الشاعر العراقي عبد الكريم كاصد يستمع إلى قصيدته مثل أي قاريء: “لا أريد أن أعرّف الشّعر … أريده أن يُعرّفني”

09:28 صباحًا السبت 29 مايو 2021
اسماعيل فقيه

اسماعيل فقيه

شاعر وكاتب وصحافي من لبنان

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

يكتب الشاعر العراقي عبد الكريم كاصد قصيدته ويمضي الى ذاته. كأنه يريد الوصول الى أيامه العابرة والقادمة. وكلما أوغل في البحث، وجد نفسه في “دوامة مصادفات”،فيكرر المحاولة، وتبقى قصيدته هي المدخل والمخرج ،والمسافة المفتوحة.فهل وصل الى حيث يريد، وهل ساعدته قصيدته على اكتشاف ما يريد،والعيش كيفما يريد؟ الجواب ــ الأجوبة في كلام وبوح الشاعر :

ـــــــــــ من هو عبد الكريم كاصد، عرفنا على نفسك ، من أنت ،من أين تأتي الى الحياة، أين تمكث وتعيش ، هل وصلت الى مكان ؟

رسالة بيروت – إسماعيل فقيه

ــ كتبتُ مرةً

لا أريدُ أنْ أعرّفَ الشعر
أريدهُ أنْ يعرّفني

غير أن الشعر الذي اتخذته تعريفاً لي هو ذاته ليس سوى متاهة أخرى، ليس للقارئ وحده، وإنما للشاعر أيضاً، فهو بقدر ما يكشف أشياء يطمس أشياء أخرى، لأنه ليس صورة الشاعر بأناه حسب، وإنما بأعماقه السحيقة، ولاشعوره الجمعيّ أيضاً. وقد تبدو طلاسم الشعر إضاءات وإضاءاته طلاسم، ما دام هناك قراءات شتى ليس قراءة الشاعر إلا واحدة منها.
من أنا؟ قد أكون مجموعة من المصادفات التي لا يمكن حصرها.. مصادفات تبدو وكأنها الضرورة ذاتها التي تحتوي كلّ هذا الجمع الذي أنا فيه ليس سوى مفرد بلفظةٍ واحدةٍ هي: عراقيّ.
تسأل عن وصولي وكأني أنا الذي أحدد الجهات وأين أمكث أو أعيش. ولو سألتني منْ يحدّدُ ذلك لاتّسعَ جوابي ربما وضاقت به عبارتي، ولبدا ما هو جواب خاص جواباً عامّاً يشمل البشر جميعاً، في عالم رائع أحالوه إلى جحيم؟ ستسأل:من؟ وسأجيبك:هم. ولعلك ستسألني ثانية: ومادورك أنت ؟ إذن ثمة أدوار ومسرح عريض وليس أنا وأنت إلا ممثلين صغاراً في هذا المسرح الكبير الذي انفتحت ستارته ولن تهبط أبداً.

ــــــــــــــــ لماذا الشعر في حياتك يا شاعر، كيف اكتشفت أنك شاعر، متى وكيف، وهل أنت راض على نفسك الشاعرة؟

ـــ منذ صغري وأنا أكتب الشعر حتى إنني لم أعد أتذكر المرحلة التي لم أكن فيها شاعراً. وحين تكون شاعراً منذ زمن سحيق يمتدّ إلى طفولة غابرة، لم يعد السؤال مجدياً أو إجابته مجدية في رضاك، أو عدم رضاك عن نفسك الشاعرة المبتلاة هي بك أنت.

ــــــــــــــ لماذا تبدو في قصيدتك مثل طائر لا يستقر في مكان، كأنك تحوم حول الزمان والمكان؟

ـــ هكذا إذن تراني أيها العزيز إسماعيل. جميل أن أبدو مثل ذلك لاسيما أن شعري يكاد يكون مغروساً في الزمان والمكان وهذه من مفارقات الشعر التي تحدثت عنها في إجابتي الأولى. وفي الحقيقة حين يمتدّ المكان فيصبح أمكنة والزمان أزمنة فإنّ الإنسان، والمنفيّ خاصة، يبدو وكأنه خارجهما، أو يحوم كالطائر حولهما وإن كان حوم الطائر المنفيّ أشدّ عرضة للهلاك وسط كلّ هذه البنادق.

ــــــــــــــ هل أنت شاعر حزين، أو العكس، أو ماذا…؟

ـــ منذ هرقليطس وقبله أيضاً والعالم نهر يجري وأنت لا تهبطه مرتين لأن ثمة مياهاً جديدة دوماً. فإذا كان العالم في مثل هذا الحراك الدائب، فما بالك بعواطف الإنسان وعواطف الشاعر بشكل خاص. أثمة حزن خالص وإن كان، فماذا نسمى الشعر؟ حين يأسر الحزن في شباكه؟ أنسميه فرحاً؟ حينئذٍ ماذا ستكون القصيدة فرحاً .. حزناً؟ ولا تبتعد قراءة القصيدة عن هذين الشعورين، ربما، في امتزاجهما مثلما يمتزج مضمون وشكله. الشاعر هو مسكن نقائض العالم وتزاحمها في روحه، لذلك يرافق الشعر الإدهاش في مفارقته ونقائضه ومفاجآته في ما يبدو عابراً، في حياتنا اليومية، لا يفصح عن شيء.

ــــــــــــــــ كيف صورت ورسمت صورة الوطن في نصك الشعري، أو في سلوكك الحياتي؟

ـــ لم يعد للوطن كما الحياة صورة واحدة، وإنما هومتغير يحمل صورة نقيضه: المنفى، إن لم يكن هو منفيّاً أيضاً. حين عدتُ إليه لم يكن هناك. كنت أتحسس ملامحه هنا وهناك دون أن أهتدي إليها ابداً بخريطة أو من دونها. فأستعيد ملامح غابرة وشخوصاً غابرة وأمكنة كأنني في متاهة، أدور فيها، بلا نهاية في زمانين الحاضر والماضي، دون أن يفضي أحدهما إلى ما هو آتٍ أبداً:

حين تكونُ الأحجارُ شواهدَ صامتةً
وقد غادر الجميع
عندئذٍ هل يمكنُ أنْ نتحدّثَ عن إنسانٍ أو وطنٍ؟
(مقطع من قصيدة)
*
سأمسكُ في يدي حجرين
من ماضٍ ومن مستقبلٍ ناءٍ
وأركضُ..
حين يلمسني الهواءُ أطيرُ
أدعو الريح أن تأتي إليّ
فلا أرى أثرا
سأجلسُ كاليتيم على الطريق
وأندبُ الحجرا

هذه القصيدة (الحجر) استوقفت مفكر عصرنا جون بيرجر ليكتب مقالاً من أعمق مقالاته عما يجري في عالمنا، في كتابه الأخير الذي صدر قبل رحيله السنة الماضية بعنوان: “مسامرات”.

ـــــــــــــ متى تكتب، ولماذا تكتب، ولمن تكتب. هل للكتابة جدوى؟

ـــ حين ترافقك الكتابة أكثر من نصف قرن أتصحّ مثل هذه الأسئلة؟ متى كان للشعر وقت؟ وإن كان له ذلك فأين مفاجأة الشعر ودهشته؟ وحين يتساءل الشاعر أو يُسأل أحيانا لماذا يكتب؟ فليس لأنه معنيّ بجواب ما، وإنما هي حالة أيضاً من حالات الشعر التي تمتدّ إلى ما هو أوسع من كلّ شيء: الوجود ذاته. أما السؤال: لمن تكتب فهو المفارقة ذاتها، لأن الشعر حتى في أشدّ حالاته تفرداً وخصوصية إنما يعبر عما هو مجموع إن كان شعراً حقيقياً. وعلى النقيض من ذلك فإن ما يعبر عن المجموع قد لا يعبر عن أي فرد فيه. لذلك تبدأ كل طرقات الشعر من ذات الشاعر، وقد احتوت السماء والأرض معاً، الخارج والداخل، الشعور واللاشعور، المفرد والجمع، لذلك لم تعد القصيدة غناءً صرفاً حتى وإن كانت هي كذلك في ظاهرها بل مسرح لكل نقائض العالم وتقاطعاته.

ــــــــــــــــــ هل قاربت الحب وماذا فعل بك الحب، الى أين اودى بك الحب؟

ـــ ومن من البشر من لم يقارب الحب؟ وهل ثمة شعر بلا حب؟ أليس الشعر هو الحب حين يجهر متخلياً عن صمته القاتل. حين أتذكر قصيدتي الأولى قصيدة الطفل أتذكر الحب أيضاً، بل أنني أتذكر الحب دون القصيدة، حتى الآن بتفاصيله وأحداثه وقد يحضر أحياناً في أحلامي متخفياً أو ظاهراً، أو بين بين غامضاً مكدّراً حتى بعد الحلم. ربما هو الذي أدى بي إلى الشعر أو العكس، ولكنهما بلا شك وراء كلّ هذا الحشد من القصائد والسنوات، وقد تداخلا فلا تدري من يؤدي منهما إلى الآخر.

ـــــــــــــ كيف وقعت بالحب، وهل وقعت أصلا بالحب؟

ـــ وهل ثمة بشر لم يقع في الحبّ؟ قد تتعدد العلاقات ولكنّ الحبّ شيء آخر. إنه التجربة الألصق بالإنسان، فإن كانت العلاقات عبوراً فالحبّ هو الأبقى، حتى لو انتهى بفراق أو موت، فهذان قد يكونان تأكيداً له على بقائه، حين يكون الفراق غير محتملٍ والموت فاجعاً، لذلك يرتبط الحبّ دوماً بما هو سرمديّ خالد في حياة الإنسان، وحتى تلاشيه لا يعني زواله فهو قد يستقر هناك بعيداً في أعمق أعماق الإنسان.
في الحبّ لا يقع الإنسان ولا يتسامى بل يوجد، عاشقاً ومعشوقاً في قلب العالم وفي مواجهته في آن واحد، مطمئناً وقلقاً في ترسيخ وجود الذات والآخر وامتدادهما معاً.
أحقّاً ثمة بشر لا ينتظر أحداً؟

ــــــــــــــــ ماذا قلت حتى الآن بقصيدتك، وهل ستقول بعد، وماذا يمكن ان تقول؟

ـــ كتبتُ مرّة مقطوعة نثر:
“الشعر ليس هو الواقع ولا الحلم حتى ولا الاثنين معاً. إنه العلامات الفارقة لكلّ هذه الأشياء.. العلامات التي تحتوي أشياءها وتفارقها في آن واحد.. العلامات التي تدخلها مسحوراً محتاراً تتلمس فيها أشياء ماضيك وحاضرك وربما مستقبلك أيضاً دون أن تهتدي إليها أيها الضال
أيها الشاعر
أيها الهائم
في وادٍ لا وجود له
وادٍ من كلمات”

مادام الواقع لا ينفد، والأحلام لا تنفد، فكيف يمكن لعلاماتهما أن تنفد، وهي التي تحتويهما وتفارقهما في آن واحد. كيف للعلامات أن تنفد وهي تحتوي على الماضي والحاضر، وما هو آتٍ، بل أن لها من القدرة ما يجعل تحولاتها أيضاً لا نفاد لها. ما اكتشفه الإنسان في الواقع والحلم ليس سوى نزر يسير مما يمكن أن يكتشفه مستقبلاً، لذلك سنظل نلحق بالشعر ولا نصل إليه، كمن يتبع سراباً أبدياً من أجل كأس ماء.
أنا لا أقول. قصيدتي هي التي تقول. أنا استمع إليها مثل أي قارئ آخر. لقد ضلّ سؤالك طريقه إليّ. كان عليه أن يذهب هناك إلى القصيدة ليسألها. ولعلّه سيبحث عنها طويلا في وادي الكلمات.. هذا الوادي المسكون بأشباح الشعراء وقصائدهم.

ــــــــــــــ ماذا عن نتاجك الشعري، وتجربتك مع القصيدة المحدثة؟

ـــ أنا حتى الآن أصدرت ما يقرب أكثر من خمسين كتاباً بين دواوين شعر وترجمة وكتابات عن الشعر ومسرح شعريّ ولا يزال المسرح قائما لتجارب أخرى، ربما، ولعلّ مسرحي هو الواقع، واقعي أنا، أتفرج منه على النظارة، مثلما قد يكون مسرحهم هو الواقع يتفرجون منه عليّ. وهذه اللعبة لا تنتهي ما دام هناك نظارة، وممثلون، ولا فرق إن كانوا جمعاً أو مفرداً. فللممثل الفرد،ربما، من التجربة ما يجعله جمعاً أحياناً.
أما بالنسبة إلى القصيدة المحدثة فأنا لا أشغل نفسي بكتابتها أبداً. ما يشغلني هو كتابة القصيدة.. القصيدة حقّاً، حديثة أو غير حديثة. من أين لي معرفة ذلك؟ وكيف لا تكون القصيدة الجيدة غير حديثة. لو أنني كتبت قصيدة جيدة مستعيراً شكلاً قديماً مثل: الهايكو، الموال، السوناتة، الرباعية، أفلا أكون حديثاً في قصيدتي؟ وكيف يكون الشاعر حديثاً من دون أن تكون قصيدته حديثة أيضاً؟
كلّ قصيدة جيدة هي محدثة في أيّ هيئة كانت. وما الأشكال الممنوحة للشاعر، قديمةً أو محدثةً، أو ما يبتدعه الشاعر نفسه إلا مسرح بهيج، يتنقل فيه الشاعر في فضاء واحد هو فضاء الحاضر المفتوح على الأزمنة والأمكنة المختلفة، أي أن الشاعر لا يتنقّل بين أشكاله عبر مراحل وأزمنة شتى لتؤرخ تطوراً ما. إننا هنا إزاء تجربة الشعر ذاتها بحضورها وليس بمراحلها. أو بعبارة أخرى إزاء الأدب وليس تاريخه.

One Response to الشاعر العراقي عبد الكريم كاصد يستمع إلى قصيدته مثل أي قاريء: “لا أريد أن أعرّف الشّعر … أريده أن يُعرّفني”

  1. الاعلامي الشاعر محمد درويش رد

    5 يونيو, 2021 at 1:07 م

    لا شك ان الشاعر العراقي عبد الكريم كاصد من الاصوات الشعرية التي اسست لنقلة نوعية في عالم الحداثة وفي جسم القصيدة العراقية الحديثة بكل تلاوينها وقيمها الفنية والابداعية
    وان الحوار معه الذي اجراه الشاعر المعروف الأستاذ اسماعيل فقيه انما يؤكد ان هذاالشاعر كتب الكثير ونسج من خياله وواقعه ما يرسم صورته كشاعر مستقر في الخارج بعيدا عن الوطن لكنه يقيم في جغرافيا الشعر والكتابة الجديدة
    لا شك انه مثقف كبير وناقد ومتابع لكل التغيرات في عالم الشعر وفنون الكتابة في اللغة العربية كما انه مطلع على الكتابات الاجنبيةوخاصة الشعر
    اتمنى ان يحصل هذا الشاعر على حقه في الترجمة والاضاءة عليه اكثر واكثر
    واشكر الشاعر الجميل اسماعيل فقيه على هذا الحوار المفيد معه فقد تعرفنا اكثر واكثر على عالمه الجميل وافكاره الذهبية التي تسطع بالشعر والثقافة والفنون الواسعة ..

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات