الشاعر الفنان جوزف ابي ضاهر الذي صرخ وبكى وغنى

08:10 صباحًا الجمعة 26 فبراير 2021
اسماعيل فقيه

اسماعيل فقيه

شاعر وكاتب وصحافي من لبنان

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

جوزف أبي ضاهر، شاعر حفر قصيدته على صخرة حبه وبلاده،وزينها بألوان أشواقه،فكانت لوحته الفنية التشكيلية مرآة قصيدته أو خطوطه التحويلية التوليدية في مجرى الزمن السريع .
قلت لصديقي جوزف،كيف بدأت صرخة الحياة معك.كيف تعالت صرختك،كيف هبّت الحياة في أيّامك؟
فجاءني صدى جوابه وتردد واسعاً :

— الى صديقي الشاعر اسماعيل فقيه ، مع المحبة والاحترام:
في البدءِ صَرَختُ. لا أعرف مَن سَمِع صوتي، مَن رسم دربي إلى عمرٍ أنظر الآن إليه روزنامة، أُسقط منها مع كلّ غروب شمسٍ يومًا… وأُسقط ورقة من تاريخ لا يتأثر بأي شيء.
في البدء: بكيت، ضحكت، غنّيت… وقبل أن أتمكّن من الكلام حرفًا بعد حرف، رأيت أصابعي الصغيرة ترسم زيحًا بعد زيحٍ، يأتي متقطّعًا مرّات، ومرّات يأتي موصولاً في ذاته، كأنه الأفق البعيد لأيامٍ لم تتأخر شمسها في مراقبتي أكبر، أركض، ألعب بالكلام وأقطف زهرًا.
منذ تفتّح الزهر في جسدي، طاف العطر بي إلى أماكن جديدة. علّمني لغةً ما كنت أدركت منها غير أحرف أبجديتها، والقليل القليل من طرق استخدامها.

حوار بين جوزف أبي ضاهر وإسماعيل فقيه

نظرت إلى البحر وهو المدى أمام شباك بيتي، مددت له يدي ولهفتي. كانت لهفتي ما تزال بنفسجةً، نصف وريقاتها مضمومة إلى بعضها بعضًا، ونصفها الآخر أعطاني هوية ناصعة البياض وهمس: أكتب… أرسم.
­ ماذا أكتب عن الغامض الذي هزّ جَسَدي وأربكني أمام خيالٍ كان في بالي قبل أن يأتي إلي بكامل الصفات والهوية؟ ماذا أكتب انطلاقًا من ذاتي؟
ما عاد النوم يأوي إلى فراشي باكرًا. انشغل بصنع الأحلام، كمثل صنع طائرة ورق ملوّن في يد ولد أهوج يجابه الهواء بها فيقع بحبها، قبل أن يتعثّر ويقع على التراب.


لم أغسل يدي من التراب. شممتها. كانت رائحتها تشبه رائحة دفاتري البيضاء التي حرّضتني على امتلاك جميع الأقلام الملوّنة، وفرضت عليّ أن أكتب باللون الأخضر، وكتبت. رأيت ما يشبه الشعر يطل برأسه، بجسده، لابسًا صوتي، وممسكًا بأطراف لهفةٍ تكاد تظهر من بين الحروف المهتمة بدوزنة نغمٍ يقترب من قافية قصيدة محكيّة تصف، بل تصوّر المنظور أمامي من بحر وغيم وسماء وطير… ولا تروح إلى الأبعد.
كان الخجل يكتم أنفاسه، إذا لاح طيف عطرٍ، ولو في البال.
لم يتوقف العمر في أوّل هذا الممرّ الضيق. شدَّ عَصبه، وأخفى بعض بريق عيون تهمس سرًّا بدعوة للقاء، لا يخاف القلب فيه من سقوط نبضاته بين يدي رقيب.
كأنه الحبّ، أقول «كأنه» لأنّني لم أكن أعرف كلّ ما يجب أن يُعرف عنه. لتأخذني المشاعر بكامل ثرائها إلى عوالم الأحاسيس المكتملة الحضور المعلن في شبه شعرٍ ورسمٍ وصلا معًا، حتّى قبل الكتابة السرديّة لرسائل المشاعر.
عرفت بالممارسة، وبلفتات «تنويه» من رفاقٍ أن الشعر والرسم هما بعضي أينما ذهبت. كان ينقصني امتلاك القواعد والأصول. الموهبة وحدها تبقى مجرّد «قَرص» الهواء، فلا الهواء يشعر، ولا القارص يبلغ مرامه.
كثفت دراستي في اتجاهين: الشعر بالعربيّة، والرسم والتلوين. تصدّرتُ المرتبة الأولى فيهما، وحدهما، وكاد السقوط يجذبني إليه لولا مصادفات ساعدتني لتخطي المواد التعليمية الأخرى بفارقٍ أرهف من نظرات رفيقةٍ لي ما لامس طرفها غير الكلام (يومها).
كتابتي الأولى ترافقت وهاجسي في اللعب بالألوان والخطوط والأشكال، ما شجعني على الاشتراك في مسابقات لتلوين صورٍ كانت تنشرها مجلة للصغار اسمها «دنيا الأحداث»، وتُصدرها الأديبة لورين الريحاني.
النتيجة جاءت مشجعة حصلت على جوائز في التلوين، إضافة إلى ارسالي كتابات طريفة كانت مع الرسوم بواكير موهبة تدفعني لأكمل، وأكملت.


بعد الشعر، وتلوين الصور، بدأت في ابتكار شخصياتٍ معتمدًا على خيال ولد يحب المغامرة قدر استطاعته. تخيّلت شخصيات كانت تكبر معي. يومًا بعد يوم، الأساس الذي استغل أحلامي. وكنت مصرًا أن أحققها. وحققت بعضها منذ امتلاكي مفتاح الباب الذي دخلت منه إلى عالم الصحافة، عبر مراسلتي مجلّة «الدبور» نشرت فيها أولى كتاباتي وسعيت لأكون طليعيًا في الانتقال إلى الاحتراف الذي شجعني عليه رئيس التحرير ميشال مكرزل طالبًا منّي وضع تعليقات طريفة لصور كاريكاتورية كان يرسمها الفنان «ديران».
بعدها نشرت أزجالاً ومقالات قبل امتلاكي امتياز مجلة «صدى الأرز» ودخولي عالم الصحافة.
تابعت دراستي، (حصلت على دبلوم في التجارة والمحاسبة) عملت مدّة نصف سنة في أحد المصارف… هربت من الأرقام إلى الكتابة الحرّة التي وسّعت أمامي آفاق الحياة مع متابعتي الرسم: دراسة وإنماء موهبة.
في مناخ الشعر والرسم كان الكتاب صديقي الأوّل. ما ابتعدت عنه منذ امتلاكي أولى المعارف.
كنت أدخر المصروف الذي أحصل عليه من الأهل لشراء الكتب الأدبيّة والتاريخيّة، وبنهم العاشق لهوس حبّ عاصف، أقرأ وأحفظ الشعر غيبًا، وأناقش ولا أترك مناسبة أدبيّة إلا وأكون فيها طليعة الحضور.
… فتحت الصداقات أمامي أبواب أعلام في الأدب والشعر والصحافة، كانت أفكارهم وتجاربهم ثراءً وسّع أمامي أبوب المعارف والحياة التي أخذت منّي كلّ ما ملكت من حماسة ومعرفة، وما زلت أسعى إلى مزيد.
علّمتني الحياة، وهي معلّمي الأبرز والأهم، كيف أعيش فرح البحث عن ثراء فكري لا يتوقّف ولا ينتهي. وإنما يستمر، وأستمر به أكثر تواضعًا، وأكثر احترامًا لمن سبقني، ومن جايلته، ومن سيأتي ليزيد من حبّي ولهًا راقيًا في الكلمة والفعل.
صحيح أن أوطان الكتّاب والشعراء والفنانين هي النجوم ما طاب لها أن تسافر، لكن الواقع يبقى ثابتًا في التعامل مع الحياة المتشعّبة الدروب والغايات والأحلام التي نصنع معظمها، ونسعى دائمًا إلى تحقيقها بثباتٍ ومعرفةٍ وثقافةٍ لم تضع، مرّة، نقطة في آخر السطر.


حوار بين جوزف أبي ضاهر وإسماعيل فقيه



في هذا المناخ أشعر، يومًا بعد يوم، أن دور الكاتب والشاعر والصحافي والمفكر، قد يحدّد في بدايات لكن النهايات غير موجودة ما يفرض عليه الاستمرار في أمرين: مزيد من المعرفة والثقافة، ومزيد من الهمة لإكمال دورٍ يثري الحياة في وجوهها المختلفة الاتجاهات والألوان، ولا يُصاغ اللامحدود بمحدود القوانين والثوابت التي تتغير وتتبدل وتتنوع في الأرض كلّها… وأما الأحلام فقد ترى في مرايا الحياة وجوهًا فتحاول اختيار الأجمل لها لتلبسه في الأعراس والأفراح المواجهة للغياب.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات