قصص على الهواء

12:19 مساءً الأحد 2 مايو 2021
  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

[نشرت في مجلة العربي، ونوقشت على إذاعة مونتي كارلو]

لماذا اخترْتُ هذه القصص؟

عرض واختيار: د. إيمان بقاعي- روائية وأكاديمية من لبنان

تشتركُ هذه القصص في كونِها قصصًا اجتماعية؛ أي: تهتمُّ بتفاصيل الحَيَاة اليومية والاجْتِمَاعِيّة وتصدر-  في أشكالِها ومحتوياتها-  عن نموذج اجْتِماعِيٍّ معينٍ يَعْتَمِد على تأثُّر القارئِ بما فيها من شَخْصِيَّاتٍ وأحداثٍ وأفكارٍ تأثُّرًا يجعله يعتصمُ بنموذجِ البطل أو بالقالب الاجْتِمَاعِيّ الّذي تتشبث به الجماعة وتذودُ عنه، أو بمثل أعلى يؤمنُ به دونما مبالغةٍ أو افتعالٍ أو تكلُّفٍ، متعاطفةً مع أصحاب الحِرَف والمِهَنِ (فيلسوف الأحذيةِ)، أو السّاعينَ إلى السّعادةِ رغم الأبوابِ الموصَدةِ (المخبز)، أو الذينَ يعرفونَ أين يكمن الفرحُ (الضّوضاء المبهجة)، فلا يكاد أحدهم يبتعدُ  عنه حتى يعودَ إليه. أما الاختيارُ، فقد جاءَ على أساسِ الموضوعِ والسّردِ معًا. وفيما يلي عرض القصص الفائزة:

المرتبة الأولى:المخبز” لنبيل الجابري\المغرب

بصيغة السَّرد الذَّاتي الذي يجذِبُ القارئَ، كونه يوحي له أن السّاردَ يقُصُّ تجربةً شخصيةً، سرَدَ (نبيل الجابري) على لسانِ موظفٍ فقيرٍ قصَّتَه مع مخبَزٍ “مرموقٍ بعيدٍ عن حيِّهِ”، روّادُهُ من الأثرياءِ ذوي الثّيابِ الفاخرةِ واللّغة الفرنسيةِ المُتقَنَةِ، فيحاولُ تقليدَهم مرتديًا بِذلتَهُ الجميلةَ “التي تظهرُه فاتنًا”، ومستخدِمًا لغتَهَ الفرنسية “الرّكيكةَ” وذلكَ تقرُّبًا و”اندماجًا”؛ فيقضي ساعاتٍ في المكانِ متأملًا الأسعارَ الغاليةَ، مهَجِّيًا أسماءَ المعروضاتِ “بسعادةٍ ومرَحٍ“؛ إلى أن يُغلِقَ حارسُ الأمْنِ البابَ في وجهِهِ، وتفاجئهُ عاملةُ الشّباك بأنَّ “خبز الباغيت العادي قد نفِدَ ولم يبقَ سوى المنتجاتِ الأُخرى- الغالية!”. وإذ تصلُ العقدةُ إلى ذروتِها عند هذه النّقطة، يأتي الحلُّ  مفاجئًا القارئَ، بإيجابيَّةٍ- وإن كانَت تلوِّحُ بِعَصا “الفقيرِ” إن طُرِدَ من أمكنةِ الأغنياءِ، أحالَها الكاتبُ إلى كارلوس زافون في (ظلِّ الرّيحِ)- حتى لو أظهرَ سماحَةَ نفْسٍ من خلالِ طرْحِ “مخبزٍ بديلٍ” أُعِدَّ مسبقًا تحسُّبًا لما قد يقع، وقد وقعَ.

والقصةُ مستوفيةٌ عناصرها: من مقدمة، وعقدة، وحل، ومستوفية الجانب الفني من وصف خارجيٍّ وداخليٍّ ساهمَ في تكريسِ الفكرةِ المطروحةِ بأنّ للفقراءِ الحقّ أن يستمتعوا بما يستمتعُ به الأغنياءُ حتى لو كانَ عن طريقِ تقليدِهم من خلالِ “أقلِّ المشترياتِ”!

بريشة فان جوخ

المرتبة الثّانيةُ: فيلسوف الأحذية” لـعصام زكي عمار\مصر       

أيضا بصيغة السّرد الذّاتي، يتحدث القاصُّ- مركِّزًا على المكانِ، مقدِّمًا أسماءَ واقعيّةً: “شارع خيرت”، “السَّيدة زينب”، ومسمّيًا فيلسوفَ الأحذيةِ “عم توحيد”، وهو لقبٌ موفَّقٌ؛ فلكُلِّ شيءٍ في الحياةِ فلسفةٌ لو يجيد المرءُ الإصغاءَ إليها كما أجادَ بطلُ القصَّةِ الذي بدأ إصغاءه لمجردِ “قتلِ الوقتِ” أثناءَ تلميعِ حذائِهِ، مُسْتلًّا من جعبتِهِ أسئلةً ساخِرةً، غير منتظِرٍ أجوبة مدهِشة تدور في إطار علم نفسِ الإنسانِ “الواقعيِّ” المستنِدِ إلى شكلِ الحذاء ولونِهِ وجلدِهِ ونظافتِهِ وجنسِهِ؛ أكانَ لذكَرٍ أو أُنثى، يدلي بها بسخاءٍ صاحبُ “اختصاصٍ عمليٍّ لا أكاديميٍّ” صقَلَتْ تجربتَهُ الأيامُ، فتطورَتْ من درجةِ الإتقانِ إلى درجةِ ما أسماه “الفنَّ”، و”المزاجَ”. والقصةُ المتوازنةُ المقدمة والعقدة والحل، حوارُها ثريٌّ، جذّاب حتى لو طالَ أحيانًا، فطولُه هنا وظيفيٌّ، وقد أدى المطلوبَ منه، فأخذَ بطلُ القصةِ الفلسفةَ على محمل الجدِّ، وطبّقَها من دونِ أن يتوقعَ نجاحًا ساحقًا دائمًا، شأنه شأنَ “معلِّمِهِ” الذي لم يُخْفِ عنه أن توقعاتِهِ تخيبُ “أحيانًا”. 

المرتبة الثّالثةُ:الضَّوضاء المبهِجة” لباسم نجيب\مصر

إن ما يميّزُ هذه القصة بدايةً هو أن عنوانَها المؤلَّفَ من كلمتينِ اثنتينِ تنتهي بهما القصةُ، يؤكدُ على انتمائها إلى ما يُدعى عادةً بقصص العائلةِ الاجتماعيّةِ. فالقصةُ هي قصَّةُ “قلْبٍ”، وأجواؤها أجواءُ “قلْبٍ”. فرغمَ أن مشكلةً بدأتْ مع بدايتِها، وهي اختفاءُ مفاتيح غرفةِ السَّاردِ الشّابِّ بطريقة السّرد الذّاتي، والذي يهم السّفرَ ولا مفاتيحَ بديلةَ لديه، فإنّ العقدةَ وصلَتْ إلى أوجِها- حاملةً في الوقتِ نفسِه بذورَ حلِّها- عندما وجدَ أصغرُ أفرادِ العائلةِ “الحفيدُ” المفاتيحَ مهدِّدًا برميِها من الشّباكِ، فبدأ صراعٌ بين “التَّربية التّقليديةِ” الممثلَةِ بطريقةِ والدِ الطّفلِ، و”التّربيةِ الواقعيَّةِ” المناوئَةِ والقائمةِ على دلالِ “جدو بحاجبيْهِ السّميكينِ وشاربِهِ الكبيرِ”، و”تيته” الدّاعِمةِ حفيدها بشتى أنواع الدّعمِ المُتوارَثِ، والتي أثبتَتْ تفوُّقَها على التَّربية التَّقليديةِ، وكرّسَتِ الحنينَ المحمولَ من المسافِرِ متجهًا إلى غرفةٍ لا ضوضاءَ فيها؛ أي: “لا بهجة”، إلى أجواءِ البيتِ المُغادَرِ والموصوفة ببراعةٍ بدءًا بالشَّخصياتِ وانتهاءً بروائحِ المخبوزاتِ، فيراودك إحساسُ بطل القصة بأنه ذاهبٌ كي يعودَ، وبأن الحصولَ على مفتاحِ غرفةٍ لا بهجةَ تسكنُها ليسَ جائزةً؛ بل ربما يكونُ عقابًا.

‏الأحد‏، 02‏ أيار‏، 2021

المرتبة الأولى:المَخْبَزُ” لنبيل الجابري\المغرب

تَعوَّدت مُنذُ ما يزيد عن الأسبوعين أن أقصِد أحدَ المَخابزِ البعيدة عن حَيِّنا مُتجاهِلًا خمسة مَخابزَ أُخرى أقرب منها على الطَّريقِ نفسِهِ. والدَّافعُ بعيدٌ عن الرَّغْبَةِ في المشي أو طلبِ خُبزٍ ذي جودةٍ عاليةٍ، ولكنَّه مختلفٌ وغريبٌ في الوقتِ نفسِهِ، إذ إِن المَخبَزَ ينتمي إلى سلسلة مَخابزَ مرموقةٍ باسْمٍ أجنبيٍّ مُشِعٍّ.

والمحلُّ شاسعُ المِسَاحةِ كأنَّه سوقٌ تجاريٌّ، فيه ما لَذَّ وطابَ من الحَلْوى بشتى الأصنافِ والأسماءِ، وله أربعةُ أبوابٍ، على كل بابٍّ منها حارسُ أمْنٍ ببِذْلةٍ أنيقةٍ، يفتح الباب للدَّاخلين والخارجين على حدٍّ سواء.

أما زبائِنُ المحلِّ، فمن الطَّبقةِ الثَّريةِ بالبلد، يتحدَّثون كأنَّهم يهمسون بلغة فرنسية سلسة بها بعض الكلماتِ الدَّارجة البسيطة، ويرتدون ثيابًا تبدو أنها تنتمي إلى آخِرِ صيحاتِ الموضة، ويُساعدهم حرَّاس الأمنِ على إيصالِ الأكياس نحو سياراتِهم المركونة بالجوارِ.

ولا أخفيكم سرًّا أنني- يوميًّا- حين أتبرَّم من انتظارِ ساعةِ الخروجِ من العملِ، أُسَلِّي  نفسي، واعدًا إِيَّاها بزيارة المخبزِ في المساءِ، فأرتدي بِذلتي الجميلةَ- التي تُظْهِرُني فاتنًا- ثم أقصِد المكانَ المعهودَ سعيدًا وفرِحًا، أتصفَّحُ أَوْجُهَ الزُّوارِ وأحاولُ الانْدماجَ معَهُم، ثم أتجولُ بكلِّ حريَّةٍ لرؤيةِ المعروضاتِ وتهجِّي أسمائها والاستغراب من أثمانِها الباهظة.

ولم أكنْ لأَتورعَ عن سؤالِ الفتياتِ المكلَّفات بمساعدةِ الزَّبائنِ حولَ بعض المنتوجاتِ، من دونِ أن تكون لي أيَّة نية للشِّراءِ؛ فقد لُدِغْتُ من الجُحْرِ مرةً واحدةً حين ابتَعْتُ قطعةَ حلوى صغيرة بـ 20 درهمًا، وندمْتُ أشدَّ النَّدَمِ على تبذيرِ ذلك المبلغِ المُهِمِّ على شيءٍ تافهٍ.

ورغم فرنسيتي الرَّكيكة، إلا أنني أحاول دومًا حشْر ما أحفظُه في كل جملةٍ. ولأنني شخص عمليٌّ رُغْمَ كل شيءٍ، كنْتُ قبل خروجي من المحلِّ أقصِدُ إحدى العاملاتِ، طالبًا منها “كوميرة”، دافعًا الثَّمنَ نقدًا، 24 ريالًا، وأخرجُ مفتخِرًا باقتنائي شيئًا من المخبزِ المشهورِ، شاكِرًا في سرِّي الحكومةَ التي تدعَمُ الدَّقيقَ، والتي مكَّنَتْنَا من مجاورة الأغنياءِ ولو لبعض الوقتِ.

اليومَ       ، قصدْتُ المخبزَ كالعادةِ، فلم يفتحْ لي حارسُ الأمْنِ البابَ ولم يستقبلْني بابتسامتِهِ المعهودةِ، كما لم تلتفِتِ العاملاتُ إلى أسئلتي؛ بل فاجأَتْني عاملةُ الشّباك بأنَّ “خبز الباغيت العادي قد نفِدَ ولم يبقَ سوى المنتجاتِ الأُخرى- الغالية!”.

فعُدْت أدراجي خائبًا وقد اكتشفَ أصحابُ المخبزِ سِرِّي، ومن الممكن أن تكون خطوتُهم القادمةُ منعي من الدُّخولِ!

لكن… لدي فكرة أُخرى؛ لقد بحثْتُ ووجدْتُ مخبزًا آخرَ مماثلًا أبعد قليلًا، لكن لا يهمّ؛ سأرتدي بِذْلتي غدًا وأذهبُ لاكتشافِه.

وقد تذكرْتُ الآن معنى اقتباسٍ رائعٍ كنت قرأتُه لكارلوس زافون في (ظلِّ الرّيحِ):”إنّ أفضل طريقةٍ لتفادي تمرُّدِ الفُقراء هي السَّماح لهم بتقليدِ الأغنياءِ”.

المرتبة الثّانيةُ: فيلسوف الأحذية” لـعصام زكي عمار\مصر

كنت أحبُّ أن أمُرَّ على محاله  في “شارع خيرت” لأَتذكرَ أَيام الابتدائيةِ حيث كان والدي يأخذني وإخوتي لتلميع أَحذيتِنا قبل الأَعيادِ أو المُناسباتِ المُهِمَّة أو أيام الجُمَعِ.

الآن، لا يوجد في “السَّيدة زينب” كلِّها غير محلّ “عم توحيد” لتلميعِ الأحذيةِ، حيثُ يعمل فيه أمهَرُ صَنائِعييِّ مِصْرَ القديمةِ وأسرعُهم.

       تدخلُ المحلَّ، فتجده مُشِعًّا بالأضواءِ، وتجدُ الكلَّ منهمكًا في عملِه بسرعةٍ ونشاطٍ:  الزَّبونُ على كرسيِّه الدَّوارِ المرتفعِ، والعاملُ جالسٌ عند قدميهِ. وتكادُ لا تسمعُ إلا خبطاتِ فُرشَتِه الحادة على قاعدةِ الكرسيِّ لتنبيهِ الزَّبونِ لإعطائِه فردة الحذاءِ الثَّانيةَ.

وينتهي الأمرُ بصوتِ جرسِ الدَّراجةِ المعدنيّ لإعلامِ الزَّبونِ بانتهاءِ عمليةِ التَّلميعِ، فيتوجَّه إلى”العم توحيد” بجوارِ البابِ لتسديدِ الحسابِ، فيصعد زَبونٌ آخرُ من المنتظِرين لتُعادَ العمليةُ ذاتُها.

وخطر ببالي مرةً وهو يلمعُ حذائي أن أسألَه بعدَ انتشارِ “الورنيش السَّائل” والصِّبيةِ الجائلين يحملونَ صناديقَهُ، متوقِّعًا أن صنعتَه أصبحَت غير مربحةٍ، والدّليلُ أن زملاء مهنتِهِ لجأوا إلى نشاطٍ آخر: إصلاح الأحذية والشّنط، أو تغيير النَّشاطِ كلّيًّا، أو تأجير الدّكان، وصولًا إلى بيعه:

– لماذا لم تغير مهنتَك كالآخرين يا عم توحيد؟

أجاب وهو منهمك بنشاطٍ في تلميع الحذاءِ:  

– ولماذا أفعل ذلك؟

–  هذه المهنة لم تعد مجزية، ولا مَن يساعدك وأنت تتقدم في السِّنِّ!   

أجاب:

  • نعم لم تعد مجزيةً، لكنه مزاج يا أستاذ “علي”، “ولا مؤاخذة”! مزاج. كيف أترك مهنةً تكشف لي البني آدم على حقيقتِه؟

قالها وهو على الحالِ ذاتِها من الانهماكِ في العملِ، فملأني الصَّمتُ واجتاحَتني الدَّهشةُ!

فاسترسل:

– اسمعْ يا أستاذ علي، أنا أعرف الزَّبونَ بمجرد النَّظر إلى حذائه، “ولا مؤاخذة”!

فسألته

– كيف؟

هنا، توقف عن تلميع الحذاء، ورفع وجهَه نحوي مجيبًا:

– اسمعْ يا أستاذ، الحذاء الأسود صاحبُه إما حريصٌ أو فقيرٌ، يريد حذاءً لكافة الأغراض؛ أو هو وَقورٌ. والبنيُّ صاحبُه أنيقٌ بلا مبالغةٍ، معتدِل الإنفاق. أما الأحذية النَّبيذيَّةُ، فصاحبها يميل إلى اللَّيلِ والسَّهر، وقد يكون صاحب مزاج أو متلافًا. أما الحذاءُ الأبيضُ، فصاحبه شديد النَّزاهِ؛ لأنه حذاء يتغير لونُه بسرعةٍ. أما الاحذيةُ الرِّياضية والقماشيَّةُ، فيرتديها الشَّباب أو من فاتهم الشَّباب ويريدون التَّمسكَ به.

سألتُه بسخريةٍ مستترة:

– أتعرف الزَّبون من اللَّون فقط؟

 اجاب:

  • لا، بل من الحجم أيضًا؛ فمثلًا، صاحب الحذاء الضَّخمِ جسدُهُ صغيرٌ

 ويريدُ من خلالِ حذائِهِ أن يبدو أضخمَ. أما القصيرُ، فحذاؤه ذو كعب عالٍ. والحذاء المسحوبُ- أو الدَّائريُّ- فغالبًا ما يكونُ لرجلٍ ضخم يريد إخفاء ضخامةِ قدميْه.

وسألتُه متهكمًا:

– هذا عن اللَّون والشَّكل؛ ولكنْ هاتِ أخبرني، ألا يوجد فرقٌ في نوعِ الحذاء؟

أجاب:

– لا طبعًا يا أستاذ، “ولا مؤاخذة”؛ فالأَحذيةُ المحليَّة أصحابها موظفون غالبًا، والمستوردةُ لمن يعمل بالقطاعِ الخاصِّ، أما النَّوعية التي لا ترِدُ إليَّ، فيرتديها عليَّةُ القومِ؛ لأنهم ليسوا بحاجة إلى التَّلميع عندي.

سألته:

– هذا عن حذاء الرَّجلِ، فماذا عن حذاء المرأةِ؟

 وعاد للانهماكِ في تلميع حذائي، ثم أجاب: وأجاب

– هذا أسهل، “ولا مؤاخذة”؛ الآنسة الرَّشيقة كعبُ حذائِها دقيقٌ، والقصيرةُ كعبُها مرتفع، أما السَّمينةُ، فبكعبٍ عريضٍ،  والمتزوجةُ وجهُ حذائها أعرض من وجه حذاءِ الآنسة. بل أعرف إِن كانت المرأة حاملًا أم لا؛ فالحاملُ يهبط “الفرشُ” عند الكعبِ عن باقي الحذاء مثلًا. كما من حالةِ الحذاءِ أحددُ مستوى لابسِهِ الاجتماعيَّ وسلوكَه، “ولا مؤاخذة”.

وابتسمَ وقدمَ لي مع ابتسامتِهِ سرًّا:

  • تعرف يا “أستاذ علي”، يوم إجازتي أجلس على المقهى أنظر إلى أحذية المارةِ، فأعرف شخصياتِهم: الحذاء المترب صاحبه- أو صاحبته- مكتئبٌ، ودرجة الاكتئاب تُقاسُ حسب درجةِ التُّراب فوقه.  بل من منظرِ الحذاءِ أعرف إنْ كان الرَّجل- أو المرأةُ- متزوجًا أم أعزب؛  لا بل أعرف المتزوج عنده كم طفل أو حتى عندها. الحكايةُ فن يا أستاذ، “ولا مؤاخذة”! ورغم  ذلكَ، لا أُخفي عنكَ أنَّ توقعاتي تخيبُ أحيانًا.

وانتهي من تلميعِ حذائي، فرن جرس الدَّراجة يدعوني أن أنزل من فوقِ الكرسيِّ- رغم عدم وجودِ زبائن غيري؛ فحاسبته، وخرجْتُ من المحلِّ، من غير أنْ أعيرَ الحديثَ اهتمامًا، بل اعتبرتُهُ مجردَ “قتلِ وقتٍ”.

وأردت أن أجربَ مرة- من باب التَّهكمِ أن أطبّقَ فلسفةَ الأحذيةِ- فبدأت بزملائي في العملِ، وإذ نظرت إلى حذاء صديقي “سامح اللَّيثي”؛ وجدته متربًا بشدةٍ. ولما تجاذبنا الحديث، شكى لي أَنه قد حُوِّلَ إلى التَّحقيق. أما مديرنا “توفيق بك طنطاوي”، فصغيرُ الجسم، قصيرٌ، بينما حذاؤه ضخمٌ وكعبُه مرتفعٌ.  والآنسة مي السّكرتيرة، حذاؤها شديد الرِّقة، كعبه كسنِّ قلم الرّصاصِ، بينما- عندما دققت في حذاء “مدام تهاني”- وجدته متربًا قليلًا، عريضًا بلا كعب؛ لأنها حامل

 وشدتني النَّتائج، فطبقتُها على كل زملائي في العملِ، ولم أستطعِ التَّوقفَ عند هذا الحدِّ، فكررتها مع أسرتي وأقاربي وضيوفي وكل مَن حولي، وأدركْتُ سبب تمسُّك “عم توحيد” بمهنته.

المرتبة الثّالثةُ:الضَّوضاء المبهِجة” لباسم نجيب\مصر

بقيَت ساعتان على موعد السَّفرِ!

وعندما شرعْتُ أجمع أغراضي وحقيبتي، لاحظْت اختفاءها، فصحْتُ من داخل غرفتي:

  • “محدِّش شاف مفاتيحي”؟

وسريعًا ما جاءَ الرَّدُ المنتظَر:

  • “وأنت متفتكرش تدوِّر غير لما تتزنِق”؟

وقبل أن يتوتر الجوُّ، سمعْنا جرسَ البابِ. وعندما فتحْتُ، وجدْت أمامي أخي ومعه زوجتُه وابنُه، ذلك الشَّقيُّ ذو العينين الواسعتين والشَّعر النَّاعم غير المسرَّح والوجه المستدير بابتسامتِه المعهودةِ التي تخبّئُ خلفَها حماسًا كبيرًا لبداية فقرةِ لعبٍ جديدةٍ في بيتِ جدِّهِ.

وبمجرد دخولِه، تحولَتْ أمّي إلى جدّةٍ بمعايير جدّتي نفسِها التي كانت تطبقُها معي في الماضي؛ إذ راحَت تحضُنه وتضمُّه وقد ضاقت عيناها وعلَتْ وجهَها ابتسامةٌ كبيرةٌ، وبدأت تنطِق كلماتِ التِّرحابِ بشكل طفوليٍّ عفويٍّ، كما بدأَتْ بتحضيرِ سلاحِها السِّريِّ الذي تستخدمُه لجذْبِ قلوبِ الأطفالِ، ويتضمنُ العصائرَ الطَّازجة وبعضَ الفاكهةِ الصَّيفيةِ والأكَلات الخفيفة والسَّريعة التَّحضير.

بدأ هذا الشَّقي، والذي لا يكاد طولُهُ يتجاوزُ ارتفاعَ أقربِ طاولةٍ، بلعبته المفضَّلةِ، وهي الرَّكض بين الغرفِ، وإضاءة ما يستطيع إليه سبيلًا من مفاتيح النُّورِ، ناظرًا إلى النّورِ، مشيرًا  في زهو إلى “المببة”، وهي الكلمةُ الأكثرُ وضوحًا من بينِ كلماتِهِ الأخرى التي أعجز عن تفسيرِها؛ فأمُّه وحدها هي القادرة على فك شِيفرة تلك الحروفِ.

وسرعانَ ما امتلأَ البيتُ بالضَّوْضاءِ؛ فقد اختلطَ صوتُ الخلَّاط من صوْبِ المطبخِ مع أصواتِ أم الطِّفل وأمي، وأصواتِ أبي وأخي اللَّذينِ كانا يتجادلان في السِّياسة في الصَّالةِ، إضافةً إلى أصوات كركبةٍ مرتبطة بمكانِ تواجدِ الصَّغيرِ، يلحق بها صوتُ أخي فَزِعًا:

  • يا ولد!

ومن بعيدٍ أتاني صوتُ أغاني الحروفِ والأرقامِ من إحدى قنواتِ الأطفال، هذا الصّوتُ الذي أصبحَ دليلًا على وجودِهِ، اللهمَّ إلا في حالِ بثِّ المباريات والأحداث الكبرى.

واستغلّيتُ هذا الوقت لأُكملَ بحثي عن المفاتيحِ التي تستمدُّ أهميتَها من كونها النّسخةَ الوحيدةَ لغرفتي في المدينة، تلك الغرفة التى لا أظن أن هناك مَن قد يحاولُ فتحَها أو حتى مَن يعلمُ بوجودِها؛ فما هي إلا أربعة حوائطَ باهتة تحوي قطعتي أثاثٍ أو ثلاثَةً، وتسبح في صمت عميق لا يكسرُه غير صوت المنبِّه فجرًا.

ومن المطبخِ، أشتمُّ رائحةَ المخبوزاتِ المنزلية الشَّهية، والتي تعبّر عن اهتمامٍ خاصٍّ، لكنَّها لم تجهز بعد!

وأبحث عن الصَّغيرِ، فأجده يلعبُ لعبتَهُ المحبَّبَةَ المتمثلةَ في استكشافِ كلِّ ما على أيةِ منضدةٍ؛ وذلك بمسْكِه الشَّيء قليلًا ثم تركه يلاقي مصيرَه نزولًا إلى الأرض؛ فمنها ما ينجو كقلمٍ أو كتابٍ، ومنها ما يتضرّر بدرجاتٍ، مثل الهواتفِ المحمولةِ، ومنها ما يشكِّلُ خطورةً تقاربُ خطورةَ انفجارِ هيروشيما كالأكواب الزُّجاجيةِ مثلًا.

وهنا، وفي تطورٍ غير مألوف للعبتِهِ، ركض نحو الشّباكِ ممسكًا مفاتيحي التي لا أعرف كيف وصلت إليه قبل أن أجدَها أنا أو أي واحدٍ من أفرادِ البيت، وكانَ ينوي رميَها؛ فتدخَّلَ والدُه تدخُّلَ أبٍ صالح يحاول تنشئةَ ابنه، وبدأ برفع صوتِه واقفًا قبالتَه ليمنعَه، لكنَّ قواتٍ خاصَّةً تمثّلَتْ في “جدو” بحاجبيْهِ السّميكينِ وشاربِهِ الكبيرِ حضرَتْ على الفورِ، فشخصَ مهدِّدًا أخي، ومبعِدًا إيَّاه عن “حبيب جدو”، ودعَمَتْه “تيته”، محتضنةً الولد كأنها تنقذه من نيران حريقِ القاهرةِ، مقدِّمةً- من خلال حَضنِها إياهُ- شُحنة حبٍّ تكفيه أيامًا، ما جعلَ أخي يعجز، كأيِّ أبٍ في وضعِهِ، عن التَّدخل.

وبعد انتزاع مفاتيحي بسلامٍ، تحركْتُ مودِّعًا محتضِنًا الجميعَ، على أمل أن أعود قريبًا إلى هذه الضَّوضاءِ المبهجَةِ.

السِّيرة الذَّاتيَّة

*د. (إيمان بقاعي).

*أستاذة الأدب العربيّ وأدَب الأطفال والشَّباب في الجامعة اللُّبنانيّة الدّولية، وأستاذة الكتابة الأكاديميَّة.

*الجنسية: اللُّبنانيّة.

*عضو اتّحاد الكتاب اللُّبنانيّ، وعضو نقابة الفنانين اللُّبنانيّين- كتَّاب الدّراما.

مؤلفاتها:

أولًا-  كتب لغوية:

1 – معجم  الحروف (دار المدار الإِسْلاميّ، 2003).

2 – معجم الأسماء (دار المدار الإِسْلاميّ، 2003).

3 – معجم الأفعال (دار المدار الإِسْلاميّ، 2003).

ثانيًا-  كتب أدبية:

1- (نقد)  نازك الملائكة والتَّغيرات الزَّمنية (بيروت: دار الكتب العلمية، 1995)/ سعيد عقل: الإبحار إلى فينيقيا (بيروت: دار الكتب العلمية، 1995)/ محمد الفيتوري: الضَّائع الذي وجد نفسه(بيروت: دار الكتب العلمية، 1994)/ معروف الرّصافي : نارٌ أم كلِم (بيروت: دار الكتب العلمية، 1994)/ سليمان العيسى: منشد العروبة والأطفال، إلياس أبو شبكة والفردوس المشتهى (بيروت: دار الكتب العلمية، 1995)/ نزار قباني- شاعر فوق الماء (بيروت: دار الفكر اللُّبنانيّ).

2- (تحقيق): كتاب الحيوان للجاحظ (بيروت: أكاديميا)/ ديوان أبي تمام (بيروت: مؤسسة النُّور للمطبوعات، ورقي: 2000)/ ديوان الإمام الشَّافعي (بيروت: مؤسسة النُّور للمطبوعات، ورقي: 2000)/ ديوان البحتري (بيروت: مؤسسة النُّور للمطبوعات، ورقي: 2001)/ديوان الأخطل (بيروت: مؤسسة النُّور للمطبوعات، ورقي: 2001).

3- قصص الأطفال (ماهيتها، اختيارها، كيف نرويها): (بيروت: دار الفكر اللُّبنانيّ، ورقي: 2003).

4- فن قصة الأطفال: (بيروت: دار الهادي للطِّباعة والنَّشر والتَّوزيع، ورقي: 2004).

5- المُتْقَن في الإنشاء وتحليل النُّصوص وتصميم الموضوعات (بيروت: دار الرَّاتب الجامعية، ورقي: 2006).

6- المُتْقَن في الأدب العربيّ المعاصر (بيروت: دار الرَّاتب الجامعية، ورقي: 2007).

7– المُتْقَن في أدب الأطفال والشّباب لطلاب التَّربية ودور المعلمين (بيروت: دار الرَّاتب الجامعية، ورقي، 2011).

8- الوطن في أدب الشَّراكسة\الأديغه (العربي والمعرَّب): ورقي: (دمشق: المنتدى الثّقافي الشّركسي، 1997)، (إلكتروني). إلكتروني (نيل وفرات، 2014).

9- قصة الأطفال والنَّاشئة في لبنان (جدليّة الشَّكل والمَضمون): كتاب أكاديمي، (إلكتروني).

10الشَّريف جبارة الصّفار: نبض الشّعر النّبطي (بيروت: النّخبة للتَّأليف والتَّرجمة والنَّشر، ورقي، 2011)، وإلكتروني (نيل وفرات، 2011).

ثالثًا- روايات وقصص:

1- عزَّة: (بيروت: دار الكتاب اللُّبنانيّ، ورقي، ط1: 1980، ط2: 1996).

2- الأرملة: (بيروت: المركز العربي للثَّقافة والعلوم، ورقي، ط2: 1996).

3- أجيئكِ حيث تكونين (قصص قصيرة) (إلكتروني: 2008).

4- رواية الأثير (2020) (إلكتروني).

رابعًا- قصص للأطفال والنَّاشئة:

1- حواسُنا (5 قصص): (بيروت: الدَّار النَّموذجية، ورقي، 1999).

2- قانا (قصة للنَّاشئة): (دمشق: دار علاء الدّين، ورقي: 1999).

3- سلسلة مذكرات الآنسة أديبة: (دمشق: القمر الصَّغير، ورقي: 2004).

4- سلسلة البيئة للأطفال: (بيروت: دار الرَّاتب الجامعية، ورقي: 2007).

5- خشبونا (قصة للنَّاشة: 12-15 سنة)، رسوم: أحمد حاج أحمد، (إلكتروني).

6-مغامرات عطلة الرَّبيع (قصة للنَّاشئة)، (دار الهدهد: دبي، الإمارات العربية المتحدة).

7-آديوخ (قصة للنَّاشة: 12-15 سنة)، رسوم: أحمد حاج أحمد، (إلكتروني).

8- فيللا الأستاذ ظريف (قصة للنَّاشة: 12-15 سنة) (إلكتروني).

9- ليا تساعد عمو المسحر، رسوم: ضحى الخطيب،[5-8 سنوات]، (إلكتروني).

10-كلب الحراسة، تصميم: غريد جحا، [5-8 سنوات]، (إلكتروني).

11- حكاية جديدة عن النّملة والصّرصور، تصميم: غريد جحا، [8-12سنة]، (إلكتروني).

12- سبعة أيام في ضيافة الجدة، تصميم: غريد جحا،[2-5سنوات]، سبع قصص، (إلكتروني). 

ه- كتب أطفال ثقافية وتربوية:

1- اصنعْ بنفسك: (دمشق: دار علاء الدِّين، ورقي: 1999).

2- تعالوا نلعب: مجموعة ألعاب لتنمية وتطوير أخلاق الطِّفل وذكائه: (دمشق: دار علاء الدّين، ورقي: 2010).

3- سلسلة أدب وسلوك الأطفال والشّباب: (بيروت، دار الرَّاتب الجامعية، ورقي: 2007).

4- فن كتابة قصة الأطفال: كتاب أكاديمي في أدب الطّفل: (دار الهدهد، دبي، الإمارات العربية المتحدة)، ورقي.

و_ مجلات ودوريات:

أ- مجلة أحمد اللُّبنانيّة للأطفال (شخصية شكوى شهريًّا) (2000 _ 2014).

ب- مجلة العربي الصَّغير: الأعداد: 133\135\136\139\140\141\142\143.

ت- كتاب العربي الصَّغير: عدد: 159، 2005.

ث- كتاب العربي الصَّغير: عدد: 171، 2006.

ج- العربي: عدد: 576، 2006.

_ مجلة أحمد اللّبنانية للأطفال (شخصية شكوى شهريًّا) (2000 _ 2014).

_ مجلة العربي الصَّغير : الأعداد: 133\135\136\139\140\141\142\143.

_ كتاب العربي الصّغير: عدد: 159، 2005.

_ كتاب العربي الصّغير: عدد: 171، 2006.

_ العربي: ع: 576، 2006.

_ صحيفة أضواء الوطن الالكترونية:

http://www.adwaalwatan.com/articles.php?action=show&id=20

_ مدونة حي بن يقظان\مدونة أحمد طوسون\الحياة للأطفال\شبكة الألوكة (إلكتروني)\شبكة روايتي الثقافية……

www.circassiannews.com

– صورة الطّفل اللّبناني في قصة الأطفال والنّاشئة الوطنية: محاضرة القيت في تونس(الملتقى العربي لأدب الطّفل: 2019).

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات