مليونية لملوك وملكات قدماء المصريين

08:58 مساءً الأحد 4 أبريل 2021
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

في قصة كتبتها للناشئة، كان عنوانها – قبل النشر – حكاية رسام عمره خمسة آلاف عام!، ونشرت في سلسلة كتب أشرفت عليها بالمركز القومي لثقافة الطفل، وصدرت عن المجلس الأعلى للثقافة، الأستاذة فاطمة المعدول، ورسمها الفنان ماهر عبد القادر ، حكيت عن رحلة الفن في مصر، منذ بدأها صبي رسام، وصولا لأجيال أتت بعده، وجاء فيها:

“كتب لي حفيدي رسالة على ورق البردي، أثناء العام الثامن من حكم الملك رمسيس الثاني. كان الملك يوجه كلمة للفنانين الذين يسجلون حياته بالفن رسمًا ونحتًا، وكان من بينهم حفيدي النابه، الذي حفظ كلمات الملك، وكتبها على سبع لفائف بردي، وأرسلها لي، لأنه اعتقد أنها كلمات تكرم كل فناني مصر:

أيها الحرفيون المتميزون الأقوياء، إنني أعرف مدى مهارة أيديكم، التي صنعت من أجلي الكثير من النصب والمنشآت، أنتم يا من تحبون معالجة الأحجار الثمينة المختلفة والمتباينة الأنواع، وتخترقون أحجار الجرانيت، وتبدعون بالحجر الصوان، أيها الشجعان الأقوياء البأسٍ، خاصة وأنتم تشيدون المباني والمنشآت، وبفضلكم، سوف أتمكن من زخرفة كافة المعابد التي أقمتها، وعلى مدى الدهر أيها المقاتلون البواسل الذين لا تعرفون معنى الكلل، يا من تسهرون على سلامة العمل خلال فترة إنجازه، وتؤدونه بعزم وفعالية، أنتم يا من ينطبق عليكم هذا القول: اعملوا، وفقا للتخطيطات، وأنتم يا من تتوجهون لجلب الحجر من الهضبة المقدسة، لقد عملت بما كنتم تقولونه لبعضكم بعضا، ولن أبخل عليكم بعطائي ومنحي، وسوف أقرن الفعل بالقول.

وأمر الملك   بنقش كلمات الرسالة على لوحة ضخمة وضعت بمكان ظاهر في منطقة هليوبوليس. وقد سعد الفنانون بهذه الرسالة الملكية، واحتفلوا بها في دير المدينة، في إحدى قرى الحرفيين والفنانين التي أنشأها الملك رمسيس الثالث على ضفاف مدينة طيبة.

مرت سنوات وسنوات، وقد اجتمعت لدي عشرات من لفائف البردي التي تحفظ حكاية عائلتنا الفنية  في صندوق خشبي كبير. وانتقل أفراد العائلة  للحياة في الفيوم، شمال مدينة طيبة. وهناك تخصصنا وعملنا بجد في صناعة التوابيت وزخرفتها، وتزيين وجوهها. كان حب عائلتي للفن وراء ممارسة الرسم،  والنحت، وصناعة الصناديق والأدوات التي توضع في المقابر…”.

تمتد رحلة الفن، عبر الكتاب والحياة، حتى أقول في آخر السطور: “ وفي مصر يا أبنائي آلاف من أحفادي الذين تعلموا الفن، وعلموه، ومنهم الفنان حسين بيكار، الذي رسم للكبار والصغار، والفنانة تحية حليم التي رسمت حياتنا الشعبية، وبعدهما تستمر حياة الفن، وحكاياته.”

لقد استدعت الذاكرة الرحلة كلها، رحلة الفن في مصر، فما قدمه موكب المومياوات الملكية، لم يبهر العالم وحسب، وإنما حرك على نحو أكبر مشاعر مصريين كثيرين، كانوا قد عجنتهم الحياة بمشكلاتها، حتى شغلتهم عن جوهرهم، الذي قدم الموكب تذكيرا به.

لم يكن الموكب لملكات وملوك مصر العظام وحسب، وإنما كان موكبا للفنانين، الذين بعثوا موسيقى الأجداد، وأزياء المصريين القدماء، ومشغولاتهم التي وظفوها في حياتهم  اليومية دون أن يفقدها الحس العملي وظيفتها الجمالية، كان المصريون القدماء يخترعون لغدهم، لكنهم لم ينسوا يومها أبدا، فاستمتعوا بالحياة ومجدوها، وملأوا جدرانهم بآيات مصورة وهو يقتنون الحلي، ويغرسون نادر الورود، ويسجلون قصصهم وأساطيرهم وحكمهم على ورق البردى، والأواني، وجدران كل معبد ومسلة وهرم.

وقد سبقت الموكب بأيام وساعات محن  وأزمات، خرجت منها مصر بفضل ذلك النسغ الممتد، فهم ليسوا المغتربين بحثا عن لقمة العيش، وحسب، لكنها أصحاب المعجزات، الذين تزيدهم الآلام قوة، وتمنحهم المحن صلابة، وهم يستعينون بالموال على الحزن، وبالشعر على الألم، وبالموسيقى على قسوة الأيام.

كما أن حكمة الموكب،وما أكثر الحكم في ذلك اليوم، أنه قدم وجه مصر الأنثى وهي تحكم بلادا تفوق حدودها في عصرنا، تقود الجنود، وتفيض حنانا على أفراد أسرتها، وتؤمن فتقدم القرابين وتؤدي الصلوات، وتقوى عزيمتها فتوحد البلاد، وتحاور بقوة لا تلين.

النجمة المصرية يسرا

إن الموكب الذي  مضى بعدغروب الشمس، أضاء شمسه الخاصة، شمس لها عبّادها، ولم لا ، وحضارتنا المصرية القديمة هي الدرس الأول في كتب التاريخ شرقا وغربا.

وقدم فخامة الرئيس المصري درسًا، أعرفه واقعا في الشرق الأقصى، فلم يكن التطور والتقدم والتصنيع والتعمير والانتماء للعلم، يعني أن نتنصل من ماضينا المشرق وتراثنا المنير، وتاريخنا الذهبي.  إن الإنسان الكوري والياباني والسنغافوري، ليمر بالمعبد ليقدم صلاته، ثم يصل مختبره، أو مكتبه ليواصل الابتكار والاختراع والتفكير في المستقبل. وهذا ما نريده لمصر، أن يكون الدين سندا للعلم، وأن يكون التدين صنوا للإتقان في العمل، وأن يصبح الإيمان صفة لا تشتت الإنسان بين وطنه ودينه وعلمه. 

هذا هو موكب المومياوات الملكية، يمضي بميدان التحرير، من متحف إلى متحف، وكأنه يقود ثورة فنية، مليونية جديدة، وكأننا قرأنا كتابا متعدد الأبعاد، والمهم بعد هذه القراءة أن نفهم ونعي، ونكتب على المنوال نفسه.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات