الكاتبة اللبنانية (روز غريب) وحرية المرأة في قصة (الموت أحبُّ إليَّ)

10:25 مساءً الخميس 7 أبريل 2022
د. إيمان بقاعي

د. إيمان بقاعي

روائية لبنانية، أستاذة جامعية متخصصة في الأدب العربي وأدب الأطفال والناشئة، وعضو اتحاد الكتاب اللبنانيين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

خلاصة القصة:

روز غريب

خطفَ  الصّعلوك (عُرْوةُ بنُ الوردِ) (سلمى بنت النَّضْر بن الحارس الكِناني) التي لطالما أُعجِبَ بها، فأخذها “سَبِيَّةً” إلى قومِهِ وتزوجَها وأنجبَ منها “مليونَ” ولدٍ.

وبعد سنوات طويلة، أراد “عُرْوَة” الحجَّ إلى الكَعبة- كعادة العرب الجاهليين- فطلبَت منه سلمى أن يصحبَها معه لزيارة أهلها، على أن تعود معه بعد قضاء رحلته. وهناك طلبت من والدها أن يخلِّصها من عار (السَّبْيِ) الذي لم يفارقْها لحظة، بأن يطلقَها (عُرْوَة) ويعود فيطلب يدها.

ولما نزل الأب والزَّوج عند رغبتها، رفضت (سلمى) العودة إلى عُرْوَة، وتزوجَتِ ابن عم لها.

(الموت أحبُّ إليَّ)

(روز غريِّب)

[تدقيق القصة وضبطها: د. إيمان بقاعي]

في يوم ربيعيِّ صفَتْ سماؤه، واكتسَت أرض الباديةِ ببساط من العُشب، كان فارس من فرسان العرب يقطع “وادي الرّقّة[1]” راجعًا من “مَكَّةَ” في “الحِجازِ” إلى ديارِ “نَجْد” حيث استقرَّ أبناء قبيلته: قبيلة “غطفان[2]” العدنانيَّة.

كان الفارسُ متلثِّمًا، لا يبدو من وجهه إلا عيناهُ. يسير منفردًا، لا يساوره خوفٌ؛ لأنه مدجَّجٌ بالسّلاح من رأسهِ إلى قدميهِ، مستعدٌّ لمصادمةِ مَن يحاول الاعتداء عليه، ولنجدةِ مَن يحتاج إليه.

وفيما هو يترك الوادي ليتَّجِهَ شمالًا نحو الجبالِ، سمع صياحًا يخرج من حَيٍّ منفردٍ قد انتشرَتْ مضاربُهُ وخيامُهُ في الأَرْض المنبسطةِ المُحاذيةِ لطريقهِ.

كان هذا الحيُّ لجماعة من الأعْرابِ غاب عنهم الرِّجَال طلَبًا للمراعي، فانتهزَ الفرصةَ نفَرٌ من المجرمين الفُتّاكِ المتشردين، وأَغاروا على الحي طمعًا في نهب الأمتعة وسبْيِ النّساء.

 فجأةً، أَتى الفارسُ إلى مكانِ المعركةِ، فرآه خاليًا إلا من النِّساء والأولادِ، وقد علا صراخ هؤلاءِ في حين تقدمتهم فتاةٌ في مقتبل العمر في يدها رمْح تضرِب به يمينًا ويسارًا محاولةً صدَّ المعتدين أو إرهابهم.

 صاح الفارس بالغُزاةِ:

-مكانَكم! لا تمسّوا أَهلَ الحيِّ بسوء؛ وإلا فجزاؤكم عندي.

ثم كشف اللِّثام عن وجهِه، فعرفوه. وتهامسَ الغزاة:

-عُروة! عُروة بن الوردِ[3]، حامي الصَّعَاليك[4] المتشردين أمثالنا.

 وقال زعيمهم:

-تراجعوا، ولنُطِع أمرَ “عُروة”؛ فهو أبو الصَّعَاليك المتشردين، وليس لنا نصير سواه.  

أطاع الرِّجَال إشارة زعيمهم، فأطلقوا النّساء السَّبايا، وتخلوا عن معظم الأسْلاب التي أصابوها، وانسحبوا تاركين وراءهم “عُرْوَة” واقفًا كالحصن المنيعِ ويدُه على مِقْبَض سيفه.

 تجمهر حوله أهلُ الحيِّ، ووضعوا أمامه الهدايا أكداسًا، وكلهم ألسِنَةٌ تنطِق بشكره والثّناء عليه. لكن “عُروة” أبعدهم بإشارة وقد لاح في وجهه العُبوسُ بعد الإشراقِ؛ فقال:

-أليس هذا منزل “النَّضْر بن الحارس الكِناني”؟

-بلى!

 أجابت الفتاة التي بيدها الرُّمْح، وتابعَت:  

-والنَّضْر أبي.

-أنتِ ابنته (سلمى) التي ذاع صيتُ حُسنِها وشجاعتِها بين القبائلِ؟ وقد خطبتُك من أبيك فردَّني، زاعمًا أنني دونَكم مقامًا لأنني أحمي الصَّعَاليك، مدّعيًا أنني مثلهم: أحترف الفَتْك (والفُتْكَ والفِتْكَ)[5] واللُّصوصية!

قالت الفتاة:

-لئن أخطأ أبي؛ فالصَّفح من شِيَم الكرامِ. وقد أسديْتَ إلينا معروفًا لا يمكن أن ننساه.

-لقد ساقتني الأقدارُ إلى الحي الّذي لقيت من أهله الظُّلْمَ والامتهانَ، وصار من حقي الثَّأرُ والانتقامُ.

 فاسودَّ وجه الفتاة وقالت:

-كيف يكون ذلك؟

-سآخذك برَغمِكِ ورَغْم أبيك، فأنت سبيَّتي[6] وأسيرتي بحُكم الغَلَبة التي أحرزتها، وليس لأحد أن ينتزعك من يدي.

-أنقذتَنا من بليَّة لتوقعنا في غيرها! لعل أبي لم يخطئ حين نسبك إلى الصَّعَاليك!

 لكن “عُروة” لم يُعِرْ قولها اهتمامًا، بل اختطفَ منها الرُّمْح وجرّد حسامه قائلًا:

-سأضرِب عنق مَن يحاول إنقاذَك من يدي!

 حاولت الفتاة الدِّفاع بلسانها لمَّا حيلَ بينها وبين السّلاح؛ فقالت:  

-خذ ما شئت من الأسْلاب، فهي حلال لك، ولكن لا يحق لك اختطافُ امرأة بالقوة.

 قال عُرْوة:  

-لي في أخذكِ غايةٌ مزدوجةٌ: أريد استردادَ كرامتي من أبيك الّذي حقَّرني حين رفض مصاهرتي، وأريد أن تكوني أنت جزائي على ما صنعْتُه إليكم من جميل.

ولم ينتظر جوابها، بل قبض عليها بيد من حديد، وأردفَها على جواده، فسار بهما الجواد ينهب الأَرْض نهبًا حتى بلغ ديار “عُرْوة” في أعالي “نجد”.

ولما أصبحت الفتاة في حوزته، أحبَّها وحرّرها وتزوجها، وولدت له أولادًا، وعاشت عنده عزيزة مكرمةً، يبذُل لها العطاء، ويحاول استمالتها علَّها تحبه وتنسى أسرَهُ لها.

وخيِّل إليه أن المرأة استكانت ورضيت وضربت صَفْحًا عما مضى. لكن…حدث يومًا أن “عُروة” أراد الحجَّ إلى الكَعبة- كعادة العرب الجاهليين- فطلبَت منه سلمى أن يصحبَها معه إلى الحج. فسألها:

لماذا تريدين الحج؟

-إنَّ أهلي يقيمون قريبًا من “مَكَّة” على طريق الحج، وبي شوق إلى زيارتهم والإقامة عندهم برهةً من الزَّمَن.

وذهبت معه، ومرَّت بقومها، فمكثت عندهم أيامًا كانت فيها موضع حفاوة وتكريم. وسألتهم لماذا تغافلوا عن زيارتها وأغضَوا عن العدوان الّذي لحق بها وبهم؛ فقالت الأم:

-إن االرَّجل أحسن إلينا (رُغم) إساءتِنا إليه، ولأننا وجدنا فيه زوجًا كريمًا يخلص لك ويحرِص على إسعادك.

 ثارت المرأة غضبًا وصاحت:

-أهذا يرفع عني عار السَّبْيِ ويمحو شعوري بالغربة و(الضَّعةِ، الضِّعة) بين قوم يحسبونني أمَةً وجارية ولا يساوونني بأنفسهم؟

-ولكنه حرَّركِ فصرت عنده أعزَّ النّساء!

فأجابت سلمى:

-الجرح يبرأ ولكن يبقى أثرُه، والدَّاء يخفى ولكن لا يزول خطره. لقد أخفيت ألمي كالنَّار تحت الرّماد.

قال الأب:

-اطلبي ما تشائين، يُسْتجَبْ طلبك!

 قالت سلمى:

-أريد أن تفتدوني منه، وأن تستعيدوني إليكم فيتزوجَني عن غير طريق السّبي.

 فأذعنوا لرأيها، ودعوا الزَّوج إلى وليمة سقوه فيها الشّراب، وأعادوا عليه حديث سلمى، فرضي بردِّها مقابل فِدية، وأضافَ:

-إذا رجَعَت إليكم أود أن تخيروها بين العودة إليَّ والبقاء عند أهلها.

       قال هذا وهو واثق بعودتها إليه لتقيم بين أولادها وتلقى من “عُروة” ما كان يوفرها لها من هناء وطيب عيش.

وما لبث حتى برَّ بوعده، فأعاد المرأة إلى قومها مقابل فِدية، وجاءهم في اليوم التَّالي يقول:

 -الآن أريد ان أتزوجها برضاها، لأنها تتمتع بكامل حريتها. وقد أصابني النَّدَم لأنني- في المرة السَّابقة- أرغمتها على الزَّواج بي.

ولما سألوها إنْ كانت ترضى بالعودة إليه، أجابت:

واللهِ إن الموتَ أحب إلي من الرُّجوع إلى مَن أَذلني وتزوجني قسْرًا! إن مثلي كمثل الحيَّة التي قطع العدوُّ ذنَبَها ثم استغفرها واسترضاها، فهي ما فتِئَت تذكر تلك الضَّربة.

 وأصرت على موقفها منه، ثم رضيت بأن تتزوج واحدًا من أقربائها. وعاد “عُروة” إلى قومِهِ خائبًا.

[روز غريّب]


[1] الرَّقَّة: مدينة سورية.

[2] نشأت في الجزيرة العربية ثم استقرت في (الحجاز) في [العصر الجاهلي] وكونت بطونًا وعشائر وعُرفت بأسماء عشائرِها، لا بأسماء بطونها. وفي العصر العباسي نزحَت من (الحجاز) إلى وسط ا(لعراق) وجنوبه، ولم يبق منها أحدُ في الحجاز لقلة الموارد المائية وكثرة أعدادهم وازدياد عشائرهم وتوسعها .

[3]عروة بن الورد بن زيد العبسي (توفي 30 ق.هـ/594 م)، شاعر من غطفان من شعراء (الجاهلية) وفارس من فرسانها وصعلوك من صعاليكها المعدودين المقدمين الأجواد. كان يسرق ليطعم الفقراء ويحسن إليهم. وكان يلقب عروة الصَّعاليك لجمعه إياهم وقيامه بأمرهم إذا أخفقوا في غزواتهم ولم يكن لهم معاش ولا مغزى، وقيل: بل لقب عروة الصَّعاليك لقوله: لحى الله صَعْلُوكاً إذَا جَنَّ ليلُهُ\مصافي المشاش آلفاً كل مجزرِ\يَعُدُّ الغِنى مِن نَفسِهِ كُلَّ لَيلَةٍ\أَصابَ قِراها مِن صَديقٍ مُيَسَّرِ\يَنامُ عِشاءً ثُمَّ يُصبِحُ

ناعِسًا\يَحُتُّ الحَصى عَن جَنبِهِ المُتَعَفِّر..

[4]الصَّعاليك: اسم جمع، ومفرده صُعْلُوك، يُطلق على جماعة من العرب في عصر ما قبل الإسلام، عاشوا وأطلقوا حركتهم في (الجزيرة العربية)؛ وينتمون لقبائل مختلفة، عُرفوا بعدم انتمائهم لسلطة قبائلهم وواجباتها، حيث انشقوا عنها أو طُردوا منها. ومعظم أفراد هذه الجماعة من الشّعراء المجيدين وقصائدهم تعدّ من عيون الشعر العربي. وقد حدد الدكتور شوقي ضيف في كتابه (العصر الجاهلي) معنى الصُّعلوك لغةً، بأنه الفقير الذي لايملك المال الذي يساعده على العيش وتحمل أعباء الحياة، مؤكداً أن هذه اللفظة تجاوزت دلالاتها اللغوية وأخذت معاني أخرى كقطاع الطرق الذين يقومون بعمليات السلب والنهب.

[5] – ركوبُ ما همَّ من الأمور ودَعَتْ إليه النّفسُ، أو القتْلُ والجَرحُ على حين غَفْلَةٍ، أو القتْلُ والجَرحُ مُجاهرَةً، أو المُجونُ.

[6] – السَّبِيَّة: المرأَةُ تُسبى، والجمع: سبايا. والسَّبْيُ: المأسورُ، وصْفٌ بالمصدرِ.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات