها تفطران، استأذنت في التصوير، فسمحتا، وكان الفوتوشوب لاحقا يضع خلفية مناسبة بدلا من الكراسي الحجرية ووجوه المتطللعين لي وأنا أصور غلاف طهران (أغسطس 2013).

costa small Sept 2010

توالت الأغلفة، مع كل رؤساء تحرير العربي اللاحقين، مثلما تواترت المصادفات، والترتيبات، وكان السؤال التالي: هل يجب أن يكون الغلاف لوجه نسوي؛ والإجابة هي لا بالطبع، لأنه أحيانا تلتقط صورة مناسبة ولكنها لا تصلح لأسباب محافظة رقابيا، فقد تدخل الفوتوشوب ـ قسرا ـ ليغطي ذراع المرأة على غلاف استطلاعي “كوستاريكا:قصيدة الفردوس والبركان”. كما كانت هناك رغم ما رأيت فيها من جمال، لم تحظ بالنشر، لا على الغلاف أو في المتن، مثل صورة العرس الفيتنامي فوق دشمة أمريكية مدمرة بأعلى قمم هاي لاند!

vietnam small

2006-OCTOBERعلى غلافنا رجل

ولكن خارج الإطار النسوي المعتاد للغلاف كان للرجل نصيب ولو ضئيل. ولعلي تبركًّا أبدأ بغلاف عزيز، هو المصلي سمح الوجه والقلب الذي صادفني في حلب، داخل الجامع الأموي الكبير، وكانت تصحبني زوجتي، والتقطت لي فيديو وأنا ألتقط صورة هذا الغلاف. داخل المكان المهيب، وإذا واجهتَ القبلة فستجد الرجال على اليمين، والنساء إلى أقصى اليسار، لا يفصل بين المؤمنين والمؤمنات باب، أو ستار، أو جدار، فالكل موجهٌ وجهه شطر الخالق.  إن سماحة الحلبيين في الدين وانفتاحهم أمام الدنيا، يجتازان عتبة الباب الكبير إلى داخل الجامع. قد تأتي كثيراتٌ بلا استعداد لزيارة المكان والتبرك به والصلاة فيه، فيجدن عند مدخل النساء الخارجي من الشارع حارسًا يؤجر لهن بليرات قليلة ثوبا محتشما ذا قلنسوة تغطي الرأس، كالعباءات المغاربية. لكنهن ما إن يدخلن، حتى يشاركن الرجال في الميضأة، مثلما يصلين كما أسلفنا في حرم المكان.

أجمل الأغلفة … لم ينشر بعد

وكما قال ناظم حكمت، أكرر إن أجمل الأغلفة هو الذي لم ينشر بعد، فالأمر منطبق على غلاف حلبي آخر!

Feb 2006وأنت حين تسكنُ مدينةَ حلب، لن يدهشَكَ أمران، في الناس والمكان. ففي قلب كل حلبيٍّ ركنٌ للموسيقى، مغسولٌ بالبهجةِ والطرب، وفي كل زاويةٍ من مدينتِه حديثٌ للحجر، ممزوجٌ بالتاريخ والأدب. وإذا كانت الموسيقى في الحي الحلبي تصدحُ بكل ما فيها من شجن عاشق وحنين إلى الأصالة، فإن المسافة في المدينة العريقة بين الإنسان والمكان لا يتبينها أحد، لأنها لا تكادُ تبدو، بعد أن ألَّف بينهما حبُّ زادتُه السنون رصانة، فأصبح كل حلبيٍّ سفيرَ مدينتِه حين يتحدثُ، وصوتَها حين يغني، وعقلها حين يفكر، وشاعرها حين يكتب. وهذا هو مثلا ما أجده لدى صديقي المؤرخ محمد قجة، ابن المدينة الذي لا يحب أن يغادرها، حتى وهي تتألم.

سألته أنني بحاجة لغلاف يناسب استطلاعي: “حلب … موسيقى البشر والحجر”، الذي نشر لاحقا في عدد فبراير 2006. وكان لدى زوجته مدرسة، فاستأذنتها أن أصور إحدى المدرسات لغلاف العدد.

بعد طباعة الغلاف، فُجعت دولة الكويت برحيل أميرها الشيخ جابر الأحمد الصباح، فكان أن استبدلنا الغلاف وأضفنا ملزمة أولى تأبينية لصفحات العدد، ولكنني لم أنس أن أحتفظ بأرشيفي الخاص بنسخة كاملة من العدد نفسه بغلافه الأصلي؛ لعل تلك النسخة أندر ما أقتنيه من أعداد المجلة، بين ملايين قرائها، الذين يطالع بعضهم هنا  هذا الغلاف للمرة الأولى.

2006-JUNE Jan 2013 Jan 2016 May 2015 Mrch 2015

 

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات