الثورة السودانية: أنشودة شعب لا تنتهي

07:14 صباحًا الأربعاء 7 أغسطس 2019
د. حسن حميدة

د. حسن حميدة

الدكتور حسن حميدة كاتب لأدب الأطفال واستشاري تغذية في المحافل العلمية الألمانية

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print
د. حسن حميدة - ألمانيا

د. حسن حميدة – ألمانيا

لا تأتي الثورات من العدم، وللثورات أسباب. الحال هو حال الثورة السودانية كعروس في ثوب زفاف جديد. أتت الثورة بسبب إستهوان دولة الكذب والنفاق بالمواطن في بلده، وبنسيان متطلباته اليومية للحياة من الماء والخبز والوقود والكهرباء وغيره من ضروريات. أتت لعدم الإيفاء بحقوق المواطن في الغذاء والعلاج والتعليم والتوظيف وما شابهه من أشياء. السودان، البلد الذي يصدر الغذاء من منتوجات زراعية وحيوانية، ليستورد الدواء لمعالجة كثير من الأمراض. البلد الذي يستعين فيه الأطفال الصغار في نموهم على شرب الحليب المجفف إن وجد، ويموتون عاجلا بسبب أمراض سؤ التغذية، أو آجلا بسبب هشاشة العظام وتوابعها من أمراض. الوعود الكاذبة للمواطن ومنذ سنين، وعود مغلفة بالشعارات الدينية، التي هي أسمى لها أن تحفظ بعيدا عن دهاليز السياسة. الكلمات الجوفاء والخاوية من كل محتوى ومعنى، والتي يقصد بها تحريك هواجس نفوس منهكة، واللعب بعواطف البسطاء. أتت بسبب تهميش الراعي والمزارع والعامل، وتجاهل المناطق الطرفية ونسيان الجهات البعيدة عن المركز. أتت الثورة بسبب غض النظر عن الأجر الذي يستحقه العامل إذا عمل أو الموظف إذا قام بآداء واجبه على أكمل وجه. ثلاثون عام من الحكم الدكتاتوري المستبد تكفي، الحكم الذي لم يكن بإمكانه ترك المجال للمواطن، لأن يعيش بكرامة أو يموت بكرامة. وعود في وعود، كان آخرها ما سمي بالمشروع الحضاري، ولو صحت التسمية، لصلح إسم “المشروع الحرامي”. الحكم الذي جعل من أغلبية أهل السودان الأصليين، أقلية مغلوبة على أمرها وفي عقر دارها. أقلية مجردة من كل شيء، وليس لها صلاحيات فيما هو موجود من نعيم وخير. صلاحيات تؤتى لمن أتى للبلاد بالأمس، وتضمن لكل مجرم من ملة الجشعين والبخلاء، أتى داقا لطبول الهوس والمدح والخداع ، بأن أرض السودان هي أرض الخير والبركة، لمن حل بها إلى أبد الآبدين. بلاد يستورد مسؤوليها للمواطن كل ما هو مضروب أو غير صالح للإستعمال من الغذاء إلى الدواء. بلاد لا يسمح لمواطنها المستبعد والمنفي في داره، الإستمتاع بما ينتج من لحوم وحليب وفاكهة وخضروات وحبوب وزيوت وغيره، في حين تصدر فيه منتجات السودان الطبيعية طازجة، لتغذي كل الأسواق العالمية وفي كل يوم. وبه صار مواطن السودان الأصلي يدخل بلاده، ويخرج منها وكأنه غريب عليها. أين صورك، رغمك، كرتك، جوازك، وأين جنسيتك؟ أدفع رسومك، عليك غرامة، أمشي وتعالى في غد. تفتيش وهو داخل، تفتيش وهو خارج، لؤم، بطش، إستهزاء وأستغلال. كله لا يحل، الحل أن تذهب أبديا وألا تعد، فأنت من المغضوب عليهم، وغير المرغوب فيهم.

 

لقد أتى بالثورة الجيل اليافع من شابات وشباب، في وقت كانت تغط فيه كبار الشخصيات في نوم عميق، ولأكثر من ثلاثين عام. كان منهم من يتلون، ومنهم من يمكر، ومنهم من يداهن، ومنهم من يخادع، وكان منهم من هو بائع لوطن بشعبه ومبادئه دون مبالي بأبخس الأثمان. لم يشتري النظام البائد مغلوبي الحيل وضعفاء الإرادة فقط، بل أشترى منهم أيضا، المتأرجحين في الرأي ورخيصي الذمم. لم يسوق النظام الذي أفلح في شق البلاد لقسمين في بيع الأراضي والثروات فقط، بل سوق الهوية السودانية لفئة من المجرمين وتابعيهم بحفن من الدولارات. الخيار للشعب السوداني بعد ثورته واحد: إما الخروج من عنق الزجاجة الضيق، أو المكوث بداخلها. فالنختار لأنفسنا ولأجيالنا القادمة ما هو أمثل. ولذا حماية الثورة واجب وطني على كل سوداني، ومن هنا تأتي الثورة، ومن هنا تنطلق أنشودة الشعب الجميلة “أنشودة الحياة”، والتي يجب ألا تتوقف، حتى يتم الإيفاء بكل متطلبات المواطن وفي كل أرجاء البلاد. ولنعي كلنا وفي كل مكان: أن نار الثورة لم تزل متقدة ولم تمت بعد. وبما أن الثورة تأتي مرة واحدة للتغيير الكلي، ونادرا ما تواتي الفرصة لكي تحدث لعدة مرات، فهي ثور فريدة، وثورة من نوع آخر، ولا يسعنا إلا وأن نفتخر بها كل الفخر – أن نتذكر: كيف قامت، ما كلفت وعلى أي شيء رست؟؟ فواجبنا أن نحمي ثورتنا أولا من المتربصين بها من لصوص الثورات، ولنحمي بلادنا من كل خائن، لم يقوى على حفظ أمانة شعب ووطن. ألا ننسى كل متاجر بنا، ملأ لنا الكيل في الذل والإهانة حتى طفح، وعلى مدار ثلاث عقود من الزمن. ولننهض لتغيير جذري وليس بسطحي في بلادنا، ولندك حصون السجن الأبدي في سوداننا الحبيب. فبجدية وسلامة ثورة اليوم، نضمن صلاح ونجاح مستقبل أجيال الغد. وهنا لا بد من أن تكن الأولوية للشباب في الحكومة القادمة، وما يتلوها من سنوات حكم، نأمل أن تكن رشيدة. أن تكن الأغلبية العظمى تتمثل في قيادة شبابية، تقوى على عناء السفر وطول السهر وإمتداد الجلسات. وأن تكن نسبة التمثيل النسائي محفوظة للشابات في كل حقائب الدولة، بما فيها الوزارات. فالسودان يعتبر من أول الدول الأفريقية والدول الناطقة بالعربية، التي كانت رائدة تاريخيا في القيادة النسائية، والسلطات القضائية. وعليه لا مساومة مع صديق أو قريب أو جار، في أي رأي أو قرار أو مقعد، إلا من أجل راحة المواطن، وإلا من أجل النهوض بالوطن إلى مرامي العلا بين شعوب العالم الكبير.

 إنها ثورة السودان وثورة السودانيين – الثورة الشبابية، والتي أتت من أجل مواطن، ومن أجل وطن، إنها الثورة التي ألهمت بسحرها الشعوب. كم هي ثورة غالية ونادرة لم يرى لها العالم من مثيل. ثورة سلمية، تواكب تطورات العصر الحديث، بعيدا عن الإعتداء والعنف من جانب المتظاهرين الثائرين، ثورة في بلد كان الغير يستهون به وبمقدراته الثقافية، دون أن يعلم الغير بأنه بسبب الحاجز الرفيع – “حاجز حسن الخلق وطول الصبر” لا غير. ثورة مميزة، لم يجرأ فيها المتظاهرون على إطلاق عيار ناري واحد، بل كانوا مثالا لحسن الظن والمثابرة والتكاتف. ثورة قوامها الشباب الذين أبلوا بلاءا حسنا بما ملكوا من غالي ونفيس، وواجهوا الطلق الناري، مفتوحي الأذرع وعالي الصدور. ثورة كان وقودها دم شهداء مستبسلين من أجل مبادئهم، التي لم يتزحزحوا عنها شبرا، حتى سقطوا ضحايا للبطش القمعي ونار الرصاص الجائر. ثورة كان زادها فن وإبداع شبابي مسالم – من أناشيد وموسيقى وجداريات، منشدة، ومعزوفة ومرسومة بجمال مزاج. كل هذا بعيدا عن الشعارات الدينية، التي ليس لها مكان بين مطبات السياسة، والتعصب الإثني، الذي ليس له مكان بين صفوف الوطنية. ثورة جعلت النفوس المكبوتة لسنين، تتفجر إبداعا من أجل سودان غد يرضي الجميع. ثورة إذا لم يكن الوصول إلى هدفها الأخير ممكنا، فالتدم على مر الأيام والسنين. ربما كانت الثورة من بدايتها لنهايتها درس من نوع آخر للشعوب. درس حتى في المفاوضات التي جرت، وحتى في توقيع الإتفاق الأخير. لقد أعجب العالم كله، وأيما إعجاب، في تفويض “الأستاذ” المعلم والمربي، للإمضاء نيابة عن كل المدنيين في البلاد. أي عرفان للجميل هذا، وأي نكران شعبي للذات في حضرة الأستاذ، المعلم، المربي، ومصلح الأجيال؟؟ لقد برهن هذا الشعب العظيم للعالم أجمع عبر هذا التوقيع التاريخي، بأن بلادنا ما زالت بخير، وما زالت تكن الشكر والعرفان الجميلين للمعلم، تمجده وتكرمه، فهو الأحق بكل تكريم وتمجيد. ولنختتم ببيت الشعر المعروف لدينا، للشاعر المصري الراحل، وأمير الشعراء “أحمد شوقي”: … قم للمعلم ووفه التبجيلا … كاد المعلم أن يكون رسولا … يجب أن تكن من أولويات وأهداف الحكومة القادمة، النهوض بالتعليم، الذي عانى من ترهات الزمان، فهو أساس البناء القويم والسبيل للخلاص. فبوجود المعلم المثالي، وبتوفر التعليم السليم، نصل إلى كل ما نحتاج له من نجاح، في كل التخصصات، وفي كل المجالات. وليدم السودان وطن يسع الجميع.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات