أفكار جلال نصّار: “البجعة السوداء” فى نظرية الأمن الإسرائيلى 2030

07:27 مساءً الخميس 29 أكتوبر 2020
جلال نصار

جلال نصار

رئيس تحرير جريدة الأهرام ويكلي (سابقا)، مصر

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

galalرغم ظهوره فى القرن الثامن عشر إلا أن مصطلح ونظرية “البجعة السوداء” هى العقيدة التى تتحكم فى صياغة نظرية الأمن القومى الإسرائيلى؛ الدولة التى ظهرت على الساحة الدولية فى أواخر النصف الأول من القرن الماضى؛ حيث يبنى هذا التوجه على صعوبة التنبؤ بالأحداث المفاجئة، وارتكزت على الفكرة السائدة حينذاك بأن البجع كله أبيض أما وجود البجع الأسود فهو نادر ومفاجئ وكان ذلك قبل اكتشاف “البجع الأسود” فى أستراليا الغربية الذى كان حدثًا غير متوقع ومفاجئ. وهو ما يجعل البناء والتوقع الأمنى للاحداث وتطوراتها يخضع لفترات زمنية ليست طويلة ولا تزيد عن 12 عاما؛ وكانت حجر الزاوية فى تحديث النظرية عام 2018 وصولا لرؤية 2030. فهل ما شهدناه خلال الشهور والأسابيع الماضية من تطورات فى المنطقة، وتوقيع اتفاقيات سلام وتطبيع مع إسرائيل كان ضمن تلك الرؤية؟ وما مصير القضية الفلسطينية؟ وما تأثير فوز ترمب أو بايدن على فاعلية تلك النظرية؟

يرى المُخطط الإسرائيلى أنه بحلول عام 2030، سيتعين على قيادات الأمن القومى فى إسرائيل إستيعاب حقيقة أن جميع الاحتمالات التى تم وضعها كانت إمتداد مباشر للتطورات التى حدثت أمس وتحدث اليوم. وفى الغد القريب حتى ولو ظهرت “البجعة السوداء” بشكل إستثنائى.

 

إيران النووية

تعد صياغة السيناريوهات المستقبلية إحدى مهام قسم التحكم داخل استخبارات الجيش الإسرائيلى، والذى يعمل بشكل مستقل عن قسم التحليل الذى يعمل على إستنتاج تنبؤات متوسطة الأجل فى الشرق الأوسط مع نسبة مخاطر محدودة يسهل التعامل معها بحيث لا تتجاوز تلك الرؤية مدى زمنى 12 عاما كحد أقصى (2028-2030)، على سبيل المثال التعامل مع الخطر الإيرانى واحتمالات وجود “إيران النووية”، حيث تم وضع سيناريو عن كيفية تعامل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية مع التطورات فى إيران حتى عام 2030؛ ففى حال لم تحصل فيها إيران على قدرة نووية وإفتراض أن نظامًا مشابهًا للنظام الحالى لا يزال مسيطرًا، فمن المحتمل أن يكون التعامل مع إيران فى عام 2030 على غرار التعامل مع إيران اليوم. لكن مهمة التعامل مع إيران ستكون مختلفة جذريًا إذا افترضنا أن إيران تمتلك قدرة نووية. فى هذه الحالة سيتغير ميزان القوى بين إسرائيل وإيران، ومن الممكن أن تجرؤ إيران تحت مظلة نووية على نشر فرق برية، بما فى ذلك عناصر مدرعة، فى العراق وسوريا. الآثار الدبلوماسية والعسكرية لمثل هذا الوضع بعيدة المدى، على سبيل المثال، أبدت إيران ضبط النفس أثناء تحملها للهجمات الإسرائيلية ضد قواتها فى سوريا. وهنا يبرز تحد واضح هل ستبقى إيران النووية صبورة بنفس القدر، أم أنها ستستغل قدراتها النووية لغزو سوريا بقوات برية كبيرة وتهديد إسرائيل بنشر فرق مدرعة على طول الحدود؟

فى السيناريو الأول، يحتم هذا التصور على إسرائيل تعزيز قوتها الجوية فى المقام الأول، بينما فى السيناريو الثانى، سيُطلب من الجيش الإسرائيلي التعامل مع تهديد جديد وهام لأراضى الدولة، وستتغير الأهمية المعطاة لقدرات الحرب المدرعة الإسرائيلية. فى مثال آخر، إذا استولت جماعة الإخوان المسلمين على السلطة مرة أخرى فى عدد من دول الجوار، فإن الوضع الجديد سيعيد إحياء النقاش بشأن نشر العناصر البرية للجيش الإسرائيلى وتعزيز القدرات الدفاعية لإسرائيل فى النزاعات المسلحة بين الدول.

إن السيناريوهات مثل إيران النووية، واستيلاء الإخوان المسلمين مجددا على السلطة في دول مجاورة أو حتى تفكك النظام الهاشمى فى الأردن، ليست سيناريوهات احتمالية صفرية، فى حين ينظر الى أن الانتفاضة الثالثة والمقاومة الفلسطينية لا يهددان إسرائيل استراتيجيًا، كما ان التغييرات الجيوسياسية التى لا تسيطر عليها إسرائيل سيكون لها تأثير حاسم على قدرة إسرائيل على التعامل مع التهديدات.

يوم 26 أكتوبر 2020؛ كتب أفيخاى درعى المتحدث باسم الجيش الإسرائيلى على صفحته الرسمية فى تويتر: {أن القوات الجوية بدأت تدريب “السهم القاتل” الذى يحاكى حربا متعددة الجبهات فى تركيز على الجبهة الشمالية (لبنان وسوريا)، وذلك بهدف رفع الجهوزية وتحسين القدرات الهجومية للجيش الإسرائيلى على كافة المستويات، بشكل متكامل مع تبنى طريقة عمل لتحقيق الإنتصار بآليات جديدة بين مقرات القيادة الرئيسية} وذلك النوع من المناورات والأهداف التى تحدد لها هى ترجمة لكل بنود نظرية الأمن ومتطلباتها.

 

ما بين واشنطن وموسكو

بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية فيتنبأ المخططون الإسرائيليون بإحتمال العودة إلى ملعب عالمى ثنائى القطب، فرغم ان إستمرار الرئيس دونالد ترمب يرونه “جيد للدولة اليهودية” لكنه ليس جيدًا لمكانة الولايات المتحدة على صعيد إنفرادها بقيادة العالم والمنطقة. ومع بقاء ترمب فى البيت الأبيض لولاية ثانية، فإن الأفق الإستراتيجى لإدارته لن يمتد إلى ما بعد عام 2024.

فقد أتسمت فترة ترمب الأولى وفقا للرؤية الإسرائيلية بإستعداء الحلفاء، وحذر دفاعى واضح من المواجهة مع روسيا فى الوقت الذى دخلت العلاقات مع الناتو والاتحاد الأوروبى والصين فى أجواء الأزمة، ولكن ظل الثابت والمستمر الإبقاء على التعهدات بالحفاظ على أمن إسرائيل وضمان تفوقها العسكرى على كل جيرانها فى المنطقة من خلال دعم نظرية الأمن الإسرائيلية المعتمدة والمبادرة بالدفع فى إتجاه تهيئة المناخ الإقليمى لمزيد من الإندماج والقبول والتعاون بين دولة إسرائيل وجيرانها العرب والقضاء او على أقصى تقدير تحييد كل العدائيات من قبل دول وجماعات المقاومة فى ما يسمى محور الممانعة؛ إلا أن المؤكد أن إلغاء الاتفاقيات ونبذ التحالفات والحروب التجارية والسياسية غير الواضحة والمحمومة التى قادها ترمب ستؤدى إلى تفاقم التراجع فى المكانة الأمريكية ويشكل هذا عامل ضغط على كل أوجه الدعم للحليف الأكبر فى منطقة الشرق الأوسط.

وستكون المعاناة أكبر فى حال خسارة ترمب وفوز المرشح الديموقراطى جو بايدن والذى سيجد صعوبة فى إعادة الولايات المتحدة كقوة عظمى فى الشرق الأوسط وأوروبا فى تظل تنامى القوة والحضور الروسى والصينى؛ ففى روسيا فلاديمير بوتين موجود ليبقى ويستمر بصيغ مختلفة؛ ونجح فى سياسته “روسيا أولاً” و شعار  “اجعل روسيا عظيمة مرة أخرى” الذى تأثر به ترمب إنتخابيا، وإن كان ذلك بتكلفة اقتصادية كبيرة (عقوبات) إلا أن أغلبية الروس على استعداد لقبول الثمن الاقتصادى لتكتيكات بوتين مقابل شرف ومجد إعادة روسيا إلى مكانة القوة العظمى.

ولقد كان هذا الحضور الروسى فى ملفات الإقليم والعالم سببا دفع الإسرائيليين لرؤية أن روسيا أضحت عاملاً استراتيجياً هاماً لإسرائيل في مواجهة التهديد الإيرانى والعمليات الجارية فى سوريا وغيرها من ملفات الإقليم؛ ووجدت نفسها أمام خيار بأن إسرائيل عليها الاستمرار فى تنفيذ سياسة بنيامين نتنياهو المتمثلة فى تطوير العلاقات ومشاركة المصالح مع روسيا بالتوازى مع الحفاظ على العلاقات مع الولايات المتحدة حيث يمكن لإسرائيل أن تدير هذه السياسة بسهولة شديدة طالما أن ترمب يشغل منصب الرئيس و”متأثر بشدة” بروسيا ولا غضاضة لديه فى تنسيق إسرائيلى روسى محدود بينما قد يطمح رئيس آخر إلى تقييد التنسيق بين إسرائيل وروسيا.

A cartoon published by Dutch newspaper Volkskrant in April 2018, depicting an IDF soldier shooting a Palestinian on the Gaza Border and spelling "Happy birthday to me," a reference to Israels Independence Day. (Courtesy: Simon Wiesenthal Center)

A cartoon published by Dutch newspaper Volkskrant in April 2018, depicting an IDF soldier shooting a Palestinian on the Gaza Border and spelling “Happy birthday to me,” a reference to Israels Independence Day. (Courtesy: Simon Wiesenthal Center)


الحسابات تجاه فلسطين؟

على النقيض مما يعتقد فيه البعض فإن إسرائيل لا تنشغل كلية بالسلطة الفلسطينية وتحديدا مرحلة ما بعد أبو مازن بل يعتقد قادتها الأمنيين بأن ملف التسوية السياسية مع السلطة الفلسطينية ليس له أهمية فعلية حقيقية على الأرض وتحكم تلك الرؤية نظرة ترى أن غالبية الفلسطينيين (1.5 مليون) يعيشون في قطاع غزة ويؤيدون حماس التى لن تقبل بدورها اتفاقًا على أساس مفاوضات تجريها السلطة الفلسطينية مع إسرائيل. لقد أدركت إسرائيل بالفعل أن حماس تحكم قطاع غزة. وإن إستمرار عملية التفاوض تعتمد على اللعب على كل التناقضات بين الأطراف الفلسطينية وبين رام الله وقطاع غزة؛ وإسرائيل وفقا لتلك الرؤية تعتقد أن تجنب أى مفاوضات قد تؤدى إلى دولة فلسطينية هو مصلحة وجودية للسلطة الفلسطينية المعنية بالهدوء والاستقرار وترى ان المفاوضات مع إسرائيل ستضر بها. علاوة على ذلك، إذا أجريت مثل هذه المفاوضات، فإن نتيجتها المباشرة ستلحق ضررا شديدا بالسلطة الفلسطينية لان الوصول لدولة فلسطينية مستقلة يتطلب التنازل عن حق العودة والتوصل إلى حل يتجاوز الرؤية الفلسطينية لقضية القدس. وتعتقد إسرائيل أيضا إن إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية فقط تهدد السلطة الفلسطينية أكثر من أى شىء آخر. بالإضافة إلى فقدان وضع اللاجئ لملايين الفلسطينيين ومواجهة مطلب تحمل المسؤولية عن الاقتصاد المتدهور، فإن وجود السلطة الفلسطينية يكتسب شرعيته من حرب قوات الإحتلال، التى بدورها “تحمى” السلطة الفلسطينية من حماس. ستكون تكلفة هذه الدولة وفقا لهذا التصور على السلطة أمر مستحيل، لأنها ستهدد فى الواقع بإنهاء حكم فتح.

ولا ترى إسرائيل وفقا لتلك التركيبة والصراع الداخلى الفلسطينى أى مدى زمنى لإنجاز قد يتحقق فى ملف المفاوضات حتى فى حال رحيل أبو مازن  والتى سيعقبها معركة ضارية للسيطرة على الشارع الفلسطينى حيث ستسعى تلك القيادة الجديدة لمحاولة اكتساب الشرعية بين الجمهور الفلسطينى فى الضفة الغربية تحديدا مقابل منافسيه لن يخاطر بالشروع فى مغامرة خطيرة مثل التفاوض مع إسرائيل. في ظل هذه الخلفية، ووفقا لتلك الحسابات الإسرائيلية فإن الحفاظ على الوضع الراهن واحتوائه هو مصلحة رئيسية للسلطة الفلسطينية وكذلك لإسرائيل وأى تغيير فى المسار على المدى القصير والمتوسط قد يؤدي إلى إضعاف السلطة الفلسطينية ونشوب انتفاضة جديدة وإلى تقوية حماس، لذلك يجب على كل من إسرائيل والسلطة الفلسطينية تجنب المفاوضات الدبلوماسية بأى ثمن لصالح القضية الفلسطينية وكذلك لصالح القضية الإسرائيلية اتساقا مع الحسابات الموضوعة.

ولمزيد من فهم العقلية الإسرائيلية التى تحتل وتحارب وتتفاوض فى فلسطين المحتلة وتحديدا فى قطاع غزة، نجد أنها تنظر إلى حماس كمنظمة تريد أن تحكم وتتحكم فى القطاع بأى ثمن وأصبح هناك خبرات إسرائيلية متراكمة فى التعامل وترويض قياداتها؛ وأن للطرفين مصلحة فى استمرار هذا الوضع، حماس معنية بتغذية روح الضحية للشعب الفلسطينى مع الحفاظ على إسرائيل كعدو مكروه. لكن الحفاظ على الاستقرار فى حد ذاته لا يعرض حماس للخطر، ستطمح إسرائيل وحماس إلى موازنة مستقرة لمصالح كل منهما. فى نهاية المطاف، سيتوصل الطرفان إلى مثل هذه التسوية، بما فى ذلك إطلاق سراح سجناء حماس وفرض قيود على استخدام القوة العسكرية بين الجانبين من خلال وسطاء وقنوات خاصة. ستستمر هذه التسوية، إلى حد كبير ، كما فى حالة السلطة الفلسطينية وحزب الله – طالما بقيت مصلحة حماس فى الحفاظ على الوضع كما هى.

إن خطر ظهور “البجعة السوداء” وتغيير الوضع بشكل دراماتيكى إلى حالة تتوسل فيها إيران وحماس وحزب الله للتوصل إلى اتفاق سلام كامل مع إسرائيل، ليس بعيد المنال ولن يتحقق غدا ولكنه فى سبيله للتحقق إذا تغييرت المعادلة فى المنطقة وسادت نماذج السلام والتطبيع بين إسرائيل وجيرانها العرب ويقلل من فرص ظهور تلك البجعة وتحديد المخاطر بدقة. وأن على إسرائيل أن تستمر فى حروبها الدبلوماسية والسياسية والإعلامية تطويرا للنظرية التى كانت تحكمها القوة العسكرية وقوة الردع فقط وممارسة الضغوط والتلويح بالمصالح والفوائد لبناء جسور  من العلاقات.

عند تفكيك تلك الرؤية نجد أن الأمر لم يقتصر فقط على منظور “البجعة السوداء” وتجنب أى مخاطر غير محسوبة؛ بل هو ترجمة وتطبيق لرؤية المفكر الإستراتيجى كارل فون كلاوزفيتز فى القرن التاسع عشر الذى قال أن النصر العسكرى ليس هدفًا بحد ذاته فى اقتباسه الشهير: “الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى” هو يأكد على أن الحرب ليست سوى وسيلة لتحقيق أهداف سياسية. ويضيف أن الغرض من الحرب المعاصرة هو تحسين القدرة على تحقيق أهداف سياسية من خلال اتفاقية موثوقة”. وعليه، بلد تتمنى الانتصار يجب أن تكون قادرة على كسب معركة، ولكن أيضًا على الترويج لها فى اتفاقية. لان من غير المحتمل أن تحدث “الحرب الشاملة” فى عالم القرن الحادى والعشرين، فمعظم الحروب أصبحت
“محدودة” تميل إلى الانتهاء باتفاق وليس تدمير كامل؛ بينما في العصور القديمة كانت نتائج ميدان المعركة تشكل التغيير فى الواقع والاتفاقيات المعاصرة واستعداد الأطراف للوفاء بها هى منها لتحديد التغيير في الواقع. لذلك، بلد هدفه تعزيز الأهداف السياسية من خلال استخدام القوة يجب أن تكون قادرة على كسب معاركها، ولكن الأهم لتعزيز إنجازاتها العسكرية الوصول إلى اتفاقيات جيدة ومتينة.

 

 

تحالف ثم إستبدال الأطراف

على مدار 70 عاما شهدت العقيدة الأمنية تطور كبيرا وكان أبرزها ما تبناه أول رئيس وزراء إسرائيلى؛ ديفيد بن جوريون “عقيدة تحالف الأطراف” التى تبنت فكرة التحالف مع إيران وتركيا وأثيوبيا ضد “العدائيات المحيطة فى “القلب المجاور” لحدود دولة الإحتلال وهى النظرة التى حكمت كل المؤسسات الإسرائيلية وحددت سياساتها الأمنية والعسكرية لعقود وصولا لرؤية 2030 الحالية التى تحدث عنها بنيامين نتنياهو فى منتصف أغسطس 2018 والتى غالبا ستشهد تغيير فى الأطراف وإستبدالها بدول أخرى من داخل المنظومة العربية وما تبع ذلك من حديث عن “صفقة القرن” ثم توقيع أتفاقيات ثنائية مع العديد من الدول فى الإقليم بعد الرفض الشعبى العنيف لما أطلق عليه “صفقة القرن” والحديث عن مشروعات تعاون إقليمى غير مسبوقة تضع حدا للصراعات والمواجهات المباشرة وتنقل الصراع التاريخى إلى ميادين أخرى وبأدوات جديدة؛ ذلك دون تفريط فى الأطراف القديمة التى على إستعداد للتعاون والتنسيق مثل أثيوبيا وهو ما يضع أيدينا على أهم ملامح تلك النظرية الحاكمة والتطوير الذى طرأ عليها:

  • أولاً؛ العقيدة الجديدة هى فى الأساس تغيير جذرى لمفهوم الأمن الإسرائيلى وتمثل فهماً جديداً للبيئة الدولية والإقليمية، وبشكل أساسى وجهة نظر الولايات المتحدة تجاه نظرية الأمن الإسرائيلى.

وبناء عليه أقامت إسرائيل علاقات استخبارات عسكرية وثيقة مع بعض دول العالم، وخاصة تلك الموجودة بالقرب من خصمها اللدود جمهورية إيران فى منطقة الخليج العربى وأوراسيا وشبه الجزيرة الهندية.

وتدرك تل أبيب أنها لم تعد بحاجة إلى عقيدة محيطية؛ وأن النجاحات الاقتصادية والعسكرية والاستخباراتية، والمساومة العربية على حقوق الفلسطينيين، ودعم الولايات المتحدة والقوى العالمية الأخرى للنظام، يشجع قادته على تجاهل قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. كل هذه التطورات تحفز على تحديث عقيدة الأمن القومى.

  • ثانيًا؛ العقيدة فى جوهرها هي محاولة لتغيير تركيبة القدرة الإسرائيلية. نتنياهو فى ترجمته لاهداف النظرية اتخذ منحى مختلف عن سابقيه، على سبيل المثال، يسعى إلى جذب الاستثمار الأجنبى وخاصة الخليجى فى مجال الإتصالات ليصبح قوة إلكترونية إقليمية. في الواقع، إن مفهوم “الأمن 2030” ، الذى مازال قيد الفحص والتنفيذ على مدى العامين الماضيين، يعالج قضايا مثل التهديدات الإقليمية التي تعتقد تل أبيب أنها ستواجهها على الأرجح فى العقد المقبل، وكجزء من العقيدة، يتحرك الإسرائيليون لتحسين الأمن السيبرانى كأولوية بالتوازى مع دعم القدرات الدفاعية، ومدى الدفاع الصاروخى.
  • ثالثًا؛ تمثل العقيدة الجديدة تغييرًا جوهريًا في سياسة تل أبيب تجاه الفلسطينيين، حيث يغمض المفاوض الإسرائيلي أعينه على حل الدولتين ومبدأ الأرض مقابل السلام. العقيدة الجديدة، في الواقع، هى تعزيز للعنصرية المنهجية الموجودة فى قانون الدولة اليهودية الذى تم سنه حديثًا. لذلك، يجب على الفلسطينيين أن يتوقعوا نظام فصل عنصرى أكثر صرامة يتم فيه تجاهل حقهم فى العودة إلى ديارهم تمامًا ويدعم هذا التوجه العمل على إستمرار الإنقسام الداخلى الفلسطينى.
  • رابعًا؛ ستشجع العقيدة الجديدة على مزيد من الاستثمار فى أنظمة الدفاع الجوى متعددة المهام لردع وابل أكبر من الصواريخ التى تستهدف الجبهة الإسرائيلية الداخلية والتى فى حالة الحرب ستكون هدفًا للصواريخ والصواريخ الباليستية والهجمات الجوية المعقدة. قال نتنياهو ذات مرة فى تعليق له إن العقيدة الجديدة ستزيد الطلب على زيادة الإنفاق الدفاعى فى العقد المقبل. تشير التسريبات الإعلامية داخل إسرائيل إلى أن ميزانية المخابرات الإسرائيلية ستصل تدريجياً إلى 6٪ من ناتجها المحلى الإجمالي. وفقًا للاستراتيجية، سيتم إضافة حوالي مليار دولار سنويًا إلى الميزانيات السنوية لـ “الشاباك” و “الموساد”. تشير تقارير أخرى إلى أنه عندما يصل الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي إلى 500 مليار دولار، ستتم مراجعة الإنفاق الدفاعى من جديد. بلغ الناتج المحلي الإجمالي للنظام الإسرائيلي في عام 2017 نحو 347.8 مليار دولار، ومن المتوقع أن يصل الإنفاق العسكري الإسرائيلى خلال العقد المقبل إلى 27 مليار دولار.

 

التحديات والواقع

لا تعمل تلك الرؤية الأمنية الإسرائيلية بمعزل عن التحديات التى يفرضها الواقع العالمى والإقليمى والداخلى؛ ويرى من ينتقد تلك الرؤية من الخبراء والمحللين أن هناك عدد من التحديات والملاحظات التى يجب أخذها فى الأعتبار عند مناقشة رؤية إسرائيل وقياداتها المتمثلة فى نتانياهو ومساعديه:

  • أولا؛ غلب عليها الطابع السياسى والبصمات التى تخلو من لمسات عسكرية وأمنية فى بعض الجوانب خلافا لعقيدة بن جوريون حيث لم يستشر نتنياهو مسؤولى الأمن والدفاع السابقين والحاليين في النظام المقترح حتى عام 2030؛ لذلك فإن الأمر مازال قيد المراجعة في لجنة الأمن والشؤون الخارجية فى الكنيست، وكذلك فى لجنة مشتركة بين الموساد والشين بيت.
  • ثانيًا؛ يجادل بعض الخبراء بأن العقيدة ستكون أكثر فائدة لموقف نتنياهو السياسي من أمن الدولة الإسرائيلية. في الواقع، يريد نتنياهو الحكم حتى عام 2030 باستخدام تلك الاستراتيجية.
  • ثالثا؛ تكاليف الاستراتيجية في الوقت الحالى، حيث يعد الإنفاق العسكرى الإسرائيلي أكبر من العديد من الدول الغربية. ومع ذلك، فشلت تل أبيب حتى الآن فى تحقيق الاستقرار الكامل في جبهتها الداخلية، لطالما طلبت المساعدة من الولايات المتحدة لمواجهة التحديات الأمنية. بالإضافة إلى ذلك، فإن الاستراتيجية لا تتناسب مع الوضع الاقتصادى الإسرائيلى. وأن الناتج القومى الإسرائيلى لا يتناسب مع الاحتياجات المطلوبة لضمان تطبيق نظرية الأمن الإسرائيلية وهو ما يدفعها إلى البحث عن مصادر تمويل ومشروعات مشتركة وجذب لإستثمارات خارجية وفتح أسواق أو اللجوء فى خطوة أخيرة إلى إعادة صياغة الأولويات.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات