حبَّةُ المُشْمُشِ (قصة قصيرة، بقلم: د. إيمان بقاعي)

05:57 صباحًا السبت 17 يوليو 2021
د. إيمان بقاعي

د. إيمان بقاعي

روائية لبنانية، أستاذة جامعية متخصصة في الأدب العربي وأدب الأطفال والناشئة، وعضو اتحاد الكتاب اللبنانيين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

على صحن الدَّرج الحديدي الأحمر الذي تظلله أشجار كثيفة معمرةٌ، ويصل حديقة البيت العلوي بحديقة السُّفلي؛ همست القطة الأم وقد لمس بطنها المليء بقططٍ على وشك الولادة في أذن ابنِها (حبَّةِ المُشْمُشِ) الذي لم يتجاوز عمره ثلاثة أشهر:

  • صحن الدّرج هذا موقعٌ استراتيجيٌّ مهمٌّ؛ فمنه  يمكنك مراقبة باب مطبخ البيت السّفلي كما باب المطبخ العلوي. والمطبخ السُّفلي لا طعام فيه قبل أن يستيقظ مذيع الأخبار اللّيلية في حوالي السَّادسة  ليعدَّ طعامًا سريعًا غالبًا ما يكون من اللُّحوم السَّريعة التّحضير استعدادًا للذَّهاب إلى عمله. أما العلويُّ، فثمة أطفال وعائلة؛ يعني: تستيقظ ربة الأسرة مع الفجر لتعد أطايب الطَّعام.

وإذ هز (حبَّةُ المُشْمُشِ) الصَّغيرُ رأسَه دليل فهمٍ، استدركَت محاولةً أن تكونَ نصائحُها أكثر واقعيةً:

  • على أن أطايب طعام البشرِ تختلف عن أطايب طعامِنا نحن القطط، ففيه من الأرز والبرغل والخضار ما لا يستهوينا كما تستهوينا اللُّحوم. ولكن، لا بأسَ أحيانًا من قبول ما هو موجود ريثما يأتي الأفضلُ.

وتمددت على تراب شجرة التّوت الرَّطبِ الذي أشبِعَ ماءً اللَّيلة السَّابقة، ونادت صغيرَها، فلبى النِّداء وتمدد قربها.

لحست رأسه الصَّغير، ثم همسَت:

  • قد أغيبُ أيامًا، لكنَّك تعرف مكاني، فأنا وإخوتُك الصّغارُ الذين ستتفتح عيونهم على الحياةِ اليوم أو غدًا على مرمى حجرٍ من هنا؛ أي في حديقة القصر الأبيضِ المجاور، حيث الهر الأسود الكبير الرأس، والهرة الوقحة المرقَّطة التي لا تكف عن المواء، وحيث جدّنا الأكبرُ المُشمُشيُّ الذي تشبهه لونًا وجمالًا وهيبةً، وحيث قفصُ السَّلاحفِ.

وعادت فلحسَت رأسه الصَّغير مغدقةً عليه كثيرًا من حنان المحِبّ الذي قررَ الفِراقَ دائمًا كانَ أو مؤقتًا:

  • على أنه، يا حبيبي، عليك أن تتذكر أنهم- فوق وتحت، وفي أصغر الحدائق وأكبرها- يستقبلوننا لأننا هررة برّية، قوية، قادرة على اصطيادِ أصغرِ الحشرات وصولًا إلى القوارضِ، إن لم أقل إلى شِرارِ الحيَّاتِ، تلك الرّقشاء الدّقيقة الأعناق، القاتلة السُّمِّ.

وقلقَ الصّغيرُ وانتابتْهُ رعشةٌ وقتَ ذكرَتِ الأمُّ النّوعَ الأخيرَ من الصّيدِ، فطمأنته:

  • طبعًا ما زلتَ صغيرًا على صيد الرّقشاءِ، ولكنك لست صغيرًا على صيد سِحليَّةٍ من هنا ودودةٍ من هناك، وصُرصورٍ من هنالك، كي يعرف سكان البيتين أهميتَكَ، فلا تتعرضَ لاستخفافٍ أو إهانةٍ أو طردٍ.

وابتسم الصّغير مستعيدًا بعضَ معنوياتِهِ، وإن حاولَ أن يدلي بوجهة نظره التي فهمتها أمُّه قبل أن يقولها، فابتسمَتْ بحنان:

  • أعرف أنَّك تحب عرائس الجبن واللَّبن واللُّحوم المطبوخة، ويسيلُ لعابُكَ أمام طعامِ القططِ الجاهز الذي يخُصُّك  المذيعُ به أحيانًا، وأعرف أن أهمية طعامِهِم تكمن في كونه لا يحتاج إلى انتظارٍ وقفزٍ وعِضٍّ وإنشابِ مخالبَ، ولكننا- معشرَ الهررةِ- نحبُّ الصّيدَ ونعتبرُه رياضةً جسديةً وروحيةً.

وابتسم بفخرٍ وهو يفكر بصيدٍ يجلِبه قريبًا لأحد أفرادِ سكان البيتينِ، ففرحت لالتقاطه الفكرة، وقبَّلته هامسةً بآخر نصيحةٍ من نصائحِ ما قبل الولادة:

  • وعلى كل حالٍ، يا حبيبي يا (حبَّةَ المُشْمُشِ)، ولكي لا يستخفّوا يومًا بقدراتِكَ؛ لا تقترب من أحدِهم كما الهررةُ الأليفةُ، بل انظرْ إليهم دائمًا- حتى لو نادوك ليقدموا لك طعامًا شهيًّا- نظرة فيها كثير من الغضبِ والشَّكّ والرَّيْب، وذكّرهم بأنك هرّ برّي شرسٌ بكلمتين اثنتين لا ثالثَ لهما: مياوْ، بخْ!

[الدامور: 16\7\2021]

One Response to حبَّةُ المُشْمُشِ (قصة قصيرة، بقلم: د. إيمان بقاعي)

  1. د. إيمان بقاعي رد

    17 يوليو, 2021 at 12:26 م

    نصائح الأمهات: وعلى كل حالٍ، يا حبيبي يا (حبَّةَ المُشْمُشِ)، ولكي لا يستخفّوا يومًا بقدراتِكَ؛ لا تقترب من أحدِهم كما الهررةُ الأليفةُ، بل انظرْ إليهم دائمًا- حتى لو نادوك ليقدموا لك طعامًا شهيًّا- نظرة فيها كثير من الغضبِ والشَّكّ والرَّيْب، وذكّرهم بأنك هرّ برّي شرسٌ بكلمتين اثنتين لا ثالثَ لهما: مياوْ، بخْ!

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات