أفكار جلال نصّار | 22 | التوازن الغائب عن البيئة الإعلامية والصحفية…

07:59 صباحًا الأربعاء 11 مارس 2020
جلال نصار

جلال نصار

رئيس تحرير جريدة الأهرام ويكلي (سابقا)، مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

galalمشكلة من يديرون ملف الإعلام والصحافة المصرية أنهم لم يدرسوا نظريات الإعلام ولم يدرسوا تاريخ ولم يقرأ أى منهم كتاب ذو قيمة فى مجال الرأى العام وتشكيل الوعى بل ولم يتمرس أى منهم فى المهنة ويعرف دروبها وأسرارها وكواليسها ويفضل أن يديرها من وضع الحركة والفهلوة ومن خلال وسطاء يعملون لمصلحتهم الخاصة؛ ولم يستنبط أى منهم اسلوب عمل أو نظرية خاصة تضبط إيقاع المنظومة؛ البعض منهم عن عمد والبعض الآخر عن جهل بكل نظريات الإعلام…
وأهم ما خرجت به من دراسة الإعلام داخل مصر وخارجها وممارسة المهنة على المستويين المحلى والدولى – وخذوها عنى وعلى – أن لكل منظومة إعلامية “بيئة خاصة بها” تعمل فيها وتحدد ملامحها ولها تقاليدها واساليب الممارسة التى تميزها والتشريعات ومواثيق العمل المهنى التى تحافظ عليها وتضبط إيقاعها؛ وهى من وجهة نظرى الخاصة تشبه النظام البيئى المتعارف عليه الذى يضمن البقاء والإستمرار والتطور لكل عناصره التى تعتمد على الآخر من أجل هذا البقاء والإستمرار والتطور وأن أى غياب لاى من تلك العناصر يؤثر على التوازن البيئى ويحدث خلل فى المنظومة وتتعرض مع الوقت للإنهيار والفوضى وتتسبب فى كوارث وأزمات وأمراض مزمنة…
فعلى مدار تاريخنا المعاصر مرت البيئة الإعلامية والصحفية المصرية بمراحل من التوازن البيئى الصحفى الذى يحافظ على الحياة والتنوع والاختلاف والثراء والمهارة والمهنية والحرفية إلى أخره من مصطلحات قاموس القوة الناعمة والتأثير حيث جرى التعريف بين أبناء المهنة ومن يشرف على ملف الإعلام بأن الشىء يعرف بنقيضه مع إدراك كامل بأهمية الإختلاف وهو إدراك هام لفهم طبيعة بعض الخروج على النص والإنفلات وربما الشطط لان طبيعة المنظومة قادرة على الإستيعاب والتصحيح فى الوقت الذى تقدم فيه البدائل مع تعدد المنصات والمنابر الإعلامية وروافدها الثقافية والدرامية والموسيقية والسينمائية…
وكان هناك إدراك لدى بعض الأشخاص والدوائر القريبة من صنع القرار بأن هذا الإختلاف ووجود هامش أو مساحة للمعارضة ترفع الضغوط عن النظام الحاكم فى ملفات أخرى عديدة تمس الأمن القومى؛ وأن وجود صحف حزبية أو خاصة أو قومية تمتلك سقف عال من الحرية حتى ولو بلغة أجنبية تمثل واجهة هامة وضرورية وحتمية لدولة تسعى لدور إقليمى ومعرضة لممارسة ضغوط فى ملفات عدة تمس حقوق الإنسان وحرية الرأى التعبير؛ فضلا عن أهمية أن يكون لتلك الوسائل مصداقية تكتسبها من سقف الحرية الذى تتمتع به ويمكنها من قيادة صراع مهنى مفروض من صحف إسرائيلية وتركية وإيرانية وخليجية فى بث ونشر الرواية المصرية عن الأحداث…
وقد كان هذا الإدراك عندما يتحدث عن سقف الحرية يهدف بصورة أو بأخرى إلى فهم شامل لما يطلق عليه البيئة التى تصدر منها وعنها الرسالة الإعلامية والتى تكتسب مصداقية من حرية الرأى والتعبير وإتاحة المعلومات والشفافية والتشريعات التى تحكمها ووجود كيانات نقابية ومهنية تدير وتحمى المهنة وأن تعكس تلك الكيانات كل ألوان الطيف السياسى الوطنية…
فعلى سبيل المثال كنت وأنا صحفى شاب أرى عن قرب الإستاذ إبراهيم نافع يقوم بتشكيل هيئة مكتب نقابة الصحفيين فى مكتبه بالدور الرابع بمبنى جريدة الأهرام من خلال مفاوضات مع كل رموز التيارات السياسية التى نجحت فى الإنتخابات بحيث يذهب للنقابة فى اليوم الثالث لإعلان النتيجة ويعلن التشكيل بالتوافق بين كل الأعضاء؛ وكانت نقابة الصحفيين والدولة المصرية فى خلفية المشهد قادرة على إستيعاب كل التيارات والفكر والتنوع؛ وكنا كصحفيين حريصين على التنوع فى إختياراتنا بحيث يكون المجلس متوازن وممثل لكل التيارات مع الآخذ فى الأعتبار والاولوية للجانب المهنى والنقابى مع بد هام لكونها نقابة رأى وحريات ولعل نموذج إدارة أزمة قانون الصحافة رقم 93 لسنة 1995 هاما فى الإشارة إلى إنصهار كل التيارات السياسية وكل رموز النقابة والمهنة والفكر فى إدارة الأزمة وكذلك قدرة الدولة على تفهم غضب الصحفيين وإدارة حوار معهم حتى الوصول لحل الأزمة دون أن تخسر الدولة المصرية ونقابة الصحفيين وخرج الكل منتصر وفخور بدوره ورصيده التاريخى واليوم الذى نحتفل به حتى اليوم…
النموذج الآخر هو صفحات رأى جريدة الأهرام التى ظلت لسنوات ساحة ومسرح لكل ألوان الطيف السياسى والفكرى…
إن التجارب تعلمنا أن السياسة والصحافة والإعلام هى فن إدارة الإختلاف والحفاظ على التنوع والحرص على التوازن فى البيئة والمناخ؛ ولكن ما حدث بعد ثورتى 25 ييناير 2011 و 30 يونيو 2013 أن هناك من علق كل الكوارث التى وصلنا إليها فى كل المجالات فى رقبة الصحافة والإعلام والفوضى التى صاحب أداء بعض من صحف وبرامج ومواقع المنظومة وهناك من قام بشيطنة المهنة والمهنيين وقام بتأليب الرأى العام عليها وحرض على كل مختلف أو ما يراه خارج المنظومة الجديدة ووضع معايير وتصور خاص لمن يريد الإستمرار والعمل وإلا فإن الإستبعاد والحصار هو المصير المحتوم؛ وأستخدم الخسائر والخروج عن النص والإضرار بالأمن القومى كأدوات ومعاول للإستحواذ على المؤسسات والصحف والقنوات وأسس لكيانات موازية تحل بديلا لمن يخرج عن النص وتكون وعاء يستوعب كل من يستوفى شروط المرحلة…
وخسرت مصر أهم شروط التوازن البيئى المطلوب للإنتعاش والحفاظ على النوع والحياة والتأثير؛ وغاب الصوت الآخر فلم يعرف الشىء بنقيضه الذى لا يعرف ولا يؤثر إلا فى وجود الآخر؛ وغابت الأدوار والسياسات التحريرية الصحفية والتليفزيونية عن كل الوسائل وتحولت إلى نشرات فاقدة للمصداقية والتأثير رغم التطور التقنى فى بعضها إلا أن المحتوى المختلف والمتنوع غاب وصار الحديث عن المنصات والرقمنة فضاءات للهروب من مناقشة الواقع واسباب غياب المهنية والتأثير…
إن أى من الأسماء والصحف والقنوات والمواقع التى تم إستبعادها من الساحة عرضت التوازن فى النظام البيئى للإعلام المصرى للخلل؛ وأى منها كانت الدولة العاقلة قادرة على إستيعابه فى إطار المنظومة بل وتعمل على توفير كل الدعم والحماية له إنجاحا لكل المنظومة ودورها ورسالتها وكانت الدولة بقدر من التفكير والإدراك والعقل قادرة على أن يضع هؤلاء بمشاركة بقية عناصر المنظومة مواثيق شرف مهنية تحمى المهنة وتوفر لها الضمانات وتضع فى تلك المواثيق آليات العقاب فى حال الخروج عن الميثاق بالإستعانة بتجارب ناجحة دوليا…
لا أود أن أذكر أسماء أو برامج أو قنوات أو صحف أو صحفيين بذاتهم ولكن ارجو أن يتم إستيعاب دروس التجربة وأن نتوقف عن إهدار المال العام وأن تعود الطيور المهاجرة عن قنواتها وصحفها وأقلامها وبرامجها بالتوازى مع ضخ دماء جديدة؛ وأن تعود لكل وسيلة دورها ومهامها قومية أم خاصة أم حزبية وأن تتعدد الأصوات والرؤى لصالح المهنة والوطن وكرصيد مضاف للجبهة الداخلية التى تواجه تحديات كبرى إقليمية وخارجية… وكفاية مش كل يوم “خس وجزر”…
وللحديث بقية…
جــلال نصــار
10 مارس 2020م

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات