صاحب طريق الحرير… أشرف أبو اليزيد: أرى في المطار صورة مصغرة عن عالم الدخول والخروج، عن الحياة نفسها

10:01 مساءً الجمعة 22 يناير 2021
  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

 

أشرف أبو اليزيد

من أكمل وأجمل الحوارات، ليس لأنني الذي كتبت الردود، بل لأن الصديق المبدع صدام فاضل هو الذي كتب الأسئلة، بعد تبحر في السيرة، ومواكبة في المسيرة، شكرا لك، وسأضع هذا الحوار في صدر ما أجري معي من لقاءات، لأنه مكتوب بحب ومخرج بشكل مميز، ومنشور بأناقة. شكرا لمجلة أقلام عربية، بدءا برئاسة التحرير سمر الرميمة، وإدارة التحرير د. مختار محرم، وكافة أطقم العمل”

أشرف أبو اليزيد

صدام فاضل

حاوره: صدام فاضل

تتشكَّلُ الأمكنةُ في مشاهداتٍ صامتةٍ عبْر متخيَّلٍ فارِهٍ، تركضُ فيه ملامحٌ فوضويَّةٌ، وأصواتٌ مُتفلِّتةٌ من فخاخِ الزمنِ الملفوفِ حول ناصيةِ الحكاية. هذه الجَلبَةُ اللذيذةُ يمكنُ أنْ تحتفيَ بفداحاتِ الضجيجِ الذي يسيلُ من صباحات مدينةٍ مراهقة، أو من اندلاعات روائحَ مختصمةٍ في شارعٍ شعبيٍّ لا يعرفُ الوقارَ… هذا ما يحدثُ وأنت تُصغي إلىٰ كمائن الذاكرةِ المخبوءةِ في طرقاتِ المشَّاء المصري، والرَّحَّالة العربي/ أشرف أبو اليزيد. الهائمُ بين مدَيَات السحرِ والدَّهشةِ؛ إذ تزخرُ تجاربُه بفلسفةِ التمازجِ والتنويع، فهو  الروائيُّ والشاعرُ،  والمترجم، والصَّحافيُّ، والكاتبُ لأدبِ الرحلة، وأدب الأطفال. عمِلَ في الصَّحافةِ الثقافيَّةِ بمجلَّات كثيرة: (نزوى) ـ سلطنة عُمان، و(أدب ونقد) ـ مصر، و(العربي) ـ الكويت. حصَل علىٰ جائزة مانهي في الآداب عام 2014 (كوريا الجنوبية). نال جائزة الصحافة العربية في الثقافة عام 2015 (الإمارات العربية المتحدة). عضو اتحاد كتاب مصر، ورئيس جمعية الصحفييِّن الآسيويين، ورئيس تحرير في “آسيا إن”/ شبكة أخبار المستقبل، وشقيقتها الورقيَّة “ماجازين إن” التي تصدرُ في سيؤول باللُّغات الكوريَّة والإنجليزيَّة والعربيَّة، ورئيس تحرير سلسلة إبداعات طريق الحرير.

القاهرة

العربي بداية جديدة

–  حدِّثنا عن طبيعة انتسابك لمجلة “العربي” الكويتية التي امتدت لأكثر من عقد ونصف.

ربما تبدو الرحلة زمنيًّا أكثر من عقدين، لأنني ارتبطت بالمجلة العريقة كقارئٍ، لكن سنوات العمل لم تتجاوز ثلاثة عشر سنة إلا بشهور وحسب، وقد بدأت بلقائي برئيس التحرير الأسبق الدكتور/ سليمان العسكري في القاهرة، في فبراير (شباط) 2002.

وحين أرسل لي رئيس التحرير عقد العمل في أبريل (نيسان) من العام نفسه، رأيت أنه أقل بكثير مما كنت أتقاضاه في سلطنة عُمان خلال سنوات عملي بمجلة (نزوى)، فرفضت السفر، ثم وعدني الرجل بزيادة الراتب، لكنني لم أسافر إلا بعد أن جاء العقد الجديد في أكتوبر 2002، وخلال الفترة هذه انضممت إلى مكتب (العربي) في القاهرة، وتركت عملي كمحرر ثقافي في وكالة أنباء (رويترز).

كانت طبيعة العمل تشمل في البداية عضوية هيئة التحرير، والقيام بالاستطلاعات، وترشيح المواد للنشر، وكتابة خطط الاستكتاب لكُتَّاب العالم العربي، وامتدت لتشمل في بعض السنوات  إصدار ملاحق (البيت العربي)، و(العربي العلمي)، وإخراج هذه الإصدارات، خاصة (العربي العلمي) حين تحوَّل إلى مجلة شهرية مستقلة.

الهند

كما أشرفت على إصدار ومحتوى مجلة (العربي الصغير) فترة ليست بالقصيرة، وكنت بالمثل منسِّقًا لندوات “العربي” السنوية، أقترح معظم موضوعاتها، وأشارك في جلساتها، سواء بالدراسة أو الإدارة، فضلًا عن المطبوعات الفصلية (كتاب العربي)، والتي صدر بها كتابي (نهرٌ على سفر) أو المطبوعات الخاصة التي ربما لا يعلم عنها كثيرون من قراء (العربي) خارج دولة الكويت؛ فقد أصدرنا مجموعات من الاستطلاعات عن آسيا، والمملكة المغربية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية.

رعشة الانطلاق

–  تكاد تجربتُك الصحفية في مجلة “العربي” أن تكون سببًا مباشرًا لخوضك هذه الرحلة الطويلة… كيف تعلِّق على ذلك؟

الإنسان ليس حيوانا ناطقا، بل هو كائن رحالة، ولد ليرحل، فيعرف الإنسانُ الرحلة منذ مولده، وهو يأتي هذا العالم في رحلة خرج فيها من رحم الأم، ليعيش في أرحام الحياة.

وإذا كانت رحلة المرء الأولى على الإطلاق ليست اختيارية، فلم يحدد لها موعدا، ولم يختر لها هدفا، فهو يعوضها حين يُمضي حياته كلها في رحلات متصلة، يخرج فيها من جغرافيا إلى أخرى، ويعبر خلالها مرحلة تاريخية إلى سواها، ويبدل فيها الفضاء الإنساني وشخوصه بفضاءات أخرى، وينسى الغرفة الوحيدة والبيت الواحد، لأنه سيجرب غرفا متعددة، وبيوتا عديدة.

فيتنام

لكنه، كما أكرر دائما، لن يظل كما كان  قبل رحلة أو أخرى، لأنه في كل سفر سيكتشف ركنًا قصيًّا من ذاته، مثلما سيكتشف أركانًا أقصى في العالم، وفي كل مرة يبحث فيها عن آخر،  سنجد المرء يتعثر في ذاته، ويعثر على وجوه جديدة له، فهو خارج وطنه وبيته وأهله سيكون في اختبارات متعاقبة، تسائل هويته، وتخاطب جذوره، وتشكل مستقبله.

وأنت حين تسافر، لا تكتشف البشر، ولا  تكتشف الأمكنة، بل تعيد اكتشاف ذاتك. بلد تعلمك تذوق أنواع خاصة من الجمال، مدينة توقظ فيك الشعر وآدابا أُخر، نهر يفيض من جسد الأرض ليتدفق من شرايين جسمك، فتُبعث من جديد، وناس يقولون لك من أنت، فيجيبون عن أسئلة تتأجج في صدرك منذ ألف عام وعام، وأنت تبدأ دائما من مصر، وتعود إليها، عقلك التاريخ  وجسدك الحضارة وعيناك الفنون وحواسك الآداب.

في تتارستان

وما بين رحلتين إجباريتين؛ دخل الإنسان الحياة في الرحلة الأولى، وسيغادرها في الرحلة الأخيرة ستتاح له الفرصة لتجربة رحلات فريدة، تخصه وحده، حتى لو سافر بصحبة العائلة والأصدقاء والزملاء، فالرحالة يكتب رحلته الخاصة، وهو يرى ما تسمح به بصيرته أنه يراه، لذلك يزور شخصان المكان الواحد، لكنهما لن يقدما رؤية متطابقة، فأنت ترى المكان بمرشحات تتضمن ثقافتك، وهوايتك، ورغبتك، ومعرفتك، وقدرتك على التواصل مع ذلك المكان، المختلف باختلاف المتلقي الزائر الآخر عنك.

جاءت تجربة (العربي) في قلب ذلك كله، فقد أحببت الرحلة ومارستها قبل العمل بها، لكنها كرَّست ذلك الحب بشكل عملي، وباتت هناك خطط للرحلة وفق إطار منهجي، وليست رحلة للاستمتاع وحسب. وكان لي صديقان يكبرانني سنًّا اتخذت من سيرتهما الرحلية مثالا؛ الدكتور/ آرثر جولدشميت، وهو أستاذ في التاريخ من جامعة ولاية بنسلفانيا، وكان في رحلاته يرسل لي عناوينه لأراسله، ويرسل لي بطاقات بريدية ورسائل من كل محطة يصلها، وهذا كان مصدر إلهام لزيارة جغرافيات تلك الأماكن لاحقا، وصديقي الثاني هو المصور والكاتب والرحالة الأسباني جورد إستيفا، وبدأت رحلتنا سويًّا في سلطنة عمان، وكان يسافر في خطىٰ رحالة البحر، وعرب الصحراء وأفريقيا، وكذلك المغرب. وكانت كتبه المصورة رافدًا ملهمًا بالمثل.

– هل تفكر بالعودة للكويت؟

 ربما أعود لزيارة الكويت إذا دعيت إليها في مناسبة ثقافية.

أيام في اليمن

زرتَ صنعاء أكثر من مرَّة، إذ كانت اليمن ضمن خارطة الطواف التي ضمنها مشروعك العظيم… ماذا عن تسكعاتك في شوارع صنعاء العاصمة؟

كان لا بدّ من صنعاء، مهما طال السفر على طريق الحرير، وأنا لا أعرفُ متى بدأ عندي الاهتمامُ، ثم الشغفُ، بطريق الحرير؟ هل أردُّه إلى سنواتِ القراءةِ الأولى؛ حين داعبتْ المُخيلةَ سفراتُ تلك الشخصياتِ الخياليةِ؛ بين سندبادٍ بريٍّ وبحريٍّ، وأبطالِ ألفِ ليلةٍ وليلةٍ، وفوارس سير العربِ الشعبية؟ أم هو عشق كتابة التاريخ، الذي صنعه الخيال والواقع معًا، ومن بعدَه غرامُ أدبِ الرحلةِ الذي تعطر بكتابات العرب الأوائل، وصولا إلى أحفادهم في مجلة (العربي) التي ردت الاعتبار لهذا الأدب، قبل أن تتبعها فيه دورياتٌ أخرى، وسلاسلُ كثر؟ الاعتقاد أن هذا كله معًا، امتزج بحب السفر، وتتبَّل بمتعة الاكتشاف، لأكون في قلب هذا الدرب التاريخي الأشهر، حتى أسماني الشاعر الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح: ” السندباد الشاعر”. وكان ذلك في أصبوحة شعرية استضافها خلال زيارتي للمدينة التاريخية.

والسير في صنعاء يعني أن تمضي في معرض مفتوح للفن، خاصة بصحبة أعلام التشكيل في اليمن من الأصدقاء والصديقات الذين أعتز بهم، واهتممت بتقديم تجاربهم الثرية للعالم في كتاباتي.

-آخر زياراتك لليمن كانت في العام 2010 تقريبا…

نعم وفي قلب حضرموت، أتذكَّر… كنَّا نحتفل باختيار مدينة “تريم” عاصمة للثقافة الإسلامية، وكان استدعاء فتاة وتصويرها أمام مسجد في مدينة تريم عاصمة الثقافة الإسلامية من المستحيلات السبعة في تلك المدينة المحافظة، وكان أن ساعدني الدكتور الباحث، والمبدع/ نزار غانم، في أن يستأذن إحدىٰ جاراته في صنعاء أن تسمح لابنتها بالتصوير من أجل عيون “العربي”، وظهرت العدنية المقيمة في صنعاء وخلفها أشهر مساجد حضرموت.

مسارات جديدة

–  تُمثِل الحِراكات المجتمعية -بكامل تفاصيلها- شكلًا من أشكال التنظيم الثقافي للشعوب. هل يمكن أن تقود تلك التداخلات إلى انحراف صراط الرحالة، وتحويله إلى مؤرخ؟

تبدأ الرحلة عادة بمخططٍ أوَّلي، هو الذي تقدمه لكي يقنع إجازتها، لكن هذا المخطط يقودك إلى سلم طائرة المغادرة، أما الرحلة التي تبدأ بعد سلم الوصول للمطار فهي أمر آخر؛ إنها رهن الاكتشاف، والدهشة، والمغامرة، ورحلة بحث في بوصلة تخترعها أنت، ولعلَّ فكرة الوطن / البيت الذي تجد فيه راحتك، والصحبة التي تجد نفسك فيها، لتتباين، ففي الرحلة تقيم في مكان يصبح بيتا لليلة أو أكثر، وتلتقي بأصدقاء يضحون أهلك منذ تراهم حتى تغادرهم، لذلك تتجدد فكرة الوطن ومشاعرك نحوه، وهذا أمر لدى الرحالة، وليس المهاجر  الذي قرر قطع تلك الصلة ليختار بقعة يراها أفضل لحياة تنقطع عن ماضيها وحاضرها. ولدي كانت الرحلة تستدعي الوطن، حتى لو كان ذلك استطلاعا عن جمهورية تتارستان، أو رحلة عمل إلى كوريا، أو قراءة لآثار إسبانيا، أو وقوفا على أطلال إيطاليا، أو زيارة لمهد الخلافة العثمانية، أو إعجابا بحضارة هندية.

–  يجوز أن تكون الرحلة لها امتيازاتها الخاصة كمسارٍ نوعيٍّ يتدخل في تشكُّلات الصحفي المحترف، لكن يبدو أنها -أيضا- تمثل معادلًا إبداعيًّا يمكن أن يخلق انسجامات فاعلة، تُحرِّض على الخوض في الشعر والرواية كما حدث معك… هل توافقني على هذا؟

في هذا المنحىٰ عندي إشارات عن الرحلة؛ فالسفر الذي أصبح ميسورًا في سبله ووسائله، أصبح عسيرًا في متطلباته وكلفته، ولا يستطيع المسافر اليوم أن ينسى ما ترك وراءه ومن ينتظره، فكلها تشدُّه للعودة، لذلك قلَّت أيام السفر وزاد العبء فيه، ليس فقط بما تفرض الدول من إجراءات تأشيرات زيارة، وما تجريه المطارات من تفتيش، وما تتطلبه الرحلة من تفرُّغ، ولكن  من ذلك الانفصال المطلوب، عن عالم أنت فيه أسير، وعوالم تسافر إليها تسعى أن تكون حرًّا بها. وحين تقرأ الرحلة ستتعرف إلى نصوص روائية على نحوٍ مَّا، فهناك  سرد، وأحداث، وشخوص، وسياق ثقافي ومجتمعي، وقد تكون هناك تقنيات سردية مطبقة كاستعادة الماضي، حين تقرأ تاريخ المكان الذي تزوره. ثم أنك تستدعي حينا بطلك السينمائي حين يقوم بدور المحقق، والمغامر، وإذا كنت تكتب الشعرَ، فقد تترجم نصوصا أو تكتب قصائد وتضمِّنها نص الرحلة. ولا أخفي سرًّا، حين يرى من قرأ لي رواية أو أكثر، أن الرحلة مكوِّن أساس في كتابتي، وأرى أنني بعد أن كتبت الشعر والنثر، وجدت في سرد أدب الرحلة ضالتي، ففيه جماع لكل ذلك.

تمظهـرات مغايرة

– زرت أكثر من (33) بلدًا حتى الآن… كيف تتصدَّى لتلك التناقضات الهائلة في اللُّغات، والعادات، والأديان؟

الرحلة تبدأ بالمطارات، وتلك رحلة تشبه الدخول في غرفة الغواصة المحكمة الغلق قبل الخروج منها للعالم، ولذلك تنشأ بينك وبينها علاقات متوترة، لا تعرف إن كنت تحب أسواقها وحسَّها العالمي، أم تكره مكاتب الأوراق والحجز وشؤون الهجرة وانتظار الحقائب، وغيرها، لذلك أرى في المطار صورة مصغرة عن عالم الدخول والخروج، عن الحياة نفسها، عن كل ما تفاجئك به من سعادة، وما تضمره لك من تعاسة. وأشعر بسعادة عميقة حين تبدأ الطائرة بالتحرك، وكأن لي جناحيها، فوق ألف سحابة تأخذني، وتصبح بيتي في السماء، حتى يتلقفني بيت آخر على الأرض.

وعلى مدى أكثر من خمسين عامًا، وفي أكثر من ألف رحلة ورحلة، رافقتْ بعثات «العربي» في قارات العالم مجموعات من الأدلَّاء، من كل الأجناس، والجنسيات، والألسن. دليل يتوسط بين الرَّحالة العربي، وبين لغة قد تكون مجرد لهجة محكيَّة، أو يستأذن لك حين ترغب في صورة غلاف من بين أكثر من ستمائة غلاف ظهرت على وجه «العربي»، أو يقودك إلى لقاء مسؤول، أو يدلُّك على بيتِ عائلة بسيطة أو أسرة موسرة هناك.
في كل مدينة كان هناك دليلٌ أو أكثر، أتذكر في أحمد آباد بالهند دليلنا «رزّاق»، وفي بكين «ميا»، وشمال الصين بشينجيانج القشغري «محمد عزت»، وفي بيشيلية الإيطالية «جوليا»، وفي استنبول «سميرة»، وفي أنقرة «حسن”، وفي قازان عاصمة تتارستان بالاتحاد الروسي «ليليا ورينات ورئيسة خانوم» وفي مدن برلين وبون وميونخ وفرانكفورت وهامبورج ودورتموند وكولن الألمانية طائفة من أدلاء ألمان وعرب متجنسين، وفي ورزازات المغربية «أحمد الحساني» و«الجلالي مصطفى»، وفي سيئول «تشوي أبو بكر، وجنان، ويوسف عبدالفتاح»، من بين كثيرين، هذا غير عشرات الأسماء الأخرى من الأصدقاء في مدن عربية وغربية يضيق المقام لذكرهم.
كان سجن اللغة له مفتاح وحيدٌ مع الأدلاء؛ وعلى سبيل المثال، ففي مدينة سورات بولاية كوجرات الهندية، كان صاحب ورشة النسيج يحدِّثنا باللغة الكوجراتية، فيترجم دليلٌ محليٌّ حديثه إلى اللغة الهندية، وينقلُ لنا دليلنا الحوار بالإنجليزية، لنحكي القصة لقراء «العربي» بلغتنا الجميلة!
من الطريف أننا نعودُ أحيانا لنكون مع دليل بعثةٍ سبقتنا، كما حدث حينما كان دليلنا في الخرطوم وحولها الإعلامي محمد جبارة، بل والأطرف أن نلتقي مجددًا بعد عشرين عامًا أو يزيد بدليل رحلة سبقت، مثلما التقينا في مسقط رأس الأمير/ تيمور، بمدينة «شهرسبذ» في أوزبكستان بالسيدة «مولودة»، وبين الصورتين عمرٌ كامل!

عروس كوجراتية بعدسة أشرف أبو اليزيد

–  ما هي أبرز البروتوكولات الغريبة التي تم استقبالك بها كضيف جديد في مكان ما؟

وضْع عقد الورود فوق العنق هو طقس مشترك، سواء كنت في جزيرة “جيجو” جنوب كوريا، أو كنت في “راجستان” شمال الهند، وسواء بدأ الترحيب بك في المطار، أو انتظرك بالفندق. في النيبال وجدت أكثر من طقس، فقد استقبلني مضيفي في المطار بشال ذهبي يحمل كتابات مقدسة طوَّق به عنقي، وفي سهرة بمطعم تقليدي كانت هناك سيدة تستقبلنا تضع بالحناء فوق جبهاتنا دائرة حمراء، وكأننا ذاهبون إلى زفاف وليس لتناول العشاء. وفي السودان رتَّب لنا مضيفونا سهرة غنائية شعبية جميلة، ودعونا لاحقا إلى حفلِ زفاف جماعي.

توازيات

–  في حال اعتبرنا “الرحلة” استهدافًا مكانيًّا بالمقام الأول، هل هناك معايير زمنية تحكم فكرة الانطلاق أو التأجيل؟

طبعا وجود التأشيرات المصاحبة للسفر اضطرَّتنا لتأجيل رحلات، وعنف الطقس أجَّل رحلات أخرى. وأحيانا تحجز في الدرجة الأولى، فتجد نفسك في الدرجة السياحية. أذكر أنني في السماء بين بكين وأرومتشي، عاصمة إقليم شينجيانج، اكتشفتُ أن زميلي الذي حجز تذاكرنا، لم ينتبه إلى أن فترة الترانزيت بين أورومتشي وكشغر -بوابة طريق الحرير من الصين إلى العالم- لا تكفي للحاق بالطائرة التالية. أخبرت المضيف، فأحضرنا إلى مقعدين بقرب الباب، ووضع ملصقا على ملابسنا، ووجدنا -بمجرد هبوط الطائرة- ضابطًا بانتظارنا، أخذنا بممر خاص، إلى سلَّم الطائرة الأخرى، بعد  المرور السريع بمكتب السفر، وصعدنا، وانتظرت الطائرة حقائبنا حتى تتحرك. إنها معجزة زمنيَّة لا تحدث -ربما- إلا في الصين.

بعد خبرة السفر بات عليك أن تتوقع الأسوأ، وأذكر أنني حين فزت بجائزة “مانهي” في الأدب، عام 2014، كان عليَّ أن أسافر من الكويت، عبر الإمارات، وخوفًا من أي تأخير للطائرة المسافرة عن الأخرى المغادرة من أبو ظبي، حجزت مبكرًا يومين، وقد حدث ما توقعت، واضطررت للمبيت بفندق المطار حتى الغد، ولحقت بالحفل، ولو لم أكن متخوِّفًا ومتحرِّزًا لفاتني أكبر تكريم أدبي في حياتي.

دينامو الحضارات

–  من يزور البلدان البعيدة لابدَّ أن يعايشَ الدور العملاق للمرأة، وهي تتصدر مشهد الحضارات الإنسانية. هل الحريَّة -وحدها- سبب في تلك الريادة؟

هناك مثلٌ قبيح يرد على أكثر من وجه في الثقافة العربية، يعكس نظرتها، ولكنه يقدم حلًّا، ويقول: “اطبخي يا جارية، كلِّف يا سيد”، إذ يضع المثل المرأة في دور الطاهية المأمورة بكلمة سيدها، وأنها تستطيع الطهو (يا للعجب!) إذا دفع السيد تكلفة ذلك، إنها النظرة القاصرة، والفكرة المتدنية وتوزيع الأدوار الضمنية يبدأ في المدرسة، حيث تكون الأم في كتاب القراءة بالمطبخ، ويكون الأب في العمل. هذا النسق ينمو ليؤسس  لتلك الفكرة التراتبية. وفي الغرب والشرق الأقصى معا تقوم المرأة بأدوار كبيرة، وليس هذا رهنا بأوروبا وحدها، فقد عرفت آسيا المرأة السياسية التي تقود بلادها، من أنديرا غاندي (الهند)، وبي نظير بوتو (الباكستان)، والشيخة حسينة (بنجلاديش)، بموازاة ميركل (ألمانيا)، وتاتشر (بريطانيا). لكن الأمر  لا يقتصر على المجال السياسي، فدخول المرأة الحياة المدنية من الأبواب الواسعة هو الذي أهَّلها لتكون من صناع المدنية والحضارة، فهي الفنانة والرياضية والإعلامية، وهي الحقوقية والطبيبة والعالمة.

مع فدوى طوقان، في مهرجان الخنساء بمسقط

الحرية ليست قشرة ذهبية تغطي قلبا يأكله الصدأ، على هذا القلب أن يكون مخلصا في رسالته لمنح المرأة -منذ طفولتها- ذلك القدر من المساواة والتقدير الممنوح للرجل.

– إذًا ما الذي تحتاجه المرأة العربية لتندمج في تدرُّجات الحضارة باعتبارها صانعة؟

تعليم حقيقي، وفضاء للتنافس، وحرية مخلصة ومؤمنة بدورها في بناء هذه الحضارة.

متعة خشنة

– هل يفصل “القلق” بين الرحالة والسائح العادي؟

ليس لدى السائح العادي من أهداف تتجاوز الاستمتاع بالآني، وهو متحقِّق أينما حلّ واستطاع، لكن الرَّحالة مطالبٌ بالتجاوز عن العادي والمألوف والمكرور، عليه أن يترك نصًّا يتجاوز الزمن، فالرحلة وثيقة تاريخية بلغة الأدب.

–  ماذا أضافت لك الرحلة؟

أضافت الرحلة الكثير إلى شخصية وقلم الرحالة، فأشرف أبو اليزيد قبل عقدين من الرحلات، ليس هو الشخص ذاته بعدها، وكل شخصية تلتقيها في الرحلة هي حياة جديدة، ولا أستثني الكتب التي قرأتها في أدب الرحلة، فأدب الرحلات مثل نسغ الرحلة الحي والمتجدد، وأقصد الرحلات الحيَّة وليست تلك المنقولة من كتيبات السياحة. 

ليست الرحلة هي ما تأخذك خارج الوطن وحسب، وإنما أجد معلمي الأكبر الشيخ مصطفى عبد الرازق خير مثال أستحضره، فقد كتب “مذكرات مسافر” عن رحلته الفرنسية، وكتب بالمثل “مذكرات مقيم” عن رحلاته في ربوع مصر، ونحن في حاجة جميعا أن نكون ذلك المسافر المقيم، لإعادة اكتشاف مصر، بالنسبة لنا، وهو كذلك إعادة اكتشاف لذواتنا. وبعد استقراري في مصر أحاول أن أغطي ربوعها بزيارات، خاصة مع أسرتي، وقد رافقتني في رحلات إلى الصين وتركيا وراجستان وفيتنام، بالإضافة للكويت، وأحب أن يجوبوا وطنهم، فهنا ينشأ الشغف بالرحلة.

للإطلاع على عدد المجلة كاملا

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات