قبل أن أحكي قصة (جَطَلَايْ)!

03:38 مساءً الأربعاء 12 مايو 2021
د. إيمان بقاعي

د. إيمان بقاعي

روائية لبنانية، أستاذة جامعية متخصصة في الأدب العربي وأدب الأطفال والناشئة، وعضو اتحاد الكتاب اللبنانيين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

أرختُ- عن غير قصد- محنةَ ماما عندما كتبتُ هذه القصة، فعلى أساس أنني كنت أرقب ما يجري على مصطبتها من أحاديث نسائية “مدهشة”، لكنني اكتشفت أنني وضعتُ إصبعي على (محنة) أمي (ستناي: في هذه القصة)، وأنا أصر أنها “محنة”، وأصر أن أمي تعاملت معها بطريقة تدهشني كلما قرأت تفاصيلها في قصتي (جَطَلاي)! [إيمان بقاعي]

 

(جَطَلايْ!!!)

12\5\2021

اجتمعت نساء حيّ “كعب الضَّيعة” على مصطبة (سَتَنايْ) الَّتي تمتد على طول جدار غرفتها الخارجي، والّذي يبلغ حوالى ثلاثة أمتار ونصف المتر، والَّتي تتسع لأكثر من ستِّ نساءٍ أو سبع من الأرامل العجائز اللَّواتي يتقِنَّ قراءة الطَّقس، فيلاحقن الشَّمس شتاء والظّل صيفًا، عاقدات اجتماعاتٍ يومية متعددة يناقشن فيها أمورهن الخاصة وأمور أهل الحي والضَّيعة، بل والعالم. وربما طُرح موضوع استمر نقاشه أيامًا، وتبودلت فيه وجهات النَّظر من مختلف زواياها، وحسب المناقِشات اللَّواتي ينتمين إلى جنسيات مختلفة وأديان متنوعة، واللَّواتي جمعتهن “الضَّيعة” في زيجات ربما كنَّ فيها موفَّقات ناجحات وربما لم يكنَّ!

على كل، مَن يعرف والرّجال- كما معظم الرّجال-  غادروا الحياة تاركين أراملهم ينضممن إلى المجموعة الَّتي يكبر عددها؟

وليس اتِّساع مصطبة (سَتَنايْ) هو السَّبب الوحيد الّذي يجعلها مكانًا مهمًّا للاجتماع، بل موقعها الاستراتيجيّ؛ إذ تقع على زاوية الشَّارع بحيث يمكِن للنِّساء أن يلتقطن كلَّ واصل إلى الحي أو مارٍّ منه أو مغادر إِيَّاه فيتحدثن إليه أو عنه، ما يثري جعبة أخبارهن التي تستَخدَم فورًا، أو توثَّق إلى أوقات تُفتَح فيها ملفات كانت قد وُضِعَت على الرّف زمنًا. والسّبب الثّاني هو النّظافة؛ إذ يُعرَف في الضّيعة أن (سَتَنايْ) تمتلك أنظف رقعة من الشَّارع الذي يقع عليه بيتها لتعهّدها إياه بالكَنْس والرّش صباح مساء وخاصة في فصلي الصّيف والرّبيع حتى طرحت الأرامل جدّيًّا اسمها كرئيسة بلدية بدل المجنون ذي الشّكل الأسطواني كالبرميل الذي يترأسها الآن، ولكنهنّ فوجئن بأن الأمر، رغم قيامهن- وطبعًا لم تكن (سَتَنايْ) معهن- لأكثر من مرة بمظاهرات جبْنَ فيها شوارع الضَّيعة حاملات يافطات بخط كبير وواضح وملون، لا يمكن أن ينجح، نظرًا إلى تجاوزها السّنّ المناسب لشغل وظيفة في الدّولة.

أما السّبب الثّالث؛ فتلك النّباتات الكثيفة المتنوعة التي زرعتها عند حدود بيتها بعد شبّاكَيه المطلّين على الشّارع، في محاولة اعتبرها البعض “شريرة”، والبعض الآخر “دبلوماسية” للتّخلص من رؤية فوضى جيرانها الملاصقين الذين لا يمتّون بصلة إلى شروط النّظافة والتّرتيب، فأنشأت هذا الحاجز الأخضر والملون المنعش الذي احتضن المساحة وزائراتها على مدى سنوات وما زال، ونشر عبق روائح النّعنع الأخضر والمليسة والزّنبق بسخاء.

ولا غرابةَ في وجود هذه البقعة الخضراء المتألقة، فبيت السّيدة- على صغر مساحته، ويشمُل غرفتين من اللِّبن[1] ومدخلًا مبلطًا ببلاط قديم زال لونُه ومطبخًا لا تتجاوز مساحته مترين مربعين،  بالإضافة إلى مترين إسمنتيين مربعين بلا سقف أسمَتْهما “حديقة”، إذ صفَّت  قرب جدرانها أصصًا زرعت فيها أنواعًا من النّباتات المعرشة التي غطت الجدران حتى السّقف، فأخفت بذلك مناظر الدّهان المقشور الذي كانت تكرهه، ووزعت أضواء خضراء صغيرة  بين سوق النّباتات، تنيرها ليلًا فتبدو “الحديقة” أشبه بحدائق الملوك، على حد قولها، وكانت تعني ما تقول.  

وعلى قِدَم البيت، تعبَق رائحة النّظافة من كل ركن فيه، من ستائره البيضاء النّاصعة التي تغطي كل الشّبابيك بما فيها شباك المطبخ، إلى أغطية الأرائك والكراسي التي طرزتها بنفسها قبيل زواجها، وكانت قد نالت شهادة في الخياطة تخولها افتتاح معهد خياطة يمكن من خلاله إعطاء شهادات للمتدربات، ولكنها لم تفعل، بل نسيت أصول الخياطةِ في غمرة قلقها الدّائم على استقرار حياتها الزّوجية، إلا ما اقتصر منها على تركيب زِرّ، أو تقصير بنطال، أو صنع عروة لمنشفة تعلق على مسمار ما دُقَّ في مكان ما.   

في ذلك المساء الصّيفيّ الحار، وبعد أن أعلَن رَشُّ الماء من قبل السّيدة الأبخازية الحسناء على المصطبة وعلى مساحة ما يقرب من ثلاثة أمتار مربعة حولها أن الاجتماع يمكن أن ينعقد بدءًا من الآن، قطعت (أم طانيوس) وهي تشد “قمْطَتها” المعرَّقة الصَّغيرة مغطية مقدمة شعرها الطَّويل الكثيف الفضيّ النَّاعم المجدول المغطّي سلسلة ظهرها، الطّريق من منزلها المقابل للمصطبة وهي تتأمل من على بُعْدٍ (السَّتالايت) الّذي زيَّن قبل أسبوع فقط سطح بيتها الطِّينيّ ذي المساحة الواسعة، ثم ما لبثت  أن جلسَتْ مفتتحة الاجتماع اللّيلي، رادَّة على تهنئة مَن وصلَ مِن النّساء بلهجتها الزّحلاوية الَّتي لم تتغير رغم زواجها بسوري منذ أكثر من خمسين سنة:

–  “والله أنا ما كان بدّي نركّبو، يحرق بيُّو”!

وشدت صليبها الذَّهبي الكبير مخلِّصة إِيَّاه من شعرات طويلة بيضاء علقت به. فعلقت (سَتَنايْ) بهزة رأس ثنائية أتبعتها بجملة قصيرة استبدلت فيها المذكر بالمؤنث: “أنا لا أحبها هذه السّتلايت”، بلُكنة أبخازية على غرار لُكْنَة قومها الأبخاز الذين سكنوا “الجولان” بعد تهجيرهم من بلادهم إثر الحرب الرّوسية- القوقازية (1817-1864م)، فوصلوا إلى الإمبراطورية العثمانية، وبعضهم، ومنهم أهلها، إلى بلاد الشّام واستقروا في الجولان، قبل أن يهجّروا من جديد، والذين كان الحفاظ على اللّغة الأم- كما يعتقدون- السّلاح الأمضى للحفاظ على نقائهم القوميّ استعدادًا للعودة الميمونة إلى الدّيار في أية لحظة، بالإضافة طبعًا إلى التّشديد على عدم الزّواج بأي “غريب”، حتى لو كان من أبناء البلاد المضيفة. وكان “حظّها السّيء” كما تؤكد أختاها اللَّتان تكبرانها بحوالي عشرين سنة- ولم تكن تؤمن بالحظّ مثلهما- هو الذي رمى بها إلى هذه القرية، فاخترقت قانون الزّواج بغريب تمامًا  كما اخترقت قانون اللّغة- الأم منذ حوالي ثلاثين سنةً لم تكن حياتُها فيها مع الشّخص الذي اختارته سمْنًا على عسل؛ فقد اكتشفت البُعد الشّاسع في التّفكير والعادات والتّقاليد تمامًا كما اكتشف هو كل هذا أيضًا، فما كان منه إلا أن أعلن انسحابه المسالم “إلى آخر الدّنيا”- كما تصف بلاد الخليج- ليدرّس في إحدى جامعاتها، مُشيدًا أمام معارفِه هناك بأخلاقِها وتربيتها المثالية لأولادِها من غير أن يتطرق من قريب أو بعيد إلى فشل مشروع الزّواج، وكانت إشادته هذه تكفيها، إذ تعتبر- كما بنات قومها- أن نجاح المرأة بعد الزّواج يُختَصَر في كونها أمًّا مثالية ومربية فاضلة، تخشى الله، وتطبخ الحلوى، وتصنع مربى المشمش واللّقطين والمخلل وتطعم أفراد عائلتها بأقل كلفة ممكنة خاصة وأن ما يُرسَل لها غير محدد وغير ثابت، بل قد ينقطع شهورًا تأكل العائلة فيها- من غير أي تعليق سلبي من قبلها- الزّيت والزّعتر صباح مساء، والبيض المقلي والفتّوش ظهرًا؛ ما يعني أنها- حسب رأيها- لم تكن فاشلة، حتى لو كررت شقيقتاها على مسمعها مصطلح الحظّ المرفَق دائمًا بصفة “السّيء” في كل مرة تزورانها فيه.

ولمعت عيناها الواسعتان الخضراوان، وتشرَّبت وجنتاها باللّون الزّهري الغامق وعلَّقت:

– عندما تكثر المحطات، يضيع المشاهِد ولا يتابع أي مسلسل؛ لذا أفضِّل أن يكون لدي محطة “واحد”.

وتدخلت قريبتها (أم نارت)، وهي أرملة شركسية جولانية تجاوزت الثَّمانين، وتمتاز بذكاء فطري شديد وبانتباه مدهِش وبثقافة ذاتية لافتة وبحركة لا تهدأ:

– إذا كانت المحطة جيدة وتنقل أخبارًا “طازجة”، فأنا لا أمانع أن يكون عندي واحدة فقط، ولكنَّني أفضل أن يكون هناك الكثير من المحطات لأختار الَّتي تناسبني.

وحسَّنت حجابها الأخضر الّذي ينعكس لونه على لون عينيها العسليتين الصَّغيرتين، وقالت بحماس:

– يعني: يوجد محطات- ما شاء الله ما شاء الله- تنقل الأخبار كل لحظة بلحظتها بحيث أحس أنني في أرض المعركة في الشّيشان وأنني أراقب ما يحدث بالتّفاصيل. البارحة رأيت ختيارًا شيشانيًا أكبر مني يقف وعلى رأسه القلبق يتشاجر وجنودَ الرّوس الّذين وقفوا يدققون في الهويات، مانعين شباب الشّيشان من العاشرة حتى السّتين من المرور. تصورنَ: من العاشرة حتى السّتين!

الأراملُ الجالسات شبه الأُمّيّات، واللّواتي لم يسمع معظمهن باسم الشِّيشان حتى يسمعْن أخبار الحرب فيها، لم يفهمن تمامًا ما قالت (أم نارت)، ولم يكنْ ما تقوله يعنيهن من قريب أو بعيد، بل لطالما تمنين- في اجتماعات جانبية لا تكون (سَتَنايْ) موجودة فيها- لو أن (أم نارت) تتغيب أيامًا، فأحاديثها كلها تدور حول الحرب في “تلك المنطقة”، وكنَّ لا يُجِدْنَ حتى لفظها، بينما لديهن أمور أهم بحاجة إلى مناقشة و”حلول”. وكانت (سَتَنايْ) وحدها التي تتنهد ببؤس وقت تسمع حديث ابنة قومها، وتتوق- إن غابت الأخيرةُ يومًا أو أكثر- إلى سماع تطورات الحرب، فتسألها عنها بلهفة، وتسمع تحليلاتها واثقة أنها تحليلات سليمة إلى درجة تسألها بعد سماعها عن توقعاتها في المستقبلَين القريب والبعيد، والأخيرةُ لا تبخلُ عليها.

ولكن (أم نارت) اعتذرت هذه الأمسية عن إكمال السّهرة لأن ابنها وكنَّتها سيزورانها بعد قليل، ففرحت السّيدات، وودَّعنها غير قادرات على إخفاء ابتسامات خبيثة مليئة بالمتعة.

وما إن غادرت، حتى أوقفت (خشفة) ذات الوجه المستدير الأبيض والعينين المستديرتين والفم الرّقيق الصَّغير والَّتي تجاوزت السّبعين ومازالت مليئة بالنّشاط، أكل البزر الأبيض الّذي تحشو بها جيب ثوبها الطَّويل وقالت بحماس وهي تجول بنظرها على ثلاثة “ستالايتات” على ثلاثة أسطح، من غير أن يكون “ستالايت” (أم طانيوس) منها:

-وحياة العدرا ويسوع، إن بقي بعمري يوم واحد، بل ساعة واحدة، يجب أن أركِّب واحدًا. “يا شحارنا”، أنظلُّ على محطة واحدة والنَّاس تلعب بالمحطَّات لعبًا؟ ناقص نرجع للتّلفزيون الأبيض والأسود!

وإذ اعتبرت (أم طانيوس) أنها عنتها بالذّات بقولها إنها “تلعب بالمحطات لعبًا”، كون حديث السّهرة  يتمحور أصلًا حول تهنئتها، هزت كتفيها غير عابئة، معتبرة كلامها نوعًا من الغيرة التي توجب الشّعور بالفخْر لا القهْر، فاتّسعت ابتسامتها أكثر من الجميع وهي تتناول البزر من كف (خشفة) الدّائرة على السّيدات تغرف من جيبها وتوزع ما يمكن تسميته بتقنيات بدايات تسلية السّهرات، والتي سيضاف إليها ما تحضره السَّيدات مما لذ وطاب معهن من تين وجوز ولوز ومعجنات وغيرها بالإضافة إلى تكليف إحدى الصّبايا ممن يتواجد قريبًا من المصطبة بصنع الشّاي والقهوة وتوزيعها على الحاضرات. وهنا يُستخدَم مطبخ (سَتَنايْ) الذي تتكفل الصّبايا بتنظيفه بعد انتهاء السّهرة فيعود أنظف مما كان قبلها وأرتب.  

وأكملت (خشفة) بصوت فيه الكثير من الخطابة والنّصح وعيناها الصَّغيرتان تدوران على الوجوه المصغية:

–  أختي (أم جوزف)  تسلَّت به كثيرًا بعد أن تزوج أولادها وبقيت هي و”الختيار” الّذي ينام قبل الدّجاج. على كل حال، لا تحسبْنَ يا ستّات أن الـ (دُوش) يكون أحسن كلما كبر، فأختي (أم جوزف)  قالت إن (الدُّوش) ليس هو المهم، المهم الإبرة، لأن مهمَّة (الدُّوش)…

وتوقفت عن الكلام، وشرحت لبعض الحاضرات اللَّواتي لم يفهمن كلمة (دُوش):

  • الدُّوش يعني: الصَّحْن.

ولما هزت بعض النّساء رؤوسهنّ وقد فهمن للتّو معنى الكلمة؛ تابعت:

  • (الدُّوش) مهمته فقط أن يجمع الأشرطة؛ فهو فقط مثل اسمه: صحن لا راح ولا جاء، ألا تريْنَه يشبه الصَّحْن؟

(أم خليل) الَّتي لم تتجاوز الخمسين، والَّتي ترملت قبل ستة أشهر فقط، جمعت أطراف جلَّابيتها المخملية البنفسجية ووضعتها بين فخذيْها السّمينتين القصيرتين، وجلسَت بعد أن كانت واقفة، وكان جلوسها يدل على أهمية الحديث الدّائر فأعلنت بقهر، وقد كمد لون بشرتها البنيّ، فبدا وكأنَّه امتزج باللّون الكحلي:

-الله يطبّق على قلب الّذي اخترع الـ (دِيش).

ونظرت إلى (خشفة) بتعالٍ:

– (ديش) يا ست (خشفة)، يعني: صحن بالإنّكليزي.

(خشفة) ادّعَت أن تصحيح جارتها لا يهمها، وإن دلَّ تضرُّجُ وجهها على أن الموضوع أساء إليها في الصّميم؛ فقالت:

  • دوش، ديش، لا يهم!

ولكنَّها استدركت:

  • صحيح، أنت معك “بكاروليا”!

ورفعت (أم خليل) صدرها وأنفها عاليًا وقد ذكّرتها جارةُ أهلها بمؤهلاتها العلمية، وكانت أحيانًا- رغم كونها امرأة استعراضية إلى درجة يتمنى فيها المصغي إليها أن يرميها بما في يده فيعطبها- تنسى قضية “البكالوريا” كونه مر على نيلها إيّاها اثنتان وثلاثون سنة مليئة بالأحداث: من زواج وإنجاب وتربية ستة أولاد وتخريجهم وتزويجهم، ثم حادثة ترملها، وهي الحادثة التي قصمت ظهر استعراضها نصف سنة  عادت (خشفة) لتوّها فعالجتْه بكلمة “بكاروليا” اللّعينة، فإذا بـ (أم خليل) تنظر إلى الجميع من فوقُ حتى لكأنها تذكّرت أنه من غير اللّائق أن تمر من هذا المكان، فكيف بها وقد جلست وكأنها فرد من أفراده؟ بيد أن تدخّل الأرملة المعتّقة (أم زكريا)، والَّتي تستطيع- رغم ثقل سمعها- أن تلتقط طرف أي حديث فتدلي بدلوها، أجبر (أم خليل) على البقاء والإصغاء:

– يقصف عمر (الصَّطَلان) ويللي اخترع (الصَّطَلان)، فابني يظل طوال اللَّيل جالسًا أمامه كالمصطول! مِنْ شي قليل سموه (الصَّطَلان)؟ لأنَّه يصطل النَّاس.

 وعادَ الحديث إلى (أم طانيوس):

  • والله يا جماعة له حسنات؛ لأنَّه يرينا الكثير من المسلسلات والأفلام العربية، ومثل ما قالت (أم نارت)- الله يسهّل عليها- ينقل إلينا الأخبار الطّازجة، وإن كانت لا تهمنا كثيرًا نحن النّساء، ولكن، له مساوئ.

وانفعلت (أم خليل):

-كلُّه مساوئ؛ فابني عمره خمسة عشر عامًا، وبدل أن ينام ويرتاح ليلًا ليستيقظ صباحًا نشطًا ويذهب إلى مدرسته، يظل طول اللّيل حاملًا (تلفون الدِّيش) يكبّس بالـ (سَطَلاي)، وأحيانًا أستيقظ عند صلاة الفجر فأراه يبحلق.

واستنكرت (خشفة):

– يبحلق؟ انتبهي يا جارتنا، يقولون فيه أفلام “ما بتسوا”!

وتنهدت (أم خليل):

– أنا الإبرة عندي عربية.

قالت (خشفة):

– عربية وغير عربية… الله يجيرنا.

هنا قرَّبت (أم طانيوس) رأسها من رؤوس النّساء وهمست كمن يفشي أعظم الأسرار:

-فعلًا صحيح، يوجد أفلام “ما بتسوا” على قولة جارتنا (خشفة)؛ لذا أظل صاحية مثل القردة طوال اللّيل حتى أراقب البنات الله يستر عليهن. قولوا (طانيوس) مجوَّز ولا يهمه هكذا مناظر، أما البنات، والله يا جماعة، من يوم ما دخل دارنا، كأن عدوًا دخلها، حتى سهراتي هنا ما عدت أهنأ بها، فعندي مراقبة.

وحسمت (سَتَنايْ) الموقف:

– والله، الّذي  يريد أن يربي أولاده بشكل جيد، عليه أن يراقب ماذا يحضرون وماذا يقرأون ومَن يعاشرون.

وتنهدت السّيدات كلهن موافقاتٍ، وشكرت الكثيرات منهن الله أن زمن التَّربية والمراقبة عندهن قد انتهى بتسليم أولادهن إلى بيوت الزّوجية؛ بينما بدا الهمُّ في عيون اللَّواتي مازال في البيت عندهن أولاد وبنات.

وعندما انتصف اللَّيل في ذلك اليوم الصّيفي الحار، وهبَّت نسمة عليلة من جبل الشَّيخ الّذي يسند ظهر الضّيعة، نهضن إلى بيوتهن حاملات كل واحدة طراحتها الصَّغيرة الَّتي تجلبها معها لتضعها تحتها على المصطبة، بينما اتَّكأت الأرملة العجوز الضَّيفة (هَنَاءَتْ) على ذراع شقيقتها (سَتَنايْ) بغية الدّخول للنّوم، وكانت الأخيرة قد نسيت وجودها لكونها لم تفه بحرف طوال السّهرة؛ لكنَّ (هنَاءَتْ) تسمّرت في مكانها وقد انتبهت لأول مرة إلى التماعِ الصّحون تحت ضوء القمر، وذلك بعد الإصغاء المليء بالدّهشة والذي جعلها تقرر تمديد إقامتها أيامًا، بل وجعلها تفكر جدّيًّا ببيع بيتها في دمشق وشراء بيت قريب من مصطبة أختها العامرة. ويبدو أنَّها- بعد هذه السّهرة التي أمدّتها بكَمٍّ  هائل من معلومات فاقت في أهميتها ووفرتها معلومات إذاعة لندن التي لطالما اعتقدت مخطئة أنها مصدر الثّقافة الوحيد- استنكرت الظّاهرةَ “موضوع ندوة مصطبة (سَتَنايْ)”، من وجهة نظر مدينية، وربما من وجهة نظر ابنة الحمو تجاه ما يمتُّ إلى صهرها ودياره بِصِلة، فأرخت بثقلها على ذراع أختها التي تصغرها بعشرين عامًا حتى كادت الأخيرة تتأوه:

– – شوفي شوفي، معظم أسطُحِ بيوتِ “اللَّبُّون” فوقها “جَطَلايْ”!

بقلم: د. إيمان بقاعي

12\5\2021



[1] – اللَّبِنُ: المضروبُ من الطِّين يُبنى به دون أَن يُطبَخ الواحدةُ: لَبِنَةٌ.  

One Response to قبل أن أحكي قصة (جَطَلَايْ)!

  1. eman رد

    12 مايو, 2021 at 7:57 م

    شكرًا جزيلًا.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات