أنيس فريحة: اسْمَعْ يا رضا، خطاب للأولادِ لا لِلْكبار

09:33 صباحًا الثلاثاء 29 ديسمبر 2020
د. إيمان بقاعي

د. إيمان بقاعي

روائية لبنانية، أستاذة جامعية متخصصة في الأدب العربي وأدب الأطفال والناشئة، وعضو اتحاد الكتاب اللبنانيين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

(أنيس فريحة: اسْمَعْ يا رضا، خطاب للأولادِ لا لِلْكبار)

قصص القرية اللُّبنانية

يجيد بعض الكتَّاب وصف البيئة القروية اجتماعيًّا بما فيها ما يؤثره الزَّمان والمكان في نشوء العادات والتَّقاليد وتركيبة الشَّخْصيّة وتفكيرها وذلك لتأكيد مزايا هذا المجتمع وانتقاد مساوئه للوصول إلى الأفضل.

ومن هؤلاء تطالعنا أسماء ثلاث قاصَّات لبنانيات كتبْن عن القرية بحب سواء انتقدنها أم تحدثن عن مزاياها، وهن: (رُوزْ غرَيِّبْ)، و(إِدْفيكْ جريديني شَيْبُوبْ)، و(إِمِلِي نَصْر الله).

ولا يمكن قراءة القرية اللُّبْنانيّة من غير قصص (فريد أبو فاضل)، و(منير عشقوتي)، و(رشاد دارغوث).. وغيرهم ممن صُنفت قصصهم في غير القصص الاجتماعية رغم ما تحفل به من تفاصيل مهمة.

على أن الخلفية الواقعية الَّتي لا يمكن أن يفهم الأولاد عادات وتقاليد الضَّيْعة إلا من خللها إنما هي كتاب أنيس فريحة (اسمع يارضا)[1]  المليء بالقصص والذّكريات، خاصة إذا قرأ النّشء معه كتابَه: (القرية اللُّبْنانيّة حضارة في طريق الزَّوال)[2].

فإذا بدأنا بالخلفية القروية، طالعنا كتاب أنيس فريحة الشَّهير (اسْمَعْ يا رِضَا) الّذي أهداه “للأولاد الّذين يحبون القرية ويتوقون إلى الانفلات من سجن المدينة لينعموا في روابي القرية ووهادها، في وعرها ورحابها، وليطفروا في كرومها وغابات صنوبرها[3]“، وهو إهداء مبكر لناشئة لبنان في زمن لم يكن إلا القليل يلتفت إليهم، حتى لو اعتذر القاصُّ فيه عن خلو كتابه من الفكر والعلم والفلسفة والتَّاريخ وغذاء العقل وتحليق الخيال وعمق الأغوار وتحليل الذّات، قائلاً إنه لم يكتب لأهل الفكر، ولم يصنِّف لأهل العلم والتَّاريخ، بل للأولاد الّذين يحبون القرية[4]“، من دون أن يتنبأ أن كتابه هذا سوف يكون أحد القواعد الأساسية لأدب الأَطْفَال والنَّاشِئة القروي اللُّبْنانيّ القائم على أساس الاعتزاز بالتُّراث، شرط أن يعتز قاصٌّ كأنيس فريحة بجمهوره ويعتبر ما يقدمه إليه فكرًا وعلمًا وتاريخًا وفلسفة وغذاء عقليًّا، ففيه من كل هذا رغم اعتقاد القاصِّ عكس ذلك.

أنيس فريحة

يتألف الكتاب من أربعة وعشرين فصلًا “قرويًّا” كتب بأسلوب السَّرْد الذّاتيّ على شكل مذكرات وقصص واقعية وصفية حينًا وسردية آخر تتعلق بالأسرة والجيران والأقارب والأمكنة والأعياد[5]   والأغاني[6] وحياة النِّساء[7]…وتكاد لا تخلو واحدة منها من المقارنة بين الأمس واليوم مع ما للأمس من تفضيل عنده. كما يقدم الكتاب صورة عن بيروت القديمة واصفًا وناقدًا ومُقارنًا بينها وبين القرية، غير متردد في إحالة أمراض السَّرطان والقلب والهستيريا وانهيار الأعصاب عليها، فيقرر العودة إلى قرية الذّكريات والبيت والصّنوبرة والدّالية، وباختصار إلى “الوطن”.

اجتماعيًّا وفنيًّا:

يشرح القاص الكثير من العادات والتَّقاليد وأنماط تفكير أهل قريته بشكل إيجابي من خلل أسلوب سهل يكاد يخلو من المجاز، وإن لم يخلُ من استخدام القاص طريقة القِصَّة داخل القِصَّة، فقص عشرات القصص الَّتي كان يعود بعد انتهاء كل واحدة منها إلى موضوعه الأساس الّذي يقارن فيه بين حياة المدينة والقرية، وحياة الأمس واليوم مستخدمًا الفُصْحَى البسيطة الَّتي دمجها ببعض العامّيَّة حين أورد الأمثال اللُّبْنانيّة وبعض العبارات القروية والأَلْفَاظ مما يساعد على قراءة البيئة المحلية.


[1] أنيس فريحة: اسمع يا رضا. بيروت، د.ت. تربويًّا ونفسيًّا: وجه الكاتب كتابه هذا “إلى الأولاد”، وهو مزين بلوحات كلاسيكية قروية بالأبيض والأسود، وقد أغفل اسم الرَّسّام. تربويًّا: هدف الكاتب أن يحب الأولاد قراهم بعد أن يعرفهم عن كثب إليها. فنيّا: يضم الكتاب، إلى جانب الذكريات، قصصًا عن شخصيات القرية وعاداتها وتقاليدها، مما يعني أن حبكته هي حبكة مفككة اعتمدت وحدتها على الشَّخْصيّة (شخصية الأب) وقصت عبر السَّرْد الذّاتيّ.

[2] أنيس فريحة: القرية اللُّبْنانيّة حضارة في طريق الزوال . وقد نشر أول مرة عام 1957. بيروت، جروس برس، د.ت. والكتاب فيه شرح لكل عادات وتقاليد القرية، ولكل هموم وأفراح الفلاح

[3] أنيس فريحة: اسمع يا رضا، الإهداء، ص3.

[4] أنيس فريحة: اسمع يا رضا، الإهداء، ص3.

[5] – من عادات القرية الاحتفال بالأعياد الَّتي تنتظر من عام إلى عام : كعيد الصليب، وعيد الغطاس، وعيد الميلاد، وعيد البسترينة، والعيد الكبير، وعيد مار جريس، وعيد قطاف الشّرانق [أنيس فريحة: من عادات القرية الاحتفال بالأعياد الَّتي تنتظر من عام إلى عام : كعيد الصليب، وعيد الغطاس، وعيد الميلاد، وعيد البسترينة، والعيد الكبير، وعيد مار جريس، وعيد قطاف الشّرانق] [أنيس فريح:  اسمع يا رضا، ص 88، 89، 91، 91، 91، 94، 97، 195].

[6] – من عادات الضّيعة وتقاليدها مثلًا، غناء العتابا والمعنّى اللَّذين تتميز بهما القرية اللُّبْنانيّة. فـ “العتابا موسيقا القرية، والمعنّى نغم الجبال. كل غناء في القرية سوى العتابا والمعنّى غناء غريب. العتابا تمس أعماق الأمهات، وتحرك عواطف الصبايا، وتُدمع عيون الرجال. لا تسلني عن سحر العتابا، فإني ما رأيت أمًّا تبكي إذا غنى المغني، إلا إذا كان المغني يغني عتابا، وما رأيت رجالًا تدمع عيونهم عند الغناء إلا إذا كان المغني يغني عتابا. والصدى في قريتنا، يا رضا، لا يردد سوى نغم العتابا!”. [أنيس فريحة: من عادات وتقاليد الضَّيْعة مثلاً، غناء العتابا والمعنّى اللَّذين تتميز بهما القرية اللُّبْنانيّة. فـ “العتابا موسيقا القرية، والمعنّى نغم الجبال. كل غناء في القرية سوى العتابا والمعنّى غناء غريب. العتابا تمس أعماق الأمهات، وتحرك عواطف الصبايا، وتُدمع عيون الرجال. لا تسلني عن سحر العتابا، فإني ما رأيت أمًّا تبكي إذا غنى المغني، إلا إذا كان المغني يغني عتابا، وما رأيت رجالًا تدمع عيونهم عندالغناء إلا إذا كان المغني يغني عتابا. والصدى في قريتنا، يا رضا، لا يردد سوى نغم العتابا” [أنيس فريحة: اسمع يا رضا، ص 104- 105.]

[7] – يصف فريحة نهوض النساء القرويات معتمدات على نجم الزهرة أو ما يسمونه (النّجم الغرّار): “أمهات كثيرات كن يعملن ثلاثة أرباع العَمَل في اللَّيْل قبل انبلاج الفجر: عجين، غسيل، تلقيم الخروف، سقاية الزريعة من ماء العين، جلب سلة تين وعنب قبل أن يقوم الأولاد من النَّوْم [أنيس فريحة: يصف فريحة نهوض النِّساء القرويات معتمدات على نجم الزهرة أو ما يسمونه (النّجم الغرّار): “أمهات كثيرات كن يعملن ثلاثة أرباع العَمَل في اللَّيْل قبل انبلاج الفجر: عجين، غسيل، تلقيم الخروف، سقاية الزريعة من ماء العين، جلب سلة تين وعنب قبل أن يقوم الأولاد من النَّوْم [أنيس فريحة: اسمع يا رضا، ص 180]. هذا في الأيام العادية، أما في المواسم – كموسم القز – فيزيد على العَمَل عمل إذ “النَّهار يتصل باللَّيْل، واللَّيْل يتصل بالنَّهار” فلا تهدأ النساء اللواتي يفرّقن ورق التوت على أطباق الدود إلا وقت صيام الدود كل سبعة أيام ينعمن فيها بساعات نوم هادئة تخفف من تعبهن. [أنيس فريحة: ، ص 180]. هذا في الأيام العادية، أما في المواسم – كموسم القز – فيزيد على العَمَل عمل إذ “النَّهار يتصل باللَّيْل، واللَّيْل يتصل بالنَّهار” فلا تهدأ النساء اللواتي يفرّقن ورق التوت على أطباق الدود إلا وقت صيام الدود كل سبعة أيام ينعمن فيها بساعات نوم هادئة تخفف من تعبهن. [أنيس فريحة: اسمع يا رضا، ص 192]

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات