زيزي هانم: سرد بروح المسافر والمؤرخ

12:43 مساءً الثلاثاء 19 أكتوبر 2021
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

تمثل تجربة السفر إلى دول الخليج العربية صندوق كنوز سردية لمن أراد أن يقرأها في سياق الدراسة، خاصة في علم الاجتماع، وهو ما تعرفنا إليه في كثير من الأدبيات الأكاديمية، مما يجعل من تلك الدراسات قراءات في دوائر مغلقة، فهي تمارس ضمن إطار الدرس الجامعي ولا تخرج عنه، بقصد أو عن غير قصد، لتظل التجربة مغلفة بأسرار لا يفضها أحد، مما يجعل تقبل ما يحدث في تلك المنطقة يدهش الكثيرين، ويفاجيء الآخرين، ويعجز عن فهمه سواهم. إذ أن ذلك الدرس الاجتماعي لم يعرف طريقه لنور أكبر، وكشف أكثر، مما يجعله رأيا هامسًا، لا يؤثر ولا يغير.

د. طارق منصور

لذلك كانت هذه التجربة – السفر إلى تلك الدول الجارة – مفتاح سرديات روائية نادرة، إما خشية من انقطاع الرزق، أواغضاب الكفيل، أو التنكيل بشكل أو بآخر. فكثر سفر الروائيين، وقل بالمقابل تناولهم لهذه الرحلة، إلا في استثناءات معدودة. ومن هنا كانت سعادتي الأولى وأنا أقرأ عن هذا العالم الثري – الحياة في دول الخليج العربية – من خلال النوفيلات الثلاثة للكاتب الدكتور طارق منصور.

أما سعادتي الثانية فهي أني وجدت رفيقا في تلك الرحلة، التي تقرأ سيرة المسافرين للعمل أو الحياة في هذه الدول الصديقة، التي اختلطت دماء الأسر في الجانبين بالمصاهرة، مثلما توادت بالعمل والمؤانسة. فقد كرست أعمالي الروائية لهذا العالم، الذي يحتاج جرأة في التناول لخلق عالم روائي لا يقل إثارة عن العالم الواقعي.

لكن السعادة الثالثة، والأهم، هي أن ذلك التناول يأتي بقلم مؤرخ، لا ينسى دوره في الحياة، ومصري لا يهمل روح الدعابة لديه، وبليغ لا تفوته التعبيرات التي تطوع فصحى العامية وعامية الفصحى، ليكون السرد خالصا للقص والرسم بالكلمات.

غير هذه السعادات علي أن أشير، وبوضوح، إلى ذلك الحس السينمائي في الكتابة السردية، الذي تستطيع معه كقاريء أن ترسم مشاهد الروايات القصيرة وشخوصها،وأن تعيش معهم في ذلك الزمن الروائي، وتستدعي أمثالهم في الحياة والواقع. وليس ذلك إلا لأن المؤلف ليس غريبا عن العوالم التي اختار تصويرها، فبرع في استدعائها حية.

في النوفيلا الأولى (شقة المعادي) سنرى نموذجا لتلك الصداقة النادرة بين الراوي وكفيله، وهي الصداقة التي نتتبعها بصحبة رفيقين، قد لا تجد رابطا بين الثلاثة سوى الصداقة، لكن علينا أن نعرف قيمة هذه الصداقة التي تتأكد موقفا بعد آخر، بين الموظف البسيط الذي يعتبر أن أسعد لحظات حياته هي حين يتناول الطعام بشراهة، مطلقا عبارته التهكمية (كُل حتى أعرفك!)، وتلك فلسفة تتجاوز (تكلم حتى أراك)! في رفقة الراوي وبطلنا الشره سنتعرف على الصديق الثالث الذي يؤمن بمبدأ (اضحك كركر واوع تفكر)، وفي مقابل مبدأين يتبناهما الصديقان، فتحي الأكول، واسماعيل الضحوك، يتبنى الراوي (وفي ربك واطعم قلبك؛ واصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب)، ودون أن أن أفسد القصة، فقد  أنفق الراوي جل ما يملك من مدخرات سفره للعمل على كفيله لينقذه من الموت، فكان أن كافأه الأخير بأن كتب له شقة المعادي التي كان يملكها في مصر، وشهدت أمسيات استضاف فيها أبو مشعل – الكفيل السعودي – راوينا وصديقيه.

النوفيلا الثانية  (زيزي هانم) تأخذنا إلى سنوات ما بعد النكسة في مصر، تحكي عن الظروف الاجتماعية الشاقة، وتقدم في الوقت نفسه لابنة ذوات هي الأرملة (زيزي هانم) وابنتها. قدم لنا الكاتب حياة الأم وابنتها المرفهتين بشكل موسع، والمثير أنه قدم لنا بطلة لم نكن نتوقعها، إذ أنه استدعى السيدة سوزان زوجة عميد  الأدب العربي طه حسين لتكون زائرة الصالون الذي تقيمه زيزي هانم، وكيف يسر ذلك لابنتها أن تدرس في السوربون بتوصية من الشخصية المرموقة، ثم يكاد القاريء يشعر أن النوفيلا مثل نهر يمضي بخدر من الرغد، لتفاجئه الأحداث. فالشاب الذي جاء بصحبة السيدة سوزان، وكان زائرا للعميد فعرف عن صالون زيزي هانم وملكيتها للشركة الشهيرة، فجاء معها، وقد رأت زيزي هانم أن تعطيه ثقتها، ربما يكون عضدا لها وابنتها، لكن مثلما كانت نكسة 1967 بسبب تولي أهل الثقة لا الخبرة، حدثت نكسات عاطفية، ولم يستطع الشاب أن يصعد لأخلاق زيزي هانم وابنتها – التي أحبته – فأساء إليهما، وإلى الشركة، فكان عقاب زيزي صارما، وصادما، وبدأت حرب استنزاف ضد ذلك الخائن للعيش والملح والقلب، لتطرده في نهاية الأمر، وتنفيه من حياتها وحياة ابنتها.

في النوفيلا الثالثة (والله ما كان قصدي) نذهب إلى السينما  الحقيقية، فقد بنى المؤلف روايته القصيرة على حادثة زواج لم  يتم لأن الأسرة تكتشف بالعلم وبعد تحليل DNA لكل مقبلين على الزواج أن العريس شقيق العروس، وكان على الكاتب أن يملأ ذلك الفراغ البعيد عن المنطقى بأحداث علمية واجتماعية منطقية. إنها الأقرب لأن تكون نوفيلا معدة للسينما، يؤدي فيها العلم، والطب، والعادات المجتمعية، وكذلك السفر – مرة أخرى _ إلى السعودية دورا البطولة.

لن تخلو الروايات الثلاثة من الروح المصرية المرحة، التي تهون أقسى المواقف، وتستقطر الحكمة من أهوالها.

الروايات القصيرة التي جاءت بين غلافين بعنوان النوفيلا الثانية (زيزي هانم) صدرت عن دار لوتس للنشر والتوزيع  بالقاهرة 2021، في 200 صفحة، بغلاف للرسالة كليا بدرو (1913 – 1968) ويمثل بورتريها أنثويا بالألوان الزيتية باسم جان أنجليتشيف، مقاس 100X75 سم (مجموعة كاريل إنيمي).

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات