كلّ ما فعله طارق هاشم ودوستويفسكي

12:17 مساءً الأربعاء 15 يونيو 2022
أشرف أبو اليزيد

أشرف أبو اليزيد

رئيس جمعية الصحفيين الآسيويين

  • Facebook
  • Twitter
  • Rss
  • Mail
  • Print

يورطنا الشاعر طارق هاشم معه حين يستهل ديوانه بقصيدة (أبي):

منذ ثلاثين عامًا

ألقيت أبي من النافذة

خرج مع الرياح

والهواء والرمل

خرج هكذا بخفة ملاك

صورته التي أربكت أمي لسنوات طوال

ما زالت تعدو

ما بين الصالة والمطبخ

أمي

التي لم تنم

منذ ثلاثين عامًا

أدركت خطيئتها

حين أخبروها أن أبي

لم يترك امرأة ولا رجلا

إلا وحكى لهما

عن المرأة الطيبة

التي كان يخونها كل مساء

وأنا أحمل جثته لألقي بها

خارج رأسي

اعترضت سيدة في آخر الممر

المؤدي إلى بيتنا الصغير

في حي الأزهار

البيت الذي قام

على دمعة من دموع أبي

لم يعد يسكنه سوى الأشباح

التي تركها تنعي ذكرى نذالته

أبي مات

حين بكت نادية سالم

دون مراعاة لجيرانها

الذين جفت دموعهم

من أثر الحرب

الدموع التي فرت وراء رجالهم

دون أن تعود

في هذه اللحظة فقط

مات أبي لا ريب

الأخبار التي حملتها جرائد الصباح

صحيحة مئة بالمئة

صورته أسفل الخبر

تخبر كل الذين تعلقوا بها

أنها الآن

بلا إطار يحفظهم

بل يحفظه هو

اليوم فقط مات

وجدوه ساكنا وحزينًا

دون روح

يا لها من ورطة، فعلينا أن نتبنى موقفا من الشاعر والشعر معًا، وعلينا أن نكتشف إذا كانت تلك القصيدة مرثية ذاتية، أم أنها بكاء جمعي على أطلال عصرية؟ هذه الأطلال ليست البيوت التي درست، بل الأرواح التي صارت أشباحا، والعلاقات التي لوثتها الخيانة. هل الأب هو الخائن؟ هل يستحق أن يُلقى به من النافذة؟ هل نقرأ نعيا أم نتابع شريطا مصورا لرحلة الانتقام؟

وفي اعتقادي أن الديوان يمثل مسرحا لشخصيات تعبر أمامنا. لنتأمل سيرتها التي تشبه سيرتنا جميعا. نحن الذين نسخر من خيباتنا، ونخبيء دموعنا بابتسامة حزينة. ندعي البطولة ولكننا منكسرون في داخلنا.

كما أنه، كما الكثير من الشعر الحقيقي، يصنع رموزه، واسقاطاته، وعلينا أن نتساءل عما إذا كان الأب والأم في القصيدة هما ذاتهما البيولوجيان، أم أنها السطوة الذكورية المخادعة في مقابل الضحية، أو أم الضحايا؟

البحث في المعاني وما وراءها، لن ينسينا جماليات لغة تستمد قوتها من بساطتها المجردة، وتقدم إيقاعها البصري لصورها الشعري عوضا عن الإيقاع الموسيقي لجرس المفردات، نحن أمام أفكار شاعرة، لحياة شاعر، أو لنقل لحياة الشعراء جميعا.

يقدم طارق هاشم بطريقته فنا جديدا في الاستدراج، إنه يبدأ بنقطة، ثم يوسع المشهد مثل كاميرا تبتعد، ليملأ الفراغات بتفاصيل ومنمنمات، تكون القصة، شعرا، وهكذا يستدرجنا لنكون معه، لنرى ما يراه، ونشعر بما يشعر به، ومن ثم نؤمّن على فرضياته:

الهاربون إلى محبة منتهية الصلاحية

يخرجون الآن بحثًا عن قبورهم

في غابات أسلمتها المعارك

مفاتيح الفقد بشكل حصري

ليت المقاهي تعرف عاشقيها

لاستبدت بهم

دون الغياب المر

هكذا صورة إثر صورة، كما كادرات الأفلام، لنخرج من مقهى بملحمة مصورة، تكاد توجز سيرة المسافرين والمقيمين، ومسار الحاضرين والغائبين.

خيبات كبيرة، تبدأ بمصائب صغيرة، إنه الكون في قصيدة:

يقولون أنني

كنت سببًا  رئيسيا

في قطع عيش

مسحراتي قريتنا العجوز

حين فقأت عين طبلته

بإبرة صغيرة

إبرة صغيرة

أجلست رب العائلة بالمنزل

أصبح يحمل لقب عاطل بامتياز

القرية بكاملها ألتفت حولي

تطلب القصاص له

لم أَرَ الحب من يومها

لعلي أبحث عن علاقة العنوان الذي يحيل إلى لروائي الروسي فيودور دوستويفيسكي، فلا أجد أقرب من أن تكون قصائد الديوان عزفا على لحن (الجريمة والعقاب). تأملوا معي: خرقت إبرة طبلة المسحراتي، فكان القصاص ألا يرى الفاعل الحب أبدا، أليس ما فعل جريمة، وما جرى له عقابا؟ الأب الذي خان الأم مع نساء أخريات، أليست تلك جريمة، كان عقابها الموت؟ ألم يكن عقاب الراحلين في المثهى إلى بحار غاب ملاحوها اليوم أن أسكنتهم الأيام ديارا ليست لهم؟ المدينة التي خلفتنا حطاما جاهرت بجريمتها أمام الله، وفي ديوانه كان كل ما فعله طارق هاشم ودويستوفسكي أن قدما لنا شعرا الجرائم والعقابات.

اترك رد

كوريا الشمالية: الأسرة والزواج وأشياء أخرى!

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

آندريه نيكولايفيتش لانكوف Andrei Nikolaevich Lankov

كاتب روسي حاصل على درجة الدكتوراه في التاريخ من جامعة الدولة في ليننجراد ، درس في جامعة كيم إل ـ سونج، أستاذ في الجامعة الأسترالية الوطنية وجامعة كوكمين.

أحدث التغريدات