ستُّون! (قصة قصرة)

10:04 مساءً الثلاثاء 9 فبراير 2021
د. إيمان بقاعي

د. إيمان بقاعي

روائية لبنانية، أستاذة جامعية متخصصة في الأدب العربي وأدب الأطفال والناشئة، وعضو اتحاد الكتاب اللبنانيين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

فتحَ عينيْه على خبَرٍ في “تويتر”؛ فنهضَ من سريرِه كالمجنونِ وهو يسحبُ من تحتِ اللِّحافِ مِعْطفَ الجوخِ الإنكليزي الموروثِ عن أبيهِ عن جدِّهِ، والذي اختبرَ قدرتَه السِّحريَّةَ على بثِّ الدِّفءِ في سريرِه بعد وفاةِ زوجتِهِ منذ عشرِ سنواتٍ.

فتحَ زرَّ جيبِه الدَّاخليِّ من جهةِ صدرِهِ، واستلَّ بطاقةَ هويتِهِ التي لا يغادرُ بيتَهُ- مذ بدأتِ الجائحةُ- من دونِها، وراح يدقِّقُ في تاريخِ مولدِه.

ثم ما لبثَ أن شعرَ بدفقةٍ من البهجةِ، تلاها شعورٌ غمرَ جسدَهُ وعقلَه ومشاعرَه بحيويةِ الشَّبابِ إذ تأكدَ أن سنةً وثلاثةَ أشهرٍ تفصِلُه عن سنِّ السّتينَ الذي قررَتِ الدَّولةُ اللّبنانيةُ بدءًا من الأسبوعِ الأولِ من شهرِ شُباطَ منعَ بالغيها من الخروجِ والتَّنقلِ مشيًا على الأقدامِ، أو قيادةَ سياراتهم، وحتى الذَّهاب إلى أعمالِهم خشيةً على أجسادِهم مِن اجتياحِ الكورونا.

وطفحَتْ هيئتُه كلُّها بالغبطةِ وهو يختارُ قميصًا زهريَّ اللّونِ من خزانتِهِ وفوقَهُ لبسَ كنزةً بيضاءَ قطنيَّةً يلبسها عادةً في الرّبيعِ، وفوقَها- كالعادة- لبسَ معطفَه نفسَه بعدَ أن مشطَ شعرَهُ الفضّيَّ الكثيفَ النّاعمَ وتعطّرَ، وانطلقَ مشيًا على قدميهِ من أسفلِ القريةِ حيث بيتُه إلى قمَّتِها صعودًا، متَّجهًا إلى “منْجَرةِ” والدهِ التي حوَّلها- مع بداياتِ الجائحةِ إلى بقاليةٍ هرَبًا بها من الإقفالاتِ المتكررةِ الطَّويلة التي طالَتْ كثيرًا من المصالحِ الاقتصاديةِ، ومنها المؤسسةُ التي يعمل فيها مصمِّمَ إعلاناتٍ.

ولأولِ مرةٍ لم يشعرْ بحاجتِهِ إلى رفعِ قَبّةِ معطفِهِ ليغطي عنقَهُ وأنفَه وفمَه مستعيضًا عن الكِمامةِ به، بل اكتفى بأنْ تلمَّسَ الكِمامةَ في جيبِ معطفِهِ ليستلَّها ويلبسَها إن صودفَ مرورُ أحدُ أعضاءِ البلديةِ بهِ، وتذكَّرَ أنه يجب أن يمرَّ في طريقِ العودةِ إلى خياطِ الضَّيْعةِ ليخيطَ الثُّقب الذي ابتلعَ ثلاثَ كماماتٍ حتى الآن وسحبَها إلى أسفلِ المعطفِ بين بِطانتِهِ وظِهارتِهِ.

لكنَّه عادَ فاستخدمَ علمَ الرّياضياتِ، وحسبَ فوقَ عمرِهِ ثلاثينَ سنةً- كون الخياط من عمرِ والدِهِ المرحومِ بالضّبطِ- فقاربَ الرّقمُ التّسعينَ، وارتجفَ قلبُهُ خوفًا، ثم همسَ لنفسِهِ: “يجب أن يكون هناكَ قرارٌ دائمٌ وحازمٌ وجازمٌ تصدرهُ الدَّولةُ ويمنَعُ بموجبِهِ أبناءُ التّسعين من مزاولةِ أعمالِهمِ منعًا باتًّا”. 

وخطرَ ببالِه وهو يخلعُ معطفَهُ ويحملُه على ذراعِهِ نافخًا صدرَهُ، مستعرِضًا ألوانَ ثيابِهِ الزّاهيةَ أن يغني وهو يتأملُ الشّمسَ الهاربةَ من أيامِ الصّيفِ: “طلعِتْ يا محلا نورها شمس الشّموسِهْ”؛ فغنى، وشعرَ شعورًا صادقًا أن صوتَه أحلى من صَوْتِ فيروز. وعزا ذلك إلى فَرْقِ العُمرِ؛ فأصواتُ “الشَّبابِ” أكثرُ قدرةً على الامتدادِ، وحناجرُهم أكثر صفاءً.

وطوالَ النَّهارِ، كانَ يبيعُ زبائنَه من أهلِ القريةِ راسمًا على شفتيْه- على غيرِ عادتِه- ابتسامةً واسعةً، واثقةً، حيويةً، ويهمِسُ في أذنِ كلِّ مَن يشكُّ في تجاوزِه السِّتين أنَّ حاجزًا طيارًا قد يولَدُ في أيةِ لحظةٍ، في أيِّ زاروبٍ، وقربَ أيِّ دكانٍ. ويسحبُ بعدَ تهديدِهِ المُبَطَّنِ من جيبِ معطفِه الدّاخليِّ من جهةِ صدرِهِ بطاقةَ هويتِه يلوِّحُ بها، متمنيًا أن يسحبَها أحدُهم ويدققَ بالأرقامِ، ثم يهمِسُ بخبثٍ: “وجودُ الهويةِ ضروريٌّ دائمًا، ليسَ فقط لأصحابِ المصالحِ مثلي، بل ضروريٌّ أكثرَ هذه الأيامِ بالذّاتِ، فالحكومةُ تريدُ مصلحةَ كبارِ السّنِّ!”.

ويتأكدُ مِن هرولةِ مَن يهرولُ أنَّه تجاوزَ السِّتين، فيضحك في سرِّهِ ويكتبُ على الصَّفحةِ الأخيرةِ من دفترِ الدّكانِ اسْمَ المهروِلِ، وإنْ صادفَ صعوبةً في تسجيلِ اسمِ أية سيدةٍ، فجميعهنَّ واثقاتٌ من أعمارِهنَّ، مبتسماتٌ بخبثٍ أكبر من خبثِهِ، رغم أنه يعرفُ أولادهنَّ  الذين تجاوزَتْ أعمارُهم  الأربعينَ، ويعرفُ اثنتينِ كانتا في السّنةِ الثّالثةِ في الجامعةِ عندما كانَ في السَّنةِ الأولى، بينما ثالثةٌ منهنَّ كانَتْ قد فتحَتْ عيادَتَها المجاورةَ لدكانِهِ عندما كانَ في السّنةِ الثّانيةِ.

وعندما حلَّ المساءُ، أغلقَ الدّكانَ وعادَ فحملَ معطَفَه على ذراعِهِ كأنه يقدِّمُ عرضَ أزياءٍ رغمَ أن نسمةً باردةً لفحَتْ وجنتيْهِ، وعادَ نازلًا نحو بيتِهِ، مغنيًا الأغنيةَ ذاتَها حتى بعد أن وصلَ إلى بيتِهِ واستحمَّ ولبسَ ثيابَ نومِهِ وتمددَ على سريرِه العريضِ باحثًا عن برنامجٍ سياسيٍّ- صحِّي في شاشِة تلفازِه المعلَّقِ على الجدارِ قبالةَ سريرِهِ، بعدَ أن عادَ فوضعَ معطفهَ كعادتِهِ كل مساءٍ تحتَ لحافِه متذكرًا بابتسامةٍ واسعةٍ هرولةَ الزَّبائنِ، ثم رفعَ فروَ معطفِهِ فغطى أنفَه قائلًا بينه وبين نفسِهِ: “حتى اليومِ كنتُ ضدَّ كلِّ ما تتخذُه الحكومةُ من قراراتٍ. لكنني اليومَ أعذِرُها، فالعجائزُ منتشرونَ في كل مكانٍ، ويتجاوزون القانونَ، وحصيلةُ يومٍ واحدٍ في دفترِ دكاني وحدِه أكثرُ من دزينةِ مُخالِفٍ، هذا عدا المُخالِفاتِ!”.

انتهت

د. إيمان بقاعي

9\1\2021

One Response to ستُّون! (قصة قصرة)

  1. إيمان بقاعي رد

    9 فبراير, 2021 at 11:53 م

    شكرا لنشرها

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات