الفنانة كاتيا طرابلسي تحوِّل القذائف الحارقة الى قناديل تضيء الحياة

11:12 صباحًا الإثنين 3 مايو 2021
اسماعيل فقيه

اسماعيل فقيه

شاعر وكاتب وصحافي من لبنان

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

أبدعت صديقتي الفنانة كاتيا طرابلسي بما أنجزته من فنون مذهلة ، اذ حوّلت القذائف التي تحرق الارض والانسان الى تماثيل كالقناديل لتضيء بها عتمة الحياة والانسان ..
تقول كاتيا طرابلسي وهي تجالسن في صالة العرض الفسيحة تحت الأرض في “غاليري صالح بركات” في بيروت: “عندما يكون لديك أولاد، تعيش في خوف دائم من المستقبل”. ونجد خلفها 47 منحوتة صُنعت كلّ منها من موادّ مختلفة وزُيّنت بأسلوب فريد، لكنّها تشترك جميعها في الشكل الأساسيّ عينه؛ فهي مستوحاة من القذائف التي دمّرت نسيج بيروت المدينيّ في خلال الحرب الأهليّة المروّعة التي عايشتها طرابلسي في سنوات المراهقة.

رسالة بيروت – إسماعيل فقيه


وتضيف طرابلسي بحسرة، “منذ الحرب العالميّة الأولى، والحرب العالميّة الثانية وما يحصل الآن [في سوريا]، لم نتعلّم. نحن بحاجة إلى خوض الحروب. نحن بحاجة إلى تدمير الآخر. لماذا؟ جميعنا سواسية. جميعنا مكوّنون من جسد ودم وخوف وأحاسيس. وحدهما الشكل الخارجيّ والجغرافيا ينتجان هويّات مختلفة”.
تشكّل الجغرافيا، والحدود والقوميّة جوهر معرض طرابلسي. ويستكشف المعرض، الذي يحمل اسم “هويّات دائمة”، العلاقة بين النزاع، والثقافة والهويّة. وقد صُمّمت كلّ منحوتة في المعرض لكي تمثّل ثقافة بلد مختلف، مسلّطة الضوء على قيمة الهويّة الثقافيّة ومحذّرة في الوقت نفسه من مخاطر القوميّة والخوف من “الآخر”.
ما حفّز الفنّانة للانطلاق في مشروعها، الذي استغرق حوالي أربع سنوات من بدايته حتّى عرضه، كان النزاع المستمرّ في سوريا، الذي دفعها إلى التساؤل عمّا إذا كان البشر قادرين على العيش بسلام.
وتقول: “لدينا هويّات جميلة أحتفي بها لكي أبيّن أنّنا نستطيع إثراء بعضنا البعض بدلاً من تدمير بعضنا البعض. لقد تحوّلت أداة التدمير الذي شهدت عليه في خلال نشأتي إلى أداة حياة، وتاريخ وفنّ”.
اختارت طرابلسي أن تمثّل في معرضها 46 بلداً من خمس قارّات. وقرّرت تصوير لبنان مرّتين استثنائيّاً. وتتألّف أولى المنحوتتين من خشب الأرز المنقوش، وهي تصوّر مجموعة رجال على متن قوارب تجديف، واستوحتها الفنّانة من الفينيقيّين الذين جابوا البحار وأنشأوا ممالك في جبيل، وصور وصيدا قبل أكثر من 3 آلاف سنة. أمّا المنحوتة الثانية فتغطّيها ملصقات ملوّنة مؤلّفة من شعارات الأحزاب السياسيّة اللبنانيّة الثمانية عشر في أعقاب الحرب الأهليّة.
وتقول طرابلسي: “صعب عليّ جداً تنفيذ القطعة الخاصّة بلبنان لأنّني لم أعرف ما هي هويّتنا الفعليّة اليوم. رحت أسأل اللبنانيّين من حولي، ‘ما هي هويّتنا؟’، وكانوا ينظرون إليّ جميعهم نظرة فارغة: ‘التبّولة؟ الحمّص؟’ ليست [لدينا] هويّة فعلاً بسبب الحرب… الحرب هي التي تحدّدنا من الخارج ومن الداخل. لقد مرّت 30 سنة على الحرب وما زلنا نتحدّث عنها“.
صوّرت طرابلسي أيضاً تاريخ النزاعات في بلدان كثيرة أخرى. وتتألّف منحوتتها التي تمثّل فلسطين من مفاتيح حديديّة، في إشارة إلى مفاتيح المنازل التي تناقلتها من جيل إلى جيل العائلات النازحة التي هربت من فلسطين سنة 1948 ولم تتمكّن من العودة. أمّا في المنحوتة التي تمثّل ألمانيا، فقد أحاطت طرابلسي الوسط الذي هو على شكل قنبلة بأقسام من الاسمنت مغطّاة برسوم غرافيتي تعلوها أسلاك شائكة ترمز إلى جدار برلين. وخلافاً للمنحوتة الفلسطينيّة، التي تروي قصّة نزاع من دون حلّ، تصوّر المنحوتة الألمانيّة لحظة سقوط الجدار التي ترمز إلى النصر والاتّحاد.
تبرز منحوتات أخرى ظريفة ومسلّية. فقد اختارت طرابلسي مثلاً أن تصوّر أميركا على شكل ملصقات من فنّ البوب، وأوراق الدولار النقديّة، والقصص المصوّرة وشخصيّات “ديزني” من الرجل الوطواط إلى ميكي ماوس. وتقول: “أميركا بلد جديد. كيف أعرف أميركا؟ أعرفها من فنّ البوب، والموسيقى وخفّة هذا الجانب المرح والتشكيلي. الحلم الأميركي“.
لكنّ أحد نواحي المعرض الأكثر إثارة للاهتمام هو وجود عدد كبير من المنحوتات المتجذّرة في ثقافات سبقت وجود الدولة القوميّة الحديثة التي تمثّلها.
فبالنسبة إلى المكسيك والبيرو مثلاً، اختارت طرابلسي التركيز على الحضارات القديمة، مصوّرة المكسيك من خلال منحوتة خشبيّة مستوحاة من أعمال حضارة المايا الفنيّة العائدة إلى القرن العاشر قبل الميلاد، والبيرو من خلال منحوتة خشبيّة أخرى مستوحاة من فنّ صناعة الفخّار الذي أتقنته شعوب واري، ونازكا والموشي في الألفيّة الأولى. ومن الأسئلة المثيرة للاهتمام التي يطرحها المعرض مدى قدرة أيّ أمّة حديثة على المطالبة بملكيّة الثقافات القديمة.
تطرّقت الفنّانة أيضاً إلى صراع الثقافات، فاختارت تصوير كندا من خلال طوطم خشبيّ مطليّ مستوحى من الثقافة الكنديّة، وأستراليا من خلال رسم منقّط مستوحى من السكّان الأصليّين. ومن خلال تسليط الضوء على الهويّات المعرّضة للخطر، تلفت طرابلسي الانتباه إلى الضرر الناجم عن الاستعمار وميل الدول القوميّة إلى إعطاء الأولويّة للتماثل الداخليّ، ما يهدّد الممارسات الثقافيّة الخاصّة بالأقليّات.


وتجدر الإشارة إلى أنّ كلّاً من الممارسات الثقافيّة التقليديّة المستخدمة لتصوير الدول العربيّة – منحوتة معدنيّة دقيقة التفاصيل لتصوير المغرب، ومنحوتة خشبيّة مطعّمة بعرق لامع من اللؤلؤ لتصوير سوريا، وخزفيّات مطليّة لتصوير تونس – يعود إلى منطقة لا تتطابق مع الحدود الحديثة، وذلك نتيجة لتقسيم الامبراطوريّات الاستعماريّة. واختارت الفنّانة لنيجيريا منحوتة دقيقة التفاصيل مرصّعة بالخرز على شكل طائر – يرمز لدى قبيلة “يوروبا” إلى دور الملك كوسيط بين رعاياه والآلهة – تكريماً لثقافة تمتدّ على ثلاث أمم حديثة.
ويبدو أنّ طرابلسي لم تختر هذه المنحوتات بقصد التعبير عن رأيها في الإرث الاستعماريّ أو إيديولوجيا الدولة القوميّة الحديثة وسياستها. فهي تشرح أنّ هدفها ليس الاسترسال في استحضار الماضي، بل تسليط الضوء على خطر النزاعات المستمرّة في المستقبل. لكنّها تدرك جيداً أنّ مفهوم الهويّة الثقافيّة هو سيف ذو حدّين. وتقول: “يمكنه أن يكون أمراً رائعاً. من دون حدود، أعتقد أنّه كان ليشكّل مصدر إثراء أكثر منه مصدر انفصال“.


إنّ “هويّات دائمة” هو معرض مركّب يطرح علامات استفهام كثيرة حول الثقافة، والملكيّة، والانتماء، والأمّة والنزاع. ومن خلال الاحتفاء بالتراث الثقافيّ الذي غالباً ما يقع ضحيّة الحرب، تسلّط طرابلسي الضوء على قيمة الفرديّة، طارحة في الوقت عينه علامات استفهام حول مخاطر الهويّة القوميّة التي تستخدم الثقافة من أجل بناء حسّ من الانتماء يستبعد الدخلاء وينمّي العداوة والانقسام.
وتروي منحوتات طرابلسي قصّة إبداع ودمار تعود إلى قرون عدّة، مستحضرة شبح الحضارات التي انبعثت ثمّ سقطت ولم تخلّف سوى الحرف الفنيّة والآثار. وهي تحتفي في الوقت عينه بالجمال المطلق الموجود في التنوّع، مسلّطة الضوء على أهميّة تعزيز التبادل الثقافيّ عوضاً عن النزاع.

One Response to الفنانة كاتيا طرابلسي تحوِّل القذائف الحارقة الى قناديل تضيء الحياة

  1. محمد درويش اعلامي الشاعر رد

    5 مايو, 2021 at 11:40 ص

    ——— الفنانة كاتيا طرابلسي تصنع من القذيفة لوحة ترسم السلام ضد الحرب والحياة ضد الموت ينبع من بين اصابعها نهر من التفاؤل مثقفة تحاكي الحديد والجوهر ولا تتعب لها مستقبل كبير في هذا المضمار ان اسماعيل فقيه الناقد الكاتب البارز نجح الى حد كبير في تقديمها الى القارىء الف تحية لقلمه البارع

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات